جريدة الرؤية العمانية:
2025-08-16@15:43:17 GMT

60% من الحياة.. هل تكفي؟

تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT

60% من الحياة.. هل تكفي؟

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

مع مطلع عام 2024، دخل نظام الحماية الاجتماعية الجديد حيّز التنفيذ، موحِّدًا 11 نظامًا تقاعديًّا سابقًا. ورغم ما يحمله هذا التحول من توجهاتٍ نحو العدالة والتكافل، فقد أثار تساؤلات إنسانية، لا سيما بشأن استحقاق الأرملة لمعاش زوجها المتوفى، خاصةً عند غياب أولاد مُستحقين.

تمضي الأرملة إلى صباحٍ جديد، بلا شريك، وبلا صوتٍ يُخبرها أن الحياة ما زالت بخير.

لكن الفَقْد لا يتوقف عند العاطفة؛ بل يمتد إلى ما هو أعمق: استقرارٌ تبخّر، ومستوى معيشي انهار فجأة، بعد أن كان كفّ زوجها وحده يُعيل الأسرة ويحفظ كرامتها.

لسنواتٍ طويلة، عاشا على دخلٍ واحد، رتّبا تفاصيل الحياة، وخطّطا للغد بثقة. واليوم، لا تملك الأرملة سوى 60% من راتب تقاعد زوجها، كما نصّت المادة (113) من قانون الحماية الاجتماعية عند غياب أولاد مستحقين. لكن من قرّر أنها، حين تبقى وحدها، لا تستحق أن تحتفظ بالحياة التي بنتها معه؟ وكأن الحزن لا يكفي؛ بل يجب أن يُتبع بتقشّفٍ وأعباء جديدة.

لم يكن المعاش يومًا منحة؛ بل ثمرة عمرٍ قضاه الزوج في العمل والانضباط، وحقٌّ لا يجوز أن يُنتقص مهما تبدّلت الأنظمة. لا شيء يُعوّض الأرملة عن فقدها، لكن يمكن -على الأقل- أن نُبقي لها شيئًا من الطمأنينة التي بنت عليها حياتها.

حين يُفارق ربّ الأسرة الحياة، لا يغيب شخصٌ فحسب، بل يسقط عمود بيتٍ بأكمله. كل شيء يهتزّ: من مصروفات الكهرباء والماء، إلى الإيجار، إلى أسعار المواد الأساسية التي تتزايد بلا توقف، إلى السؤال المُرّ: "كيف نُكمل من بعده؟". في لحظة، تنتقل الأسرة من استقرارٍ مطمئن إلى قلق دائم، ومن اكتفاءٍ بسيط إلى حسابات مؤلمة آخر كل شهر.

تفتح الأرملة كشف المعاش، تبحث فيه عن شيء من الأمان… عن يدٍ كانت تسندها. فلا تجد سوى رقمٍ صامت: 60%. وكأن ما تبقّى لا يستحق أن يُصان أو يُقدَّر أو يستمر. أليست هذه الأسرة نفسها التي كانت تتلقى الراتب كاملًا حين كان الزوج حيًّا؟ ما الذي تغيّر سوى أن المصاب حلّ بها؟ أليست الآن أحوج إلى الثبات بدلًا من خفض دخلها؟

إن الأرملة التي شاركت زوجها حياته ومسؤوليته، لا تطالب برفاه، بل بالحفاظ على حياة كريمة اعتادتها معه، فهل يُعقل أن تتحوّل المصيبة إلى اثنتين: الفقد، ثم حرمانها من حقّ كانت تعيشه كل يوم؟

لا ينبغي أن يقتصر دور نظام الحماية الاجتماعية على الأحياء فقط؛ بل يجب أن يشمل الغائبين أيضًا؛ فالعدالة تُقاس بما يُقدَّم للضعفاء حين تشتدّ المحن، لا بما تُحدده اللوائح. ولعلّ التساؤل يمتد أبعد من ذلك… ولإدراك أثر هذه النسبة على حياة الأرملة، من المفيد أن ننظر في تجارب بعض الدول القريبة، التي تشترك معنا في السياق الاجتماعي والاقتصادي.

في بعض الدول الخليجية، تُعامَل الأرملة بوصفها امتدادًا طبيعيًّا للموظف المُتوفَّى، لا مجرد "مُستحِق مشروط"؛ فهناك أنظمة تقاعدية تضمن لها المعاش الكامل مدى الحياة، بغضّ النظر عن وجود أولاد؛ تقديرًا لدور الزوج، ووفاءً لعطائه، وإدراكًا لحاجة من بقي بعده. ورغم ما عُرف به وطننا العزيز من كرم اجتماعي ومبادرات إنسانية، جاء النظام الجديد ليُربك هذا المشهد، حين قيَّد استحقاق الأرملة بـ60% فقط عند غياب أبناء مُستحقِّين، كما نصّت المادة (113) من قانون الحماية الاجتماعية.

المقارنة ليست للمفاضلة؛ بل للتذكير بأن منح الأرملة حقّها الكامل ليس إسرافًا، وإنما وفاءٌ لرجلٍ رحل، وامتدادٌ لرعاية أسرةٍ لا تزال بحاجة إلى من يُمسك بيدها… ولو من بعيد. وإذا اتسعنا قليلًا في النظر، فسنجد أن مفهوم "المعيل" لا يقتصر على الزوج فقط. فليس كل من يعيل أسرةً هو زوج أو أب؛ فقد يكون ابنًا احتضن أمّه المسنّة، أو أخًا وهب شقيقته غير المتزوجة حياةً كريمة بلا حاجة. كان راتبه مصدر أمانهما وسندهما الوحيد في مواجهة الحياة.

لكن النظام الجديد، وفق ما ورد في المادة (111) من قانون الحماية الاجتماعية، لم يُدرج الأم أو الأخت ضمن الفئات التي تستحق معاش المُتوفَّى، ما يعني أن العديد من الحالات الواقعية -كأمٍّ كانت تعتمد اعتمادًا كليًا على دخل ابنها، أو أختٍ غير متزوجة وجدت في شقيقها سندًا ماليًا ونفسيًا- قد تبقى خارج مظلة الحماية، رغم هشاشتها ووضوح حاجتها. فهذا الغياب لا يعود إلى انتفاء الاستحقاق الفعلي، بل إلى غياب النص القانوني الذي يعترف به.

حين يتوقّف الراتب، لا يتوقّف الحزن؛ بل تبدأ رحلة الحاجة. ماذا تقول أمٌّ انتُزع عنها راتب ابنها؟ أو أختٌ لم يبقَ لها سوى كرامتها التي كانت تستند إلى دعم أخيها؟ العدالة لا تُقاس دائمًا بنصوص القوانين؛ بل بقدرتها على رؤية البشر كما هم: بعلاقاتهم، وبضعفهم، وبمن يعتمدون عليهم فعلًا.

ومن منظور وطني أشمل، فإن ما يدعو إليه هذا المقال لا يخرج عن إطار رؤية "عُمان 2040"؛ بل يتماهى مع روحها وأهدافها الكبرى، التي تؤكد "ضمان العيش الكريم لكافة المواطنين" وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية. فإعادة النظر في استحقاقات الأرملة أو الأم أو الأخت لا تُعد خروجًا عن الرؤية، بل ترجمة عملية لغاياتها؛ إذ إن تمكين الأسر من الاستقرار المالي بعد التقاعد أو فقد المعيل لا يتحقق بالتقيد الجامد بنصوص المواد، بل بالتأويل العادل الذي يلامس الواقع ويحتضن من هم في أمسّ الحاجة إلى الأمان الاجتماعي.

هذا النداء لا يُرفع من منبر تظلُّم؛ بل منبر إنصاف. من قلب أرملةٍ ترى راتب شريكها الذي أفنى عمره في خدمة الوطن وقد تقلّص معه كل شيء: قوتها، وطمأنينتها، وكرامتها المالية. ومن قلب أسرةٍ شعرت أن الفقد لم يكن في الشخص فقط، بل في الأمان الذي كان يمنحه.

إنَّنا لا نطلب ترفًا ولا منحة؛ بل استمرار حقٍّ كان قائمًا بالأمس. فما الذي تغيَّر؟ ومن قرَّر أن رحيل المُعيل يُعاقَب بتقليص المعاش؟ أما يكفي أنه قد رحل؟ إننا هنا لا نكتب عن حالة فردية؛ بل عن مبدأ إنساني واجتماعي يجب أن يظل حاضرًا في السياسات. نأمل أن يجد هذا الصوت أذنًا واعية وقلبًا مسؤولًا، يعيد النظر في تفسير وتطبيق المادتين (111) و(113)؛ بما يراعي الحالات الاجتماعية الواقعية التي لم تنصّ عليها القوانين صراحة، لكنها حاضرة بوضوح في مجتمعنا.

رَبُّ الأسرة حين يرحل، لا ينبغي أن تُغلق أبواب الإنصاف خلفه. وإن غاب جسده؛ فصوته لا يزال حاضرًا في احتياجات من تركهم خلفه… فلتظلّ أبواب العدالة مفتوحةً لمن كانوا يستندون إلى وجوده.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بيانات عشائرية لا تكفي… المطلوب ردٌّ بمستوى الدولة

صراحة نيوز- بقلم: د. خلدون نصير

في اليومين الماضيين، شهدنا سيلاً من البيانات العشائرية والمناطقية التي ندّدت بخطاب رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، وما تضمّنه من نبرة عدائية تتجاوز حدود فلسطين لتطال الأردن وبعض الدول العربية. لا شك أن الغضب الشعبي مشروع، وأن البيانات تعبّر عن حساسية الناس تجاه أمن وطنهم وسيادته، لكن السؤال الجوهري يبقى: هل تكفي هذه البيانات كإجابة على خطاب بهذا المستوى من التهديد؟

الجواب قطعًا: لا.

الرد الحقيقي لا يكون ببيانات تصدر باسم عشيرة هنا أو منطقة هناك. حتى لو اجتمعت بيانات العشائر جميعًا فلن تغيّر شيئًا في موازين القوة السياسية ولا في الرسائل الدبلوماسية. ما لم يصدر الموقف على مستوى الدولة، فإن تأثيره سيبقى محدودًا، وربما يفسَّر في الخارج على أنه مجرد انفعال عاطفي، لا أكثر.

المطلوب موقف رسمي حاسم، يوازي خطورة الخطاب الذي أطلقه نتنياهو. والموقف الحاسم لا يعني إصدار بيان استنكار من وزارة الخارجية، بل التلويح بخيارات استراتيجية: مراجعة معاهدة السلام، إغلاق سفارة الكيان في عمّان، سحب السفراء من تل أبيب، ودعوة الدول العربية التي تعرّض لها الخطاب إلى موقف موحد يضع نتنياهو أمام مأزق سياسي ودبلوماسي. عندها فقط سيتراجع، أو على الأقل سيدرك أن كلماته ليست مجرد “خطاب انتخابي” يمكن أن يمر دون ثمن.

إن بيانات العشائر تعبّر عن حرارة الانتماء، لكن الوطن ليس مجموعة جزر عشائرية ومناطقية، بل كيان سياسي موحد. والرد على من يحاول المساس بسيادته لا يكون إلا بموقف رسمي يترجم وحدة الشعب والدولة معًا، لا أن يكتفي الناس بالغضب بينما تبقى الإجراءات على الورق.

الأردن أكبر من أن يُختزل بردود عاطفية. الرسالة التي يجب أن تُفهم في تل أبيب واضحة: أمن الأردن ليس مجالًا للتجربة، وكرامة الأردنيين لا تُقايض بخطابات انتخابية. وهنا، يتأكد أن الردّ المطلوب ليس بيانًا، بل قرارًا.

مقالات مشابهة

  • الإسراف في الولائم: بين العادات الاجتماعية والمسؤولية الأخلاقية
  • عاجل| الرئيس السيسي يوجه بزيادة الإنفاق في قطاعي الصحة والتعليم وبرامج الحماية الاجتماعية
  • بوتين: أوكرانيا كانت إحدى القضايا الرئيسة في محادثاتي مع ترامب
  • ماذا تفعل إذا كانت قدميك باردة باستمرار؟
  • بيانات عشائرية لا تكفي… المطلوب ردٌّ بمستوى الدولة
  • غسل الشعر في الصيف: كم مرة تكفي للحفاظ على صحته ولمعانه؟
  • الصلاة على النبي يوم الجمعة.. صيغة شريفة تكفي همك وتغفر ذنبك
  • لازاريني: لدينا مواد إغاثية لغزة تكفي لـ 6 آلاف شاحنة
  • برلماني: الاستثمار وتوطين الصناعة وتعزيز الحماية الاجتماعية على رأس أولوياتي تحت القبة