«الواقعية».. حين تمسك الفلسفة بمرآة الحياة (2 – 2)
تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT
وفي الأدب الروماني تَبدو ملامح الواقعية واضحة، ولا سيّما عند الكاتب الكوميدي "بلوتس" – وهو كاتب مسرحي روماني – الذي لم يُخلِّف لنا سوى عدد قليل من المسرحيات، لعلّ أهمّها مسرحية "جرة الذهب"، حيث انتقد فيها صفةً مذمومةً عند بعض الناس، وهي صفة البخل، وذلك بأسلوبٍ واقعيٍّ جذّاب. ولعلّ هذا ما جعل "موليير" – وهو مؤلف مسرحي كوميدي فرنسي – يتأثر بهذه المسرحية حين كتب مسرحيته الشهيرة "البخيل".
ويمكننا أن نمدّ نظرنا إلى أدب العصور الوسطى، فنلاحظ أنه يزخر ببذورٍ واقعيةٍ كثيرة، من حيث الأهمّية الكبرى لاختلاف الأساليب والأنواع الأدبية، وظهور الأسلوب الوسيط الذي يختلف عن الأسلوب التراجيديّ اليونانيّ الفخم.
والحقيقة أن هذه البذور الواقعية لم تظهر في فن المسرح، بل كانت في فن القصص إلى حدّ ما. فالمسرح في العصور الوسطى لم يكن يستمد موضوعاته من واقع الحياة، بل كان يستمدّها من القصص الديني الوارد في الأناجيل، وحتى الكوميديا في تلك الفترة كانت تهدف إلى الإضحاك فحسب، لا إلى نقد الأوضاع الاجتماعية.
أما فنّ القصص في ذلك العصر، فإنه يشتمل – إلى حدٍّ ما – على عناصر واقعية، على الرغم مما يبدو لنا لأول وهلة من بعده الشديد عن الواقع وتصويره. فعندما نفك رموز "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي دانتي، نرى لوحةً رائعة تُجسّد تصوّر العصور الوسطى للحياة، والثواب والعقاب، وسائر المعتقدات.
أضف إلى ذلك، عزيزي القارئ، أن هناك ما يُسمّى بالنقد اللاذع لبعض مظاهر المجتمع، مثل مهاجمة "كنيسة روما"، وفضح نفاق الرهبان وجشعهم، بل ووضع أحد الباباوات في الجحيم، في مقابل اختيار الفردوس مقرًّا لأحد تلامذة ابن رشد – ذلك الفيلسوف الإسلامي – الذي دفع حياته ثمناً لتعسّف الكنيسة.
وإذا كانت التراجيديا الكلاسيكية في القرن السابع عشر قد ابتعدت عن تصوير الحياة تصويرًا واقعيًّا، فلأنها التزمت محاكاة النماذج الإغريقية والرومانية القديمة، وعزفت عن تمثيل الواقع المعاصر، وتمادَت في التقيد الصارم بالقوانين التي صاغها أرسطو، ولا سيّما قاعدة الوحدات الثلاث: وحدة الموضوع، والزمان، والمكان؛ الأمر الذي قطع صلتها بالواقع الحيّ، على خلاف ما بدأ يظهر في فنون سردية أخرى أكثر مرونة.
وما أودّ أن أصل إليه، صديقي القارئ، أنّه إذا كانت التراجيديا الكلاسيكية قد انعزلت عن واقع الناس، فإن الكوميديا جاءت على النقيض من ذلك، أكثر التصاقًا بالحياة اليومية وأخلاق المجتمع آنذاك. ويكفي أن نستشهد بموليير، ذلك المسرحي العبقري، الذي ترك لنا عددًا من المسرحيات انتقد فيها أمراض المجتمع الفرنسي، كما في «البخيل» حين هاجم الطبقة البرجوازية الناشئة وولعها بجمع المال على حساب الأبناء والعلاقات الإنسانية، أو في «طرطوف» حيث عرّى نفاق بعض رجال الدين الذين يرتكبون أقبح المعاصي ويتظاهرون بالتقوى. وليس ذلك فحسب، بل إن موليير تمرد أيضًا على تقاليد المسرح الكلاسيكي الذي كان يعتمد الشعر الفخم والأسلوب المزخرف، فكتب بعض مسرحياته بالنثر، في خروجٍ واعٍ على النموذج المسرحي القديم.
ثم جاء "فولتير" – وهو فيلسوف فرنسي – فدفع عجلة الواقعية إلى الأمام دفعة قوية أخرى، ولا سيّما في قصته "كانديد" أو "التفاؤل"، التي يسخر فيها سخرية لاذعة من مبدأ التفاؤل المطلق الذي كان سائدًا آنذاك في بعض الأوساط الثقافية، وخاصة في ألمانيا.
وحتى شكسبير، الذي عاش في عصر النهضة في القرن السادس عشر ويُعدّ عادةً مهدًا للرومانتيكيين ومنبعًا ثريًا لهم، نجد في مسرحياته أيضًا كثيرًا من العناصر الواقعية. ففي "هاملت" مثلًا، يقترب شكسبير من الواقع تمامًا، حين يُقحم شخصية المهرّج وسط واحد من أعمق المشاهد التراجيدية، وهو المشهد الذي يظهر فيه الأمير هاملت في المقبرة، حائرًا متأملًا أسرار الحياة المؤلمة الغامضة. وذلك لأن الحياة الواقعية ليست ملهاة خالصة ولا مأساة محضة، بل تقوم على المؤلم والمضحك معًا.
وأخيرًا، نجد أن الواقعية لم تنشأ عفوًا أو بوحيٍ من خيالٍ مجرّد، بل كانت وليدةَ إدراك الإنسان لمعاناته، ومحاولته تفسير ما يدور حوله من قضايا يجهلها. وهذا يعني أن مصطلح الواقعية – الذي بلغ لاحقًا صورته النهائية مرتبطًا بالأدب والواقع – كان ثمرةً للصلة الوثيقة بين الإنسان والحياة والفن. وإذا ما عدنا إلى تاريخ الفكر البشري، وجدنا أن الفلسفة سبقت الأدب في استخدام مصطلح الواقعية وتداوله بزمن طويل.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الواقعية
إقرأ أيضاً:
60% من الحياة.. هل تكفي؟
خالد بن حمد الرواحي
مع مطلع عام 2024، دخل نظام الحماية الاجتماعية الجديد حيّز التنفيذ، موحِّدًا 11 نظامًا تقاعديًّا سابقًا. ورغم ما يحمله هذا التحول من توجهاتٍ نحو العدالة والتكافل، فقد أثار تساؤلات إنسانية، لا سيما بشأن استحقاق الأرملة لمعاش زوجها المتوفى، خاصةً عند غياب أولاد مُستحقين.
تمضي الأرملة إلى صباحٍ جديد، بلا شريك، وبلا صوتٍ يُخبرها أن الحياة ما زالت بخير. لكن الفَقْد لا يتوقف عند العاطفة؛ بل يمتد إلى ما هو أعمق: استقرارٌ تبخّر، ومستوى معيشي انهار فجأة، بعد أن كان كفّ زوجها وحده يُعيل الأسرة ويحفظ كرامتها.
لسنواتٍ طويلة، عاشا على دخلٍ واحد، رتّبا تفاصيل الحياة، وخطّطا للغد بثقة. واليوم، لا تملك الأرملة سوى 60% من راتب تقاعد زوجها، كما نصّت المادة (113) من قانون الحماية الاجتماعية عند غياب أولاد مستحقين. لكن من قرّر أنها، حين تبقى وحدها، لا تستحق أن تحتفظ بالحياة التي بنتها معه؟ وكأن الحزن لا يكفي؛ بل يجب أن يُتبع بتقشّفٍ وأعباء جديدة.
لم يكن المعاش يومًا منحة؛ بل ثمرة عمرٍ قضاه الزوج في العمل والانضباط، وحقٌّ لا يجوز أن يُنتقص مهما تبدّلت الأنظمة. لا شيء يُعوّض الأرملة عن فقدها، لكن يمكن -على الأقل- أن نُبقي لها شيئًا من الطمأنينة التي بنت عليها حياتها.
حين يُفارق ربّ الأسرة الحياة، لا يغيب شخصٌ فحسب، بل يسقط عمود بيتٍ بأكمله. كل شيء يهتزّ: من مصروفات الكهرباء والماء، إلى الإيجار، إلى أسعار المواد الأساسية التي تتزايد بلا توقف، إلى السؤال المُرّ: "كيف نُكمل من بعده؟". في لحظة، تنتقل الأسرة من استقرارٍ مطمئن إلى قلق دائم، ومن اكتفاءٍ بسيط إلى حسابات مؤلمة آخر كل شهر.
تفتح الأرملة كشف المعاش، تبحث فيه عن شيء من الأمان… عن يدٍ كانت تسندها. فلا تجد سوى رقمٍ صامت: 60%. وكأن ما تبقّى لا يستحق أن يُصان أو يُقدَّر أو يستمر. أليست هذه الأسرة نفسها التي كانت تتلقى الراتب كاملًا حين كان الزوج حيًّا؟ ما الذي تغيّر سوى أن المصاب حلّ بها؟ أليست الآن أحوج إلى الثبات بدلًا من خفض دخلها؟
إن الأرملة التي شاركت زوجها حياته ومسؤوليته، لا تطالب برفاه، بل بالحفاظ على حياة كريمة اعتادتها معه، فهل يُعقل أن تتحوّل المصيبة إلى اثنتين: الفقد، ثم حرمانها من حقّ كانت تعيشه كل يوم؟
لا ينبغي أن يقتصر دور نظام الحماية الاجتماعية على الأحياء فقط؛ بل يجب أن يشمل الغائبين أيضًا؛ فالعدالة تُقاس بما يُقدَّم للضعفاء حين تشتدّ المحن، لا بما تُحدده اللوائح. ولعلّ التساؤل يمتد أبعد من ذلك… ولإدراك أثر هذه النسبة على حياة الأرملة، من المفيد أن ننظر في تجارب بعض الدول القريبة، التي تشترك معنا في السياق الاجتماعي والاقتصادي.
في بعض الدول الخليجية، تُعامَل الأرملة بوصفها امتدادًا طبيعيًّا للموظف المُتوفَّى، لا مجرد "مُستحِق مشروط"؛ فهناك أنظمة تقاعدية تضمن لها المعاش الكامل مدى الحياة، بغضّ النظر عن وجود أولاد؛ تقديرًا لدور الزوج، ووفاءً لعطائه، وإدراكًا لحاجة من بقي بعده. ورغم ما عُرف به وطننا العزيز من كرم اجتماعي ومبادرات إنسانية، جاء النظام الجديد ليُربك هذا المشهد، حين قيَّد استحقاق الأرملة بـ60% فقط عند غياب أبناء مُستحقِّين، كما نصّت المادة (113) من قانون الحماية الاجتماعية.
المقارنة ليست للمفاضلة؛ بل للتذكير بأن منح الأرملة حقّها الكامل ليس إسرافًا، وإنما وفاءٌ لرجلٍ رحل، وامتدادٌ لرعاية أسرةٍ لا تزال بحاجة إلى من يُمسك بيدها… ولو من بعيد. وإذا اتسعنا قليلًا في النظر، فسنجد أن مفهوم "المعيل" لا يقتصر على الزوج فقط. فليس كل من يعيل أسرةً هو زوج أو أب؛ فقد يكون ابنًا احتضن أمّه المسنّة، أو أخًا وهب شقيقته غير المتزوجة حياةً كريمة بلا حاجة. كان راتبه مصدر أمانهما وسندهما الوحيد في مواجهة الحياة.
لكن النظام الجديد، وفق ما ورد في المادة (111) من قانون الحماية الاجتماعية، لم يُدرج الأم أو الأخت ضمن الفئات التي تستحق معاش المُتوفَّى، ما يعني أن العديد من الحالات الواقعية -كأمٍّ كانت تعتمد اعتمادًا كليًا على دخل ابنها، أو أختٍ غير متزوجة وجدت في شقيقها سندًا ماليًا ونفسيًا- قد تبقى خارج مظلة الحماية، رغم هشاشتها ووضوح حاجتها. فهذا الغياب لا يعود إلى انتفاء الاستحقاق الفعلي، بل إلى غياب النص القانوني الذي يعترف به.
حين يتوقّف الراتب، لا يتوقّف الحزن؛ بل تبدأ رحلة الحاجة. ماذا تقول أمٌّ انتُزع عنها راتب ابنها؟ أو أختٌ لم يبقَ لها سوى كرامتها التي كانت تستند إلى دعم أخيها؟ العدالة لا تُقاس دائمًا بنصوص القوانين؛ بل بقدرتها على رؤية البشر كما هم: بعلاقاتهم، وبضعفهم، وبمن يعتمدون عليهم فعلًا.
ومن منظور وطني أشمل، فإن ما يدعو إليه هذا المقال لا يخرج عن إطار رؤية "عُمان 2040"؛ بل يتماهى مع روحها وأهدافها الكبرى، التي تؤكد "ضمان العيش الكريم لكافة المواطنين" وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية. فإعادة النظر في استحقاقات الأرملة أو الأم أو الأخت لا تُعد خروجًا عن الرؤية، بل ترجمة عملية لغاياتها؛ إذ إن تمكين الأسر من الاستقرار المالي بعد التقاعد أو فقد المعيل لا يتحقق بالتقيد الجامد بنصوص المواد، بل بالتأويل العادل الذي يلامس الواقع ويحتضن من هم في أمسّ الحاجة إلى الأمان الاجتماعي.
هذا النداء لا يُرفع من منبر تظلُّم؛ بل منبر إنصاف. من قلب أرملةٍ ترى راتب شريكها الذي أفنى عمره في خدمة الوطن وقد تقلّص معه كل شيء: قوتها، وطمأنينتها، وكرامتها المالية. ومن قلب أسرةٍ شعرت أن الفقد لم يكن في الشخص فقط، بل في الأمان الذي كان يمنحه.
إنَّنا لا نطلب ترفًا ولا منحة؛ بل استمرار حقٍّ كان قائمًا بالأمس. فما الذي تغيَّر؟ ومن قرَّر أن رحيل المُعيل يُعاقَب بتقليص المعاش؟ أما يكفي أنه قد رحل؟ إننا هنا لا نكتب عن حالة فردية؛ بل عن مبدأ إنساني واجتماعي يجب أن يظل حاضرًا في السياسات. نأمل أن يجد هذا الصوت أذنًا واعية وقلبًا مسؤولًا، يعيد النظر في تفسير وتطبيق المادتين (111) و(113)؛ بما يراعي الحالات الاجتماعية الواقعية التي لم تنصّ عليها القوانين صراحة، لكنها حاضرة بوضوح في مجتمعنا.
رَبُّ الأسرة حين يرحل، لا ينبغي أن تُغلق أبواب الإنصاف خلفه. وإن غاب جسده؛ فصوته لا يزال حاضرًا في احتياجات من تركهم خلفه… فلتظلّ أبواب العدالة مفتوحةً لمن كانوا يستندون إلى وجوده.