د. صالح بن ناصر القاسمي
كثيرًا ما يضع الإنسان على عاتقه ما يفوق طاقته، فيتوقف عند كل كلمة يسمعها، أو كل إشارة يلمحها، أو حتى عند تلميح عابر يمر أمامه مرور السحاب؛ بل أحيانا لا يحتاج الأمر إلى كلمات، وإنما يكفي أن يشعر بشعور غامض يطرق أبواب نفسه، فيفتح لها المجال مشرعا على مصراعيه، فيدخل ذاك الشعور دون استئذان، ويعيث في داخله فسادًا، حتى يروي بذور الهوى بسيول من حمم شيطانية تحرق صفاء قلبه وتكدر نقاءه.
إن هذه المواقف البسيطة في ظاهرها قد تتحول عند البعض إلى محطات توقف طويلة، يقفون عندها متأملين، محللين، مقلبين وجوهها من كل جانب، حتى تتضخم في داخلهم وتصبح كرة ملتهبة من الضغائن. وقد تتحول تلك الكرة إلى كتلة من الحقد المتراكم، تكبر يوما بعد يوم في الصدر، حتى لو خرجت لأحرقت الأخضر واليابس من حولها. وكم من صلة رحم تقطعت بسبب هذا الحمل الزائد من الشكوك، وكم من صداقة امتدت لسنوات طويلة انتهت فجأة لأنها بنيت على ظنون لا أساس لها، وظلال أوهام لا تستند إلى منطق أو حقيقة.
ولو أننا التفتنا إلى دواخلنا وبحثنا فيها عن الجمال الإنساني الكامن فينا، لوجدنا ما يغنينا عن الانغماس في الشكوك، ولأدركنا أن أغلب ما نتوقف عنده ليس سوى مواقف عابرة لا تستحق كل هذا الجهد النفسي ولا هذا الاستنزاف. ولو وعينا أن ما يمر بنا من كلمات أو أفعال لا يستحق أن نضخمه أو نمنحه أكبر من حجمه الطبيعي، لكُنَّا أكثر هدوءًا في مواجهة تفاصيل الحياة اليومية، وأكثر رحابة صدر في تقبل اختلافات الآخرين.
وأغلب الظنون التي تعكر صفو العلاقات ما هي إلا انعكاس طبيعي لاختلافنا مع الآخرين؛ فالاختلاف في حد ذاته ليس عيبا ولا خطأ؛ بل هو من سنن الحياة الثابتة. نحن نختلف في الأفكار والآراء والتصورات، وقد نختلف حتى في فهم المواقف والنوايا. وهذا الاختلاف في جوهره أمر إيجابي، لأنه يفتح المجال للتنوع والتكامل. لكن حين يتحول الاختلاف إلى مجهر نضعه على كل كلمة أو حركة تصدر عن الآخرين، فإننا نسجن أنفسنا في دائرة من الشك المرهق.
وعلينا أن نضع نصب أعيننا أن هذه الحياة ليست على نمط واحد، بل هي مسرح متنوع، مليء بالأفكار المتباينة، ومشحون بالاختلافات التي تُثري التجربة الإنسانية. وقد أخبرنا الله تعالى أن التدافع والاختلاف سنة كونية لا مفر منها: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" (الحج: 40). ولو أدركنا هذه الحقيقة وأيقنّا بها حق اليقين، لتجاوزنا عن كثير من المواقف العابرة، ولأرحنا أنفسنا من عناء الظنون التي لا تجلب سوى القلق والتعب. ولو فعلنا ذلك، لوجدنا أن الحياة أرحب، وأن الود مع الآخرين أجمل عبقا وأطيب أثرا من أي خصام أو شك.
إنَّ السحب السوداء التي نصنعها بأنفسنا من أوهام وظنون هي التي تضيق صدورنا وتثقل أرواحنا. بينما الحياة أوسع من أن تُختزل في تلك الزوابع الصغيرة. وكل ما نقوله ونفعله ونفكر فيه يحتاج إلى تهذيب دائم، وتربية متواصلة للنفس، حتى لا نستسلم لسلبياتنا أو لعواصف الغضب والشك التي قد تعصف بنا فجأة.
والتدريب هنا لا يقتصر -كما يتوهم بعض الناس- على المهارات الإدارية أو تقنيات العمل فقط، بل يشمل بالدرجة الأولى تدريب النفس على السلوك الإيجابي، وإتقان التعامل الراقي مع الناس، سواء في محيطنا الاجتماعي أو في مجالنا العملي؛ فالأخلاق هي الأساس المتين للشخصية الإنسانية، وإذا غابت الأخلاق لم يعد للسلوك قيمة، ولا للتعامل معنى. لذلك، فإن أرقى أنواع التدريب هو ذاك الذي يهذب النفوس، ويُعوِّدها على الصبر، ويغرس فيها حسن الظن، ويجعلها أكثر تسامحًا وانفتاحًا.
الحياة في حقيقتها بسيطة، لكنها تبدو معقدة حين نثقلها بأوهامنا ومخاوفنا. هي لا تحتاج إلى كل هذا التهويل الذي نصنعه، ولا تحتمل كل هذا العويل الذي نمارسه. لو أننا نظرنا إليها بصفاء، لوجدناها أقرب إلى البساطة مما نظن. إنها أقصر من أن نهدرها في تتبع الظنون، وأثمن من أن نُضيعها في التوقف عند كل كلمة أو إشارة.
فلنحاول أن نرى الحياة كما هي: رحلة قصيرة مهما طالت، تحتاج إلى قلب مطمئن وروح متسامحة. فلماذا نملأها بالتشنج والقلق؟ ولماذا نعيشها بأوهام أدق من خيوط الدخان، لكنها رغم دقتها قادرة على أن تحيل حياتنا إلى سحب سوداء؟ أليس الأجمل أن نصنع منها حياة مليئة بالسكينة والرضا؟
أيها الإنسان، هوِّن عليك الأمر. لا تجعل من نفسك أسيرا لظنونك، ولا تسمح للأوهام أن تكون هي الحاكم على قلبك وعقلك. فما من شيء يستحق أن نجعله محور اهتمامنا الدائم إذا كان مبنيا على الشكوك والظنون. وقد جاء التوجيه الرباني واضحًا صريحًا في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" (الحجرات: 12).
لنجعل من هذه الآية قاعدة لحياتنا، ولنأخذها نورا نهتدي به كلما حاولت الظنون أن تسرق صفاء قلوبنا. عندها فقط سنشعر بخفة الحياة، وننعم بالسلام الداخلي، ونمنح أرواحنا فرصة أن تتنفس عطر المودة والإخاء بدل أن نحبسها في غياهب الضيق والحرج.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
خروج عن النص
لا يختلف اثنان على أن الهيئة العامة للرقابة المالية قد لعبت دوراً محورياً على جميع المستويات، فكانت كمن يحرك المياه الراكدة ظلت ساكنة لسنوات طويلة، لتفتح آفاقاً جديدة أمام قطاعات حيوية وتعيد رسم ملامح الخدمات المالية، حتى بات المواطن يتلقى خدمة يمكن وصفها بـ«خمس نجوم» من حيث الجودة والتنظيم.
من ضمن القطاعات التى شهدت نقلة نوعية، برز التمويل الاستهلاكى كأداة فاعلة لتحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة لفئات الطبقة المتوسطة ومحدودى الدخل. فهو يمكّن المستهلك من اقتناء السلع المعمرة التى يحتاجها، مع سداد قيمتها على فترات زمنية ميسّرة، بما يخفف الأعباء ويمنح الأسر فرصة للحياة الكريمة دون ضغط مالى خانق.
45 شركة حاصلة على رخصة مزاولة النشاط، تخدم نحو 3.3 مليون عميل. بداية التجربة كانت نموذجية، تكاد تخلو من العثرات، حتى بدت كأنها قصة نجاح مكتملة الفصول، غير أن مسار الحلم لم يكتمل… فمع مرور الوقت، بدأت ممارسات بعض الشركات تشوّه الصورة الناصعة، لتتحول التجربة من قصة مثالية إلى حكاية تحمل سطور محزنة ومؤشرات خطر.
لا خلاف على أن من حق الشركات استرداد أموالها وتحصيل أقساطها، لكن الخلل ظهر حين «زادت بعض الجهات الأمر عن حدّه». فقد خرجت بعض الشركات عن المسار المؤسسى، ليس فقط عبر الاستعانة بوسائل غير قانونية، بل«زيادة حبتين» باستخدام أساليب ترهيب صريحة، تبدأ من إرسال مندوبين أشبه بـ»البلطجية» – وفق ما ورد فى شكاوى ورسائل متعددة – وتمتد إلى تخصيص مكاتب تحصيل مجهولة الهوية، ربما بلا تراخيص، لتتولى التعامل مع العملاء مباشرة.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تحوّل لدى بعض الشركات إلى نظام قائم على «المكافأة بالضغط»، إذ يتم تكليف مكاتب تحصيل مستقلة مقابل نسبة من المبالغ المستردة، مع إقامة حفلات سنوية لتكريم تلك المكاتب، وكأن الضغط على العملاء – مهما بلغت قسوته – يصبح وسام شرف طالما أن المال يعود للشركة فى الموعد المحدد.
الرسائل التى وصلتنى، وما يتداول على منصات التواصل الاجتماعى، تكشف عن أسلوب موحد فى التخويف: تهديدات بالسجن، ووعود بعواقب وخيمة لأى تأخير، وحكايات تكررت على ألسنة عملاء كثيرين. ما كان يُفترض أن يكون أداة تمويلية تدعم المستهلك وتخدم السوق، بدأ فى بعض الحالات ينزلق إلى ممارسات تشبه الابتزاز العلنى، مهددة بتقويض الثقة فى منظومة كان لها أن تكون أحد أعمدة العدالة المالية فى البلاد.. وهو ما تكرر قبل ذلك مع جمعيات التمويل متناهى الصغر.