هل يوجد ما يسمى بحرب استنزاف العقول ، ولم حصر المسألة فى الثقافة العربية. هل هذا يعني أن الثقافة العالمية بمنأى عن هذه الحروب.؟!.

للإجابة على هذه التساؤلات إجابات موضوعية، فإنه ينبغي علينا أن نقوم بتبسيط المصطلحات حتى نحيط القارئ علما بما نكتبه له حتى يسهل عليه فهمه واستبصاره.

فما المقصود بحرب الاستنزاف في الأعراف العسكرية حرب الاستنزاف، محاربة العدو خلسة ومباغتته في غفلة من الزمن لاستنزاف قواه وتشتيت ذهنه العسكري بمعنى ضربه ضربا موجعا دون أن تصاب بأذى إلا نذر يسير.

هذا بالنسبة للاستنزاف في الحروب التي تعتمد على الآلات والمعدات العسكرية ، مثلما الواقع الآن على أرض غزة مما تعده فصائل المقاومة من أكمنة تستدرج خلالها قوات العدو الإسرائيلي إلى الحواري والأزقة والشوارع الجانبية ، ثم ينقضوا عليهم فيمعنوا فيهم قتلا وجرحت.

أما مصطلح استنزاف العقول ، فهو مصطلح دقيق وحساس ابتكره الكاتب من عندياته.
وإن جاز لنا أن نقدم تعريفا اصطلاحيا له ، فنقول ، هو عبارة عن اقحام العقول في مشاريع لا طاقة لها بها ، كمثلا اقحام العقل فى المنطقة المحرمة دينيا ، كأن يناقش العقل مسلمات تتعلق بالحدود ، ومحاولة تأويل النصوص ثبوتية الدلالة.

وهنا سيتعرض هذا العقل للاستنزاف ، من أجل إصابته بنزيف حاد لا يستطيع أن يقوى بعده على التفكير في أي شئ ، كيف ، سيدخلونه في ما يمكننا أن نطلق عليه المتاهة الفكرية التي تعتمد على السفسطة وعلى الجدل البيزنطي العقيم .

وهذا ما حدث مع مفكرين كبار ، لو توقشت أفكارهم بتؤدة وموضوعية ، بدلا من الحجر عليها من خلال عقول تحجرت وتقوقعت وتمركزت حول ما يسمى بمركزية النصوص الدينية وثبوتيتها ولا يمكن المساس بها.

النتيجة الحتمية ، حالة من الركود الفكري الديني ، أشبه الركود الذي حصل في العصور الوسطى مع الفارق.

فالعصور الوسطى لم تكن هناك آنذاك ثورة معلوماتية ولا سموات فضائية ولا شبكات تواصل عنكبوتية ، فحدث ما حدث ، فهناك من زج به في غياهب السجون ، وهناك من أحرقت كتبه ، وهناك من نفي وشرد ومات غريبا عن وطنه.

أما إذا تحررنا من هذه المركزية وفكرنا لا أقول قليلا خارج الصندوق ،  وخرجنا عن الإطار (البرواز)، وأخذنا المحتوى ووظفناه توظيفا صحيحا لتغير حالنا الآن ، ولاستنارة العقول ولأصبح لدينا خطاب ديني يتواءم مع واقعنا المعاصر ومتغيراته.

ولأصبحت لدينا العقول المتفتحة التي تتصدى للهجمات الشرسة التي تتعرض لها عقول شبابنا ، ولأصبح لدينا عقول واعية بكل ما يقدم لها من مواد أو محتويات إعلامية عن طريق بعض تطبيقات مواقع التواصل الإجتماعي المنفلتة (كالتيك توك).

والنتيجة ، حدث ما لا يحمد عقباه استنزاف حاد للعقول واستقطابها لهاثا خلف شهوات الشهرة وجمع الأموال ، فراحت هذه العقول ضحية هذه الرجعية الفكرية التي دمرتها المرجعية المتخلفة ، والنتيجة المرتقبة التي فاحت رائحتها النتنة تملأ الأرجاء ، لا أقول في مصر فقط ولا في وطننا العربي وحسب بل في كل العالم ، الشرعنة للرذيلة ، البلطجة ، ترويج للمخدرات ، تجارة الأعضاء ، وما خفي كان أعظم.

إن هذا الموضوع جد مهم وخطير ولا يمكن بحال من الأحوال التخلي عن الكتابة عنه ، لأن من واجبنا القيمي والأخلاقي وواجبنا تجاه مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن نكتب ولا نتوقف لعل أحدنا يستطيع أن يقدم حلولا لوقف هذا الاستنزاف لعقولنا. هذه واحدة.

أما الثانية ، فترجع دقته وحساسيته إلى إنه له عدة تداعيات سواء على العقل الفردي أو على العقل الجمعي.
أما تداعيات هذه الحرب (حرب الاستنزاف) على العقل الفردي فيمكن تلخيصها فى النقاط التالية:

أولا: فإنه عندما يستنزف العقل الفردي ويستهلك طواعية أو رغم عنه ولا يجد تقديرا ، فإنه سيصاب بحالة من اليأس تدفعه إلى اللامبالاة والتوقف عن نشاطاته الإبداعية وهذا يضرب الثقافة ضربة قاضية .

أما استهلاكه طواعية أي بإرادة صاحبه فيقحم نفسه فى نشاطاته الإبداعية أيا كان نوع هذا الإبداع شعرا ، كتابة ، فنونا ، موسيقى ، ويتقدم للحصول على التكريمات التي تليق بمنتوجه الإبداعي ، ويفاجأ بأن الجوائز راحت أمام عينيه لمن هم أقل منه إبداعا وغزارة فى الإنتاج ، نتيجة عوامل خارجة عنه ، فإنه على الرغم من عدم تقصيره إلا أن عوامل للوساطة والمحسوبية تتدخل ويضرب بإنتاجه عرض الحائط ولدينا شواهد كثيرة لا أقول في مصر فقط بل فى الوطن العربى.

فالنتيجة الحتمية هي أنه سيصاب بالإحباط إلا إذا كان من أصحاب العزائم القوية ، لكن حتى هؤلاء سيصابون بالإحباط لكنهم قد يعودون إلى الإبداع.

أما استهلاك هذه العقول رغما عنها ، كأولئك المتفانون في أعمالهم ، المجدون في أشغالهم كأولئك الذين يقومون بإدارة مؤسساتهم دأبهم وشغلهم الشاغل الارتقاء بهذه المؤسسة بل ويبذل قصارى جهده ، لكنه لا يجد التكريم اللائق أو حتى الحافز المادي الذي يستر حياته هو وأسرته ويقيهم الحاجة والعوز ، فالنتيجة سيصاب باللامبالاة وسيتحول من أدرجي دينامو إلى موظف مكتبي ينتظر وقت انصرافه بفارغ الصبر ليبحث له عن عمل آخر.

ثانيا: حرب استنزاف العقل الفردي عن طريق فعل فاعل ، وهنا نعود إلى فكرة (المتاهة والنداهة) ، أما المتاهة ، فعن طريق إغراق هذا العقل بما يسمى بالانفتاح على الآخر ، فيفتح الآخر عليه ثقافته التي هي بعيدة كل البعد عن قيمه وأخلاقه وعاداته وتقاليده ، فبعد نشئته في مناخ يغلب عليه المحافظة ، لا أقول التشدد ، فنحن نرفض التشدد ، فيفتح الآخر عليه حداثته ومدنيته فيزيغ بصره أمام هذه الزخارف فينغمس في حفلات اللهو والترف والرقص والحفلات الماجنة غير مبالا لا بقيمه ولا بأخلاقه ولا بدينه ، المهم يشبع نهمه وشره الذي كان محروما منه من ذي قبل، وهنا تتحقق فكرة النداهة.

وهذا ما نجح فيه الأخر الغربي الآن في بعض بلداننا العربية والإسلامية ، فشغلت العقول الفردية عن الإبداع والتطوير والابتكار واكتفت بالراحة السلبية.

ثالثا: لكن السؤال هل كل العقول الفردية متساوية في هذا الأمر ، هل جميع العقول ستصاب بالإحباط واللامبالاة لكل ما تشاهده ولكل ما يحدث لها ، الإجابة ألمحت إليها آنفا ، طبعا لا ، فهناك أولوا العزم ، أولئك الذين سيقاومون هذا المد التغريبي الذي تنسحق معه وأمامه هويتهم الثقافية ، نعم هناك من سيقاوم وسيظل يبدع وينتج فكرا حتى لو ترك مكانه وبحث عن ملاذ يحقق فيه طموحاته كأن يسافر بحاثا عن مراكز ثقافية عالمية معتبرة تقدر أدبياته وفنونه وابتكاراته ورسوماته ، حتما سيجد صالات عرض عالمية يعرض فيها لوحاته وتاريخنا المصري والعربي المعاصرة يزخر بأسماء كثيرة جدا ملئت آفاق العالم ومنها من حصل على نوبل العالمية.

لكن أصدقكم القول ، بل وضرورة ملحة أن نكون صادقين مع أنفسنا ألسنا نحن أولى بأبنائنا ، لماذا نترك أولادنا ينجحوا بعيدا عن أحضاننا ، لماذا نترك خيرهم متمثلا في ابتكاراتهم يذهب لغيرنا.
لماذا لا نحتضنهم ونفتح أبوابنا أمامهم بدلا من أن نغلقها في وجوههم.

لذلك أهيب بالمسؤولين عن صراح الثقافة لا أقول في مصر وحدها وإنما في وطننا العربي والإسلامي ، أهيب بهم جميعا ، ابحثوا عن المبدعين الحقيقيين وتبنوا أفكارهم واحتضنوهم وانفقوا عليهم ، فما ستنفقونه اليوم سيعود على بلادكم أضعافا مضاعفة ولو بعد حين.

أما حرب استنزاف العقول الجمعية فلنا معها وقفات.
فللحديث بقية.
 

طباعة شارك حرب استنزاف العقول الثقافة العالمية حرب الاستنزاف

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الثقافة العالمية حرب الاستنزاف حرب الاستنزاف لا أقول

إقرأ أيضاً:

سوميديا.. حماية العقول وصناعة المستقبل

*حماية الأجيال أولا*

إن المعركة الحقيقية اليوم لم تعد معركة حدود وأرض فحسب؛ بل هي معركة على العقول وصياغة وجدان الأجيال القادمة، وحماية الشباب من الذوبان الثقافي لا تتم بالشعارات بل بإيجاد بديل وطني قوي يملأ فراغهم ويخاطبهم باللغة التي يفهمونها لغة الصورة والتقنية، ومن هنا تبرز الحاجة الملحة لإطلاق مشروع سوميديا ليس كمشروع ترفيهي بل كمنظومة استراتيجية شاملة تنتج الدراما والأفلام والمسرحيات والألعاب الإلكترونية والرسوم المتحركة الكرتون وحسابات التواصل الهادفة لتكون درعا يحصن الهوية وينقل الثقافة السعودية للعالم.

*دروس من العالم.. الأنمي وهوليود وبوليوود*

حين نتحدث عن تأثير القوة الناعمة فإن العالم مليء بالشواهد الحية، فاليابان مثلا غزت عقول أطفال العالم ليس بالجيوش بل بالأنمي والرسوم المتحركة التي زرعت القيم اليابانية والاحترام والإصرار في نفوس صغارنا وكبارنا في كل قارة، وكذلك فعلت الهند عبر بوليوود والولايات المتحدة عبر هوليود اللتان نقلتا الثقافة الهندية والأمريكية للعالم، هذه الدول أدركت باكرا أن الإعلام والدراما هما أسرع وسيلة لنقل الحضارة، وهذا ما يجب أن نفعله نحن الآن عبر سوميديا لنصدر ثقافتنا وقيمنا بدلا من أن نكون مجرد مستهلكين لثقافات الغير.

*مواجهة طوفان التفاهة الرقمية*

نعيش اليوم تحديا خطيرا يتمثل في هيمنة مشاهير الفراغ ومنصات التواصل الاجتماعي التي تصدر التفاهة وتقديس السطحية مما أدى إلى تآكل الذوق العام وتشوه مفهوم القدوة، وهنا يأتي دور المشروع الوطني لتقديم البديل النوعي فلا يمكن محاربة المحتوى الهابط بالمنع فقط بل بمزاحمته بمحتوى راق وعالي الجودة سواء عبر مسلسل درامي محبوك أو لعبة إلكترونية تعزز الانتماء أو مسرحية تبني الوعي لإعادة ضبط المعايير بحيث لا يتصدر المشهد إلا من يقدم قيمة حقيقية، وهذا لا يغفل جهود وزارة الإعلام في محاربة شذاذ السوشل ميديا ومشاهير الإفلاس كما أننا لا نغفل جهود شباب الوطن المميزة كمنصة ثمانية وما تقدمه من أعمال على وسائل التواصل نموذج فريد ينافس ويزاحم أكبر الشركات العالمية وهو مثال يحتذى بقدرة الشاب السعودي كمثال للإبداع والنجاح.

*صناعة القدوة.. من الشاشة إلى الواقع*

إن القوة الحقيقية للإنتاج المرئي تكمن في قدرته على صناعة الأبطال في خيال الأجيال، فمشروع سوميديا مدينة إعلامية واستراتيجية وطنية ستعمل على إعادة الاعتبار للقدوات الحقيقية من المبدعين والمبتكرين والموهوبين، فبدلا من أن يقتدي المراهق بمشهور لا يملك إلا هاتفه سيجد أمامه عبر الشاشات نماذج لعلماء سعوديين وقادة فاتحين ورواد أعمال عصاميين وشخصيات كرتونية متحركة بطلة ترتدي الثوب السعودي وتعكس ثقافتنا لتتصدر المشهد بدلا من الشخصيات المستوردة، فالصورة الذهنية للبطل هي التي تحرك سلوك الإنسان وحين نصنع دراما تبرز قيم الشجاعة والكرم والعلم فإننا نزرع هذه القيم في المجتمع تلقائيا.

*ضرورة استراتيجية لا ترف*

لم تعد صناعة الإعلام والدراما والسينما والألعاب ومقاطع السوشل ميديا مجرد كماليات بل تحولت في العرف الاستراتيجي إلى أخطر أدوات الأمن الثقافي، فغياب الإنتاج المحلي القوي يترك الساحة خالية للإنتاج الأجنبي الذي قد يحمل قيما لا تشبهنا، لذا فإن هذا المشروع هو مصنع للوعي ينتج أعمالا تاريخية توثق بطولات التأسيس وأعمالا اجتماعية تعالج مشكلاتنا بحكمة مما يجعل الجيل الجديد فخورا بمرجعيته ومحصنا ضد الأفكار الدخيلة وليس كما نشهده اليوم من بعض العروض والأعمال المحلية التي لا تمثل الوطن وإنما هي نسخ مشوهة تقلد الشخصيات الغربية وتستهدف هدم القيم الوطنية المستهدفة.

*القرار للمستقبل*

إن سوميديا ليس مجرد حلم فني بل هو استحقاق وطني لمرحلة تتطلب أن نكون فاعلين في صناعة المشهد العالمي، هو مشروع لاستعادة دفة التأثير ولحماية أبنائنا من التشتت ولتقديم صورة المملكة الحقيقية المشرقة، إنه باختصار مشروع لصناعة ذاكرة الوطن وحماية مستقبل الأجيال في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء في حضورهم وتأثيرهم وإعلامهم.

أخبار السعوديةالقوة الناعمةصناعة المستقبلحماية العقولطوفان التفاهة الرقميةقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • إبراهيم شقلاوي يكتب: العربية/ الحدث .. من الإيقاف إلى إعادة الثقة
  • الرأي العام بين المتاهة الرقمية وهندسة العقول
  • د.محمد عسكر يكتب: العقل العربي بين سطوة الخوارزميات وتآكل الوعي النقدي
  • د. عادل القليعي يكتب: ولكم فى التفكر حياة يا أولي الألباب
  • عبد السلام فاروق يكتب: رفعت سلام .. العاصفة الهادئة في سماء الثقافة المصرية
  • رئيس وزراء لبنان: إسرائيل تشن حرب استنزاف يومية وتنتهك السيادة اللبنانية
  • سلام: إسرائيل تشنّ حرب استنزاف وبالتالي لسنا في وضعية سلام
  • سوميديا.. حماية العقول وصناعة المستقبل
  • بالتعاون مع اليونسكو.. الأكاديمية العربية تطلق مناظرات الثقافة الإعلامية والمعلوماتية
  • العقول المحمدية والتحذير من نشر روح التشاؤم.. موضوع خطبة الجمعة اليوم