د. عادل القليعي يكتب: حرب استنزاف العقول.. الثقافة العربية أنموذجا
تاريخ النشر: 17th, August 2025 GMT
هل يوجد ما يسمى بحرب استنزاف العقول ، ولم حصر المسألة فى الثقافة العربية. هل هذا يعني أن الثقافة العالمية بمنأى عن هذه الحروب.؟!.
للإجابة على هذه التساؤلات إجابات موضوعية، فإنه ينبغي علينا أن نقوم بتبسيط المصطلحات حتى نحيط القارئ علما بما نكتبه له حتى يسهل عليه فهمه واستبصاره.
فما المقصود بحرب الاستنزاف في الأعراف العسكرية حرب الاستنزاف، محاربة العدو خلسة ومباغتته في غفلة من الزمن لاستنزاف قواه وتشتيت ذهنه العسكري بمعنى ضربه ضربا موجعا دون أن تصاب بأذى إلا نذر يسير.
هذا بالنسبة للاستنزاف في الحروب التي تعتمد على الآلات والمعدات العسكرية ، مثلما الواقع الآن على أرض غزة مما تعده فصائل المقاومة من أكمنة تستدرج خلالها قوات العدو الإسرائيلي إلى الحواري والأزقة والشوارع الجانبية ، ثم ينقضوا عليهم فيمعنوا فيهم قتلا وجرحت.
أما مصطلح استنزاف العقول ، فهو مصطلح دقيق وحساس ابتكره الكاتب من عندياته.
وإن جاز لنا أن نقدم تعريفا اصطلاحيا له ، فنقول ، هو عبارة عن اقحام العقول في مشاريع لا طاقة لها بها ، كمثلا اقحام العقل فى المنطقة المحرمة دينيا ، كأن يناقش العقل مسلمات تتعلق بالحدود ، ومحاولة تأويل النصوص ثبوتية الدلالة.
وهنا سيتعرض هذا العقل للاستنزاف ، من أجل إصابته بنزيف حاد لا يستطيع أن يقوى بعده على التفكير في أي شئ ، كيف ، سيدخلونه في ما يمكننا أن نطلق عليه المتاهة الفكرية التي تعتمد على السفسطة وعلى الجدل البيزنطي العقيم .
وهذا ما حدث مع مفكرين كبار ، لو توقشت أفكارهم بتؤدة وموضوعية ، بدلا من الحجر عليها من خلال عقول تحجرت وتقوقعت وتمركزت حول ما يسمى بمركزية النصوص الدينية وثبوتيتها ولا يمكن المساس بها.
النتيجة الحتمية ، حالة من الركود الفكري الديني ، أشبه الركود الذي حصل في العصور الوسطى مع الفارق.
فالعصور الوسطى لم تكن هناك آنذاك ثورة معلوماتية ولا سموات فضائية ولا شبكات تواصل عنكبوتية ، فحدث ما حدث ، فهناك من زج به في غياهب السجون ، وهناك من أحرقت كتبه ، وهناك من نفي وشرد ومات غريبا عن وطنه.
أما إذا تحررنا من هذه المركزية وفكرنا لا أقول قليلا خارج الصندوق ، وخرجنا عن الإطار (البرواز)، وأخذنا المحتوى ووظفناه توظيفا صحيحا لتغير حالنا الآن ، ولاستنارة العقول ولأصبح لدينا خطاب ديني يتواءم مع واقعنا المعاصر ومتغيراته.
ولأصبحت لدينا العقول المتفتحة التي تتصدى للهجمات الشرسة التي تتعرض لها عقول شبابنا ، ولأصبح لدينا عقول واعية بكل ما يقدم لها من مواد أو محتويات إعلامية عن طريق بعض تطبيقات مواقع التواصل الإجتماعي المنفلتة (كالتيك توك).
والنتيجة ، حدث ما لا يحمد عقباه استنزاف حاد للعقول واستقطابها لهاثا خلف شهوات الشهرة وجمع الأموال ، فراحت هذه العقول ضحية هذه الرجعية الفكرية التي دمرتها المرجعية المتخلفة ، والنتيجة المرتقبة التي فاحت رائحتها النتنة تملأ الأرجاء ، لا أقول في مصر فقط ولا في وطننا العربي وحسب بل في كل العالم ، الشرعنة للرذيلة ، البلطجة ، ترويج للمخدرات ، تجارة الأعضاء ، وما خفي كان أعظم.
إن هذا الموضوع جد مهم وخطير ولا يمكن بحال من الأحوال التخلي عن الكتابة عنه ، لأن من واجبنا القيمي والأخلاقي وواجبنا تجاه مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن نكتب ولا نتوقف لعل أحدنا يستطيع أن يقدم حلولا لوقف هذا الاستنزاف لعقولنا. هذه واحدة.
أما الثانية ، فترجع دقته وحساسيته إلى إنه له عدة تداعيات سواء على العقل الفردي أو على العقل الجمعي.
أما تداعيات هذه الحرب (حرب الاستنزاف) على العقل الفردي فيمكن تلخيصها فى النقاط التالية:
أولا: فإنه عندما يستنزف العقل الفردي ويستهلك طواعية أو رغم عنه ولا يجد تقديرا ، فإنه سيصاب بحالة من اليأس تدفعه إلى اللامبالاة والتوقف عن نشاطاته الإبداعية وهذا يضرب الثقافة ضربة قاضية .
أما استهلاكه طواعية أي بإرادة صاحبه فيقحم نفسه فى نشاطاته الإبداعية أيا كان نوع هذا الإبداع شعرا ، كتابة ، فنونا ، موسيقى ، ويتقدم للحصول على التكريمات التي تليق بمنتوجه الإبداعي ، ويفاجأ بأن الجوائز راحت أمام عينيه لمن هم أقل منه إبداعا وغزارة فى الإنتاج ، نتيجة عوامل خارجة عنه ، فإنه على الرغم من عدم تقصيره إلا أن عوامل للوساطة والمحسوبية تتدخل ويضرب بإنتاجه عرض الحائط ولدينا شواهد كثيرة لا أقول في مصر فقط بل فى الوطن العربى.
فالنتيجة الحتمية هي أنه سيصاب بالإحباط إلا إذا كان من أصحاب العزائم القوية ، لكن حتى هؤلاء سيصابون بالإحباط لكنهم قد يعودون إلى الإبداع.
أما استهلاك هذه العقول رغما عنها ، كأولئك المتفانون في أعمالهم ، المجدون في أشغالهم كأولئك الذين يقومون بإدارة مؤسساتهم دأبهم وشغلهم الشاغل الارتقاء بهذه المؤسسة بل ويبذل قصارى جهده ، لكنه لا يجد التكريم اللائق أو حتى الحافز المادي الذي يستر حياته هو وأسرته ويقيهم الحاجة والعوز ، فالنتيجة سيصاب باللامبالاة وسيتحول من أدرجي دينامو إلى موظف مكتبي ينتظر وقت انصرافه بفارغ الصبر ليبحث له عن عمل آخر.
ثانيا: حرب استنزاف العقل الفردي عن طريق فعل فاعل ، وهنا نعود إلى فكرة (المتاهة والنداهة) ، أما المتاهة ، فعن طريق إغراق هذا العقل بما يسمى بالانفتاح على الآخر ، فيفتح الآخر عليه ثقافته التي هي بعيدة كل البعد عن قيمه وأخلاقه وعاداته وتقاليده ، فبعد نشئته في مناخ يغلب عليه المحافظة ، لا أقول التشدد ، فنحن نرفض التشدد ، فيفتح الآخر عليه حداثته ومدنيته فيزيغ بصره أمام هذه الزخارف فينغمس في حفلات اللهو والترف والرقص والحفلات الماجنة غير مبالا لا بقيمه ولا بأخلاقه ولا بدينه ، المهم يشبع نهمه وشره الذي كان محروما منه من ذي قبل، وهنا تتحقق فكرة النداهة.
وهذا ما نجح فيه الأخر الغربي الآن في بعض بلداننا العربية والإسلامية ، فشغلت العقول الفردية عن الإبداع والتطوير والابتكار واكتفت بالراحة السلبية.
ثالثا: لكن السؤال هل كل العقول الفردية متساوية في هذا الأمر ، هل جميع العقول ستصاب بالإحباط واللامبالاة لكل ما تشاهده ولكل ما يحدث لها ، الإجابة ألمحت إليها آنفا ، طبعا لا ، فهناك أولوا العزم ، أولئك الذين سيقاومون هذا المد التغريبي الذي تنسحق معه وأمامه هويتهم الثقافية ، نعم هناك من سيقاوم وسيظل يبدع وينتج فكرا حتى لو ترك مكانه وبحث عن ملاذ يحقق فيه طموحاته كأن يسافر بحاثا عن مراكز ثقافية عالمية معتبرة تقدر أدبياته وفنونه وابتكاراته ورسوماته ، حتما سيجد صالات عرض عالمية يعرض فيها لوحاته وتاريخنا المصري والعربي المعاصرة يزخر بأسماء كثيرة جدا ملئت آفاق العالم ومنها من حصل على نوبل العالمية.
لكن أصدقكم القول ، بل وضرورة ملحة أن نكون صادقين مع أنفسنا ألسنا نحن أولى بأبنائنا ، لماذا نترك أولادنا ينجحوا بعيدا عن أحضاننا ، لماذا نترك خيرهم متمثلا في ابتكاراتهم يذهب لغيرنا.
لماذا لا نحتضنهم ونفتح أبوابنا أمامهم بدلا من أن نغلقها في وجوههم.
لذلك أهيب بالمسؤولين عن صراح الثقافة لا أقول في مصر وحدها وإنما في وطننا العربي والإسلامي ، أهيب بهم جميعا ، ابحثوا عن المبدعين الحقيقيين وتبنوا أفكارهم واحتضنوهم وانفقوا عليهم ، فما ستنفقونه اليوم سيعود على بلادكم أضعافا مضاعفة ولو بعد حين.
أما حرب استنزاف العقول الجمعية فلنا معها وقفات.
فللحديث بقية.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الثقافة العالمية حرب الاستنزاف حرب الاستنزاف لا أقول
إقرأ أيضاً: