لا يمكن وصف الوثيقة التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بأنها “خطة سلام”، إذ تفتقد مقومات ما يمكن تسميتها “الخطّة”، وهي، في أحسن الأحوال، إعلان مبادئ عامة. وهي ثانياً لم تتضمّن عناصر إرساء “سلام”. إذ لم تشر من قريب أو بعيد إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعتبر الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، ولا لحقوق اللاجئين التي أقرّتها قرارات الأمم المتحدة، بل اعتبرت تنفيذها في حينه شرطاً للاعتراف بإسرائيل.
ولم تشر الوثيقة إلى ما يجري في الضفة الغربية من استيطان استعماري، وتقطيع للأوصال تجاوز كل الحدود، ولا إلى ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني ومقدّساته من اعتداءات، بل تفاخر الرئيس الأمريكي بأنه اعترف بالضم غير الشرعي للقدس.
وإذا شئنا الدقّة، كانت خطّة ترامب وثيقة إعلان وقف حرب الإبادة على قطاع غزّة، رغم أنف نتنياهو ووزرائه الفاشيين، وتضمّنت اعترافاً ضمنياً بفشل مؤامرة التهجير والتطهير العرقي لقطاع غزّة التي أيدها ترامب سابقاً، وكانت ستؤدّي لو نجحت إلى تطهير عرقي آخر في الضفة الغربية.
اضطرّ ترامب إلى إعلان وقف الحرب لأربعة أسباب: أولاً، وقبل أي سبب، الصمود البطولي الباسل للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة رغم عظمة التضحيات التي زادت عن 250 ألفاً بين شهيد وجريح، وتدمير أو تخريب أكثر من 90% من بيوت القطاع وبناياته ومؤسساته. صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، وفشل مؤامرة التهجير استنهض العامل الثاني وهو ثورة شعوب العالم التضامنية التي تجاوزت كل الحدود، بل فاقت مثيلتها ضد نظام الأبارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا، وأجبرت حكومات غربية متردّدة على الاعتراف بدولة فلسطين، وهي ثورة عزلت إسرائيل عالمياً، فجاء ترامب بخطّته التي قال إن هدفها فك عزلة إسرائيل، وأرفق ذلك بقوله لنتنياهو “أنت لا تستطيع محاربة العالم”. وهي ثورة يجب أن تتواصل وتتصاعد، لا أن تتوقف لأنها من أهم عناصر قوة النضال الفلسطيني في المرحلة المقبلة.
العامل الثالث، ضغط الأحداث على البلدان العربية والإسلامية وعلى شعوبها، وشعور حكوماتها بخطر أن تؤدّي حرب الإبادة إلى انفجارات لا تُحمد عقباها، بالإضافة إلى إدراكها أن انفلات نتنياهو بعد اعتداءاته المتتالية على لبنان وسوريا، وهجومه الوقح على قطر، سيصيب الجميع خصوصاً أن نتنياهو صار يتصرّف كأنه الحاكم الإمبريالي الجديد للشرق الأوسط والخليج، يقصف ويضرب، ويعلن مقاصده تغيير خرائط الشرق الأوسط.
العامل الرابع، بلا شك التحول غير المسبوق في الرأي العام للشعب الأمريكي، خصوصاً بين جيل الشباب، والذي تجاوزت نسبة التأييد فيه للفلسطينيين أول مرة مثيلتها لإسرائيل.
لم يغير ترامب انحيازه المطلق والكامل إلى إسرائيل، ومشاركة إدارته، مثل إدارة بايدن قبله، في جرائم الحرب التي ارتكبتها، وقد تفاخر بذلك في الكنيست، عندما قال إنه أعطى لإسرائيل كل ما طلبته من أسلحة، بما فيها أسلحة لم تستخدم من قبل، “أحسنت إسرائيل استخدامها ” كما قال، في ما أصبح أسوأ حرب إبادة في التاريخ الحديث. ولن يتوقف ترامب، حتى بعد حفل إرضاء نرجسيته المفرطة في شرم الشيخ، عن محاولة تخليص إسرائيل من عزلتها أو عن الانحياز إليها. وقد سمعناه بعد توقيع خطّته يطلق التهديدات والوعيد ضد الفلسطينيين، وذلك يؤكّد أن الذي انتهى مرحلة من الصراع، وليس الصراع المفتوح نفسه، والذي لا يمكن أن ينطوي إلا بنيل الشعب الفلسطيني حرّيته وحقوقه المستباحة من إسرائيل، وفي مقدّمها حقه في تقرير المصير.
ولن تغير أوهام مسؤولين إسرائيلين بأنهم انتصروا ذلك الواقع، ولن يستجيب أحد لأحلامهم بأن يعلن الفلسطينيون استسلامهم. والحقيقة الصادمة لحكّام إسرائيل وحلفائهم أن الولايات المتحدة وكثيرين من أنصار إسرائيل في الغرب منحوها عامين كاملين، لتحقيق هدف التطهير العرقي، وفشلت، رغم أنها ارتكبت ثلاث جرائم حرب بالتوازي، بما فيها أم الجرائم، حرب الإبادة الوحشية. واضطرّ الرئيس ترامب أن يتراجع عن تصريحاته السابقة بترحيل أهل غزّة وتحويلها إلى ريفييرا سياحية للمستثمرين الرأسماليين.
لم ينته الصراع، وستواصل إسرائيل محاولاتها تغيير الدفّة، بدعم من ترامب، ولذلك المطلوب أقصى درجات الحذر واليقظة في مواجهة خمسة مخاطر. أولها خطر تجديد نتنياهو حرب الإبادة، بعد أن استردّ أسراه، أو التحول نحو افتعال الأسباب لشن عمليات عسكرية وقصف على قطاع غزّة، بما يشبه ما يجري في لبنان، وجيشه لم يتوقف تماماً عن الاعتداءات رغم دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.
مع أن إعادة الحرب الكاملة أمر بالغ التعقيد والصعوبة في ظل خسائر إسرائيل البشرية والاقتصادية، وحاجة جيشها غير المعتاد على حروب طويلة إلى إعادة تنظيم صفوفه. ولكن العامل الحاسم بمنع تجديد الحرب يبقى “عامل التضامن العالمي” الذي يجب تصعيده، وعدم السماح بأي حال بتراجعه.
ثاني المخاطر تلاعب الحكومة الإسرائيلية بالمساعدات الإنسانية واستخدامها وسيلة للابتزاز السياسي، وقد بدأت بذلك، إذ لم تنفذ بنود الاتفاق في إيصال المساعدات الإنسانية إلا جزئياً. ثالثاً، خطر تجدّد الحصار المحكم على قطاع غزّة، وعدم السماح بتفعيل معبر رفح في الاتجاهين، وهو أمر ستواصل إسرائيل المماطلة والتلاعب به. ورابعاً، خطورة استمرار بقاء جيش الاحتلال داخل قطاع غزّة وعدم تنفيذ الانسحابات المتفق عليها، وحتى كتابة هذا المقال كان الجيش الإسرائيلي يحتل حوالي 50% من مساحة القطاع الصغيرة.
وخامساً، خطورة استمرار (واتساع) التصعيد الاستعماري الاستيطاني والقمعي في الضفة الغربية ومدينة القدس. وهو تصعيد يمسّ جميع مناحي الحياة، ويهدّد بنسف أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
يترافق ذلك كله مع التحدّي الكبير، بفصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية عبر إخضاعه لإشراف وإدارة استعمارية أجنبية، بغرض دقّ الإسفين النهائي في فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة. وتتشارك في محاولة فرض المنظومة الأجنبية إسرائيل، وبعض الحكومات الغربية وطرف إقليمي. وذلك تحدٍّ خطير لا يمكن مواجهته إلا بوحدة الموقف الفلسطيني وتوافق فلسطيني سريع.
ولا بد من القول، في الختام، إن ذلك التحدّي كان من الممكن الوقاية منه ومن مخاطره لو طُبق اتفاق بكين، وما زال المجال متاحاً لذلك، إن توفرت النيات الصادقة والإرادة الوطنية والقدرة على تجاوز حساسيات الماضي وانقساماته التي لا علاقة لها بمصالح الشعب الفلسطيني.
*كاتب وناشط سياسي فلسطيني
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
السفير الفلسطيني في الدوحة ومنتدى الأطباء يشيدون بجهود قطر في دعم غزة
أشاد السفير الفلسطيني في قطر فايز أبو الرب، ومنتدى الأطباء الفلسطينيين في قطر، بالدعم المستمر والكبير الذي تقدمه دولة قطر للكوادر الفلسطينية في مختلف المجالات، والتي من أبرزها قطاع الصحة والعمل الإنساني.
جاء ذلك في زيارة اليوم الثلاثاء لوفد من منتدى الأطباء الفلسطينيين للسفير أبو الرب في مقر السفارة في الدوحة.
وقال السفير إن قطر مستمرة في جهودها الجبارة في دعم القطاع الصحي، سواء عبر استقبال جرحى حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، أو في دعم العمل الطبي والرعاية الصحية في داخل القطاع.
وشدد السفير أبو الرب على الموقف القطري الثابت والداعم للقضية الفلسطينية، مؤكدا على التزام القيادة القطرية الرشيدة بنصرة الشعب الفلسطيني، ومشيدا بدعم قطر للشعب الفلسطيني في نيل حقوقه المشروعة وفي مقدمتها الحق في الصحة.
دعم قطر للأطباءوأعرب أعضاء المنتدى عن شكرهم وتقديرهم لدولة قطر ودعمها المستمر للأطباء الفلسطينيين. من صور هذا الدعم كان إتاحة مؤسسة حمد الطبية الفرصة للأطباء الفلسطينيين للمشاركة في برامجها التدريبية التخصصية، حيث تعد مؤسسة حمد الطبية من أبرز المرافق الطبية في المنطقة.
واستعرض وفد منتدى الأطباء الفلسطينيين خلال اللقاء الخطة المستقبلية لعمل المنتدى، والتي تتركز على دعم القطاع الصحي في فلسطين عامة، وقطاع غزة بوجه خاص في مرحلة ما بعد الحرب، من خلال تنظيم ابتعاث وفود طبية من دولة قطر إلى غزة، والمساهمة في تنفيذ مشاريع طبية وخدمية مساندة للقطاع الصحي هناك.
وقدّم السفير عرضًا شاملًا للأوضاع الإنسانية الكارثية في قطاع غزة، وما يواجهه من تضييقات إسرائيلية على إدخال المساعدات الغذائية والمستلزمات الطبية، مشيدًا بالمبادرات الإنسانية للكوادر الطبية الفلسطينية في قطر، ودورهم الوطني في دعم أبناء شعبهم.
وفي ختام اللقاء، قدّم وفد منتدى أطباء فلسطين في قطر شهادة شكر وتقدير للسفير بو الرب، تقديرًا لجهوده في رعاية وتسهيل اليوم الطبي الثاني الذي نظمه المنتدى خلال شهر مايو الماضي.
دفاع في المحافل الدولية
وفي سبتمبر الماضي قال وزير الصحة العامة القطري منصور بن إبراهيم آل محمود، إن الكارثة الإنسانية في غزة جريمة حرب.
إعلانوجاءت تصريحات الوزير خلال مشاركة قطر في اجتماع مائدة مستديرة وزارية حول "الرعاية الصحية في قطاع غزة" استضافتها المملكة المتحدة، وذلك على هامش أعمال اجتماعات الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وأكد آل محمود أن الكارثة الإنسانية التي يعاني منها المدنيون في قطاع غزة نتيجة العدوان الإسرائيلي تمثل جرائم حرب، مشددا على أنه لا يجوز للعالم أن يلتزم الصمت إزاء هذه المأساة.
ودعا إلى تحرك فوري لوقف العدوان وإنقاذ الأرواح، وحماية المنشآت الصحية والعاملين فيها.
كما أشار آل محمود إلى الدور الذي تقوم به دولة قطر، قيادة وشعبا، في التضامن مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ودولة فلسطين ككل والتزامها بمساعدته.