د. احمد بن اسحاق

 

منذ مايو 2025م، دخلت اليمن مرحلة جديدة بإطلاق حكومة بن بريك خطة الإنقاذ، وقد أظهرت المرحلة الأولى نجاحًا واضحًا في استعادة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة وتعزيز استقرارها النسبي. تمكنت الحكومة خلالها من ترسيخ أسس الإدارة المالية وتحسين أداء بعض القطاعات الحيوية، مما وضع حجر الأساس للمرحلة التالية: مرحلة التعافي، التي بدأت بتوقيع اتفاقيات دعم الموازنة العامة والأمن ووقود الكهرباء هذا الأسبوع، وهي خطوة نوعية تختلف عن الودائع السابقة، ومن المتوقع أن تساهم تدريجيًا في تعزيز الخدمات العامة واستقرار مؤسسات الدولة.

لقد انعكس هذا التحول على مؤشرات الثقة في العمل المؤسسي، ومع وصول الدعم المتوقع، ستتمكن بعض المرافق الحكومية من استعادة وظائفها تدريجيًا، وستتحسن الكهرباء والأمن، وستتمكن الحكومة من توسيع نطاق الخدمات العامة بشكل أكثر استقرارًا.

 

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل ما نعيشه هو مجرّد “مرحلة إنقاذ اقتصادي” أم بداية مرحلة لإعادة توازن مؤسسي وإدارة الدولة بشكل أكثر فاعلية؟ فالمعطيات تشير إلى أن الدعم الاقتصادي مرتبط بتحسين أداء مؤسسات الدولة ووضوح الصلاحيات بين السلطات. قرارات تمكين رئيس الوزراء من كامل صلاحياته، واشتراطات الرباعية في تنسيق قرارات المجلس الرئاسي تشير إلى توجه نحو مزيدٍ من الانضباط المؤسسي وتوحيد القرار السيادي، بما يضمن وضوح خطوط المسؤولية ومنع التضارب بين مراكز القوى داخل الشرعية.

إن المقصود بإعادة الهيكلة أو التوازن المؤسسي ليس إقصاء أي طرف أو تقليص نفوذ مكوّن، بل ضبط العلاقة بين السلطات بما يحفظ التوازن الوطني ويمنع تضارب الصلاحيات. فالتجربة اليمنية خلال السنوات الماضية أظهرت أن غياب التوازن المؤسسي أضعف الجميع — الحكومة والمجالس والمكونات — وأفقد القرار الوطني قدرته على الإنجاز. إن الإصلاح المؤسسي هو صمام الأمان لكل طرف، لأنه يضع كل مسؤول في موقعه القانوني الصحيح، ويضمن عدالة توزيع المسؤوليات قبل توزيع النفوذ. من دون ذلك، تبقى الدولة عرضة للشلل مهما تضاعف الدعم الخارجي.

هذه المرحلة تفرض على الحكومة أن تتعامل مع الدعم الدولي كفرصة لإصلاح مؤسسات الدولة وتعزيز فعاليتها، لا كمنحة مالية مؤقتة. فالمطلوب ليس فقط تثبيت سعر الصرف أو توفير الوقود، بل تحويل هذه النجاحات إلى إصلاحات مؤسسية مستدامة. ومن أبرز الخطوات العملية المطلوبة:

 

تمكين الجهاز التنفيذي من المتابعة الدقيقة: على رئيس الوزراء إنشاء وحدة مركزية لمتابعة تنفيذ خطة الإنقاذ ترتبط مباشرة بمكتبه، وتضم ممثلين من المالية والتخطيط والكهرباء، تراقب الأداء أسبوعيًا وتصدر تقارير علنية للشفافية.

 

ترشيد الإنفاق وتحديث الأنظمة: على الوزارات والهيئات تقليص الازدواج الوظيفي وتحديث نظم الدفع الإلكتروني للمرتبات لتقليل التسرب المالي وضمان عدالة التوزيع.

 

الشراكة المجتمعية في الرقابة: المواطنون مدعوون للانتقال من ثقافة التذمر إلى ثقافة الرقابة الشعبية عبر أدوات التواصل والبلاغات المدنية، فكل مرحلة إنقاذ تحتاج شراكة واعية بين الدولة والمجتمع.

 

وبينما نركز على البناء والإصلاح، من المفيد الإشارة إلى بعض التحديات المحتملة، ليس لتحفيز القلق، بل لتوجيه الجهود بشكل مدروس وفعّال. فهناك حاجة إلى مراقبة الانقسامات السياسية والمناطقية بشكل واعٍ، والحفاظ على مستويات عالية من الشفافية لتفادي أي سوء فهم أو تضارب مصالح، وتأكيد قدرة مؤسسات الدولة على إدارة الأزمات بشكل جماعي ومسؤول.

 

الرهان الحقيقي اليوم ليس على حجم الدعم فقط، بل على كيفية استثماره لتعزيز استقرار الدولة ومؤسساتها، وتحقيق التنمية المستدامة. فالمال الخارجي مهما بلغ لا يُنقذ دولة إن لم تُنقذ نفسها أولاً من هشاشة القرار وتشتّت الإدارة. ومع أن الطريق طويل، فإن الخطوة الأولى قد وُضعت، ويبقى على الجميع — حكومة وشعبًا — أن يحافظوا على الاتجاه الصحيح ويستثمروا هذه المرحلة نحو بناء دولة قوية، عادلة، ومستقرة.

المصدر: موقع حيروت الإخباري

إقرأ أيضاً:

بين الوقود والرقابة… دولة تُجاهد لتواكب قائدها

ليست زيادة أسعار الوقود هي جوهر الأزمة، فالجنيه أو الجنيهان اللذان أُضيفا إلى لتر البنزين لا يصنعان كارثة اقتصادية، بقدر ما يكشفان عن منظومة رقابية عليلة، ومؤسسات فقدت قدرتها على التفاعل الذكي مع قرارات الإصلاح.

إن المعادلة أبعد من مجرد سعر للوقود، إنها مسألة بنية مؤسسية لم تُواكب بعد التحول الكبير في فلسفة إدارة الدولة. لقد اختارت القيادة السياسية منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مسؤولية الدولة طريقًا صعبًا، طريق الإصلاح الحقيقي الذي يقتلع جذور الترهل ويعيد بناء القواعد من الأساس. غير أن الإصلاح، مهما بلغت صلابته، يُجهض حين يمر عبر أنابيب بيروقراطية مسدودة، تُبطئ التنفيذ وتشوّه الرؤية، حتى تغدو القرارات الاستراتيجية رهينة لموظف يختبئ خلف ورقة أو توقيع.

فالمشكلة في مصر اليوم ليست في القرار، بل في المنظومة التي تنفذه. مؤسسات ما زالت تحمل جينات دولة مبارك الإدارية، دولة التحالف بين النفوذ المالي والسلطة البيروقراطية، حيث الرقابة شكلية، والتنفيذ روتيني، والعقل الإداري عاجز عن مجاراة عقل القيادة الذي يتحرك بسرعة الضوء في عالم رقمي لا ينتظر المترددين.

إن أي إصلاح اقتصادي حقيقي لا ينجح إلا إذا صاحبته ثورة في أدوات الإدارة. والإدارة الحديثة في العالم لم تعد تعتمد على التفتيش الورقي أو اللجان المتكررة، بل على منظومات رقمية ذكية توحّد المعلومات وتُحوّل المواطن من متلقٍ سلبي إلى مراقب فعّال.

في سنغافورة مثلًا، لا يمكن لأي تاجر أن يرفع سعر سلعة دون أن ينعكس ذلك فورًا في قاعدة بيانات مركزية تُحدث تلقائيًا، ويتلقى المواطن إشعارًا بسعرها الصحيح. وفي الإمارات، يُدار السوق عبر منصات ذكاء اصطناعي تراقب الأسعار لحظة بلحظة، وتضبط أي تلاعب أو احتكار دون حاجة لجيش من المفتشين.

ولذا، فإن الحل في مصر يبدأ من إعادة صياغة مفهوم الرقابة. نحتاج إلى إنشاء هيئة وطنية للحوكمة الرقمية والأسواق، تكون مستقلة فنيًا، وتضم خبراء في البيانات والاقتصاد السلوكي، وتعمل على إدارة قاعدة بيانات مركزية للسلع والخدمات، مرتبطة بكل المنافذ التجارية، مزودة بنظام باركود موحد يُلزم المنتج والتاجر بإعلان السعر الرسمي للمستهلك.

ومن خلال تطبيق ذكي للمواطنين، يمكن الإبلاغ عن أي تجاوز في السعر أو الغش في المنتج، ليُحال البلاغ تلقائيًا إلى خوارزمية ترصد الأنماط وتصدر الإنذارات إلى الجهات المختصة، فتتحول الرقابة من إجراء متأخر إلى رد فعل فوري استباقي.

إننا بحاجة إلى نقل الدولة من ثقافة “رد الفعل” إلى ثقافة “التحكم الذكي”، بحيث تصبح المعلومة والسعر والمخالفة في متناول النظام لحظة وقوعها، لا بعد أن تُصبح أزمة. وهذا لا يتحقق إلا بدمج القطاع الخاص في منظومة الرقابة عبر شراكات تشغيلية تحكمها معايير الشفافية، كما فعلت دول الاتحاد الأوروبي حين نقلت الرقابة من المكاتب إلى الأنظمة الرقمية.

ورؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي في هذا الاتجاه واضحة، فهو يتحدث منذ سنوات عن ضرورة التحول الرقمي، وربط كل مؤسسات الدولة بقاعدة بيانات موحدة، وإلغاء التعقيد الإداري الذي يعيق التنمية. غير أن الواقع يكشف عن فجوة خطيرة بين سرعة نظام الرئيس وبين بطء أجهزة الدولة التنفيذية.

فالرئيس يسابق الزمن في بناء الجمهورية الجديدة، بينما تتحرك البيروقراطية بخطوات مثقلة، تُبطئ الوتيرة وتفرغ الرؤية من مضمونها، وكأننا أمام دولتين تسيران بسرعتين مختلفتين: دولة الرؤية والإنجاز، ودولة الورق والختم.

إن الخطر الحقيقي ليس في ارتفاع الأسعار، بل في استمرار هذا التفاوت بين فكر القيادة ومناخ التنفيذ. فحين تكون القيادة تفكر بعقل المستقبل، والمؤسسات تعمل بعقل الماضي، تصبح كل خطوة إصلاحية معركة ضد الزمن.

ولذلك، فإن المرحلة المقبلة تستوجب إصلاحًا مؤسسيًا جذريًا، يعيد هيكلة الأجهزة الرقابية والإدارية وفقًا لمنظومة “الحوكمة الرقمية الذكية”، ويُخضع كل مسؤول لمؤشرات أداء زمنية دقيقة، فلا يُترك القرار فريسة للتباطؤ، ولا يُمنح المنصب لمن لا يجيد لغة العصر.

فالإصلاح الاقتصادي يشبه الدواء المر، لا يمكن رفضه، لكنه يحتاج إلى نظام صحي قوي ليستفيد منه الجسد الوطني.

ومصر، بكل ما تمتلكه من طاقة قيادة وشعب وموقع، قادرة على أن تتحول إلى نموذج في الانضباط والشفافية، إذا ما أُزيلت الحواجز بين القرار والرؤية، وبين طموح القائد وبطء المؤسسة.

لقد بدأ الرئيس السيسي مشروع الإصلاح بشجاعة القائد، وبقي أن تُجاريه مؤسسات الدولة بشجاعة التنفيذ، فالإصلاح لا يقاس بما نعلنه، بل بما نُطبقه على الأرض، وبالسرعة التي نصل بها إلى المواطن قبل أن يسبقنا وجعه.

مقالات مشابهة

  • كوشنر: نعمل على التأكد من استكمال المرحلة الثانية من اتفاق غزة
  • بشارة بحبح يوجه رسالة حملت توقيعه إلى أهالي قطاع غزة
  • تحديث بيانات حساب المواطن بشكل دوري.. ماذا لو امتنع المستفيد؟
  • بين الوقود والرقابة… دولة تُجاهد لتواكب قائدها
  • عمليات إنقاذ مستمرة لناقلة غاز قبالة اليمن.. ما علاقة الحوثيين؟
  • مصر تواصل إرسال المساعدات إلى غزة وتستعد لبدء مرحلة الإعمار.. تفاصيل
  • للمرة الثانية .. الحكم يرفض احتساب ركلة جزاء للأرجنتين أمام المغرب
  • ترامب يعلِّق الدعم المالي لكولومبيا.. ما القصة؟
  • مصر تدعو لبدء مفاوضات المرحلة الثانية من خطة ترامب حول غزة