إذاعات الغرف المغلقة.. حين يسقط الإعلام في فخ الإثارة الرخيصة
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
صراحة نيوز- ابراهيم قبيلات
على الهواء مباشرة، تُدغدغ الغرائز في حوارات لم نكن نظنها سابقا تدار إلا في خصوصية غرف النوم.
الآن، صرنا نسمعها في قنوات وإذاعات تبثها علانية، دون أن نكاد نجد صوتا مستنكرا.
إنها عملية “تعهير” للمجتمعات تجري بأفضل ما يمكن أن يثلج صدر إبليس.
لقد حفروا لنا على مدى سنوات قنوات صرف صحي لتسلك فيها أخلاقنا دروب الخراب، فسلكنا فيها جميعا.
المسألة تتجاوز الأمن القومي، بل إنها أبعد من أن تكون أزمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية بحتة. نحن أمام إفساد شامل يطيح بكل شيء، ولاشك أن له تداعياته الوخيمة على المدى البعيد.
الجميع يغرق في هذا المستنقع، ولا يستثنى أحد؛ لا البريء، ولا الشريك، ولا الصامت.
أما مروجو هذا “العهر” فهم في تيه مستمر. بدأ الأمر ببيع الأعراض والقيم مقابل حفنة من “الإعجابات” والمتابعين، ثم تمدد. وها هي مؤسسات إعلامية ترسخ لهذه الثقافة، حيث يسقط الإعلام في فخ الإثارة الرخيصة سعيا وراء ضغطة زر جديدة أو نسبة مشاهدة عابرة، وإن كانت مشمئزة.
ما نشهده في بعض البرامج الإذاعية المباشرة هو طفرة غير مسبوقة في تحطيم كرامة المجتمع. ما كان بالأمس القريب يعد همسا سريا أو نقاشا خاصا للزوجين، أصبح اليوم يُبث بصوت عال على الملأ. لقد انتقلت “غرف النوم” بكل تفاصيلها الحميمة إلى الشارع، وصارت مادة يُنتظر من المستمعين أن يضحكوا على “خفة دم” المتصل أو المذيع.
المشهد يتجاوز كونه استعراضا سطحيا يغذي الفضول السلبي ويحول العلاقات الإنسانية إلى مادة ترفيهية رخيصة.
إنه عملية إفساد منهجية ستُحدث طوفانا يغرق الجميع أو يحطم الكل.
المصدر: صراحة نيوز
كلمات دلالية: اخبار الاردن الوفيات أقلام مال وأعمال عربي ودولي منوعات الشباب والرياضة تعليم و جامعات في الصميم ثقافة وفنون نواب واعيان علوم و تكنولوجيا اخبار الاردن الوفيات أقلام مال وأعمال عربي ودولي نواب واعيان تعليم و جامعات منوعات الشباب والرياضة توظيف وفرص عمل ثقافة وفنون علوم و تكنولوجيا زين الأردن أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام
إقرأ أيضاً:
صمت الركام وصراع الذاكرة في غزة
حين يسدل القصف ستائره الدامية، ويخفت صوت القصف ليحل محله صمت ثقيل، لا يعني ذلك أن الحرب قد وضعت أوزارها ونفضت غبارها حقا في غزة، بل هي هدنة قصيرة تمنح الناجين فسحة لالتقاط الأنفاس، قبل أن يبدأ فصل جديد من الصراع، صراع الذاكرة مع الواقع. فبينما تتوقف القذائف والصواريخ، تبدأ قذائف الفقد والحزن الصامتة في الانفجار داخل الأرواح، يخرج السكان من أماكن الإيواء والخيم المرتعشة ليجدوا مدينتهم قد تحولت إلى أكوام دمار، ليست فقط مجرد أبنية مهدمة، بل هي أهرامات وتلال من الأسى، شُيدت على عجل بدموع وعظام وأشلاء الأحباء. إن المصاب الأكبر ليس في جدران تهدمت، بل في قلوب تمزقت وأرواح تعذبّت، وعائلات تبخرت، وأحلام أصبحت مجرد ركام.
إنها غزة ما بعد القصف والإبادة، حيث يصبح الحزن فيها هو التكوين الجيولوجي الجديد للأرض، والحداد هو اللغة الوحيدة التي يُجيدها الباقون.
صمت الركام وشهادة الغياب
الهدوء في غزة بعد توقف القصف ليس سكينة، بل هو صمت الركام الذي يصرخ بأسماء وذكريات الغائبين، إنه ثقل لا يُحتمل يترك مساحة واسعة للقلوب لتعي حجم الفاجعة بكل ثقلها. لقد أحصت النشرات الإخبارية أعداد الشهداء والمصابين بعشرات الآلاف، والمنازل والأبنية المدمرة كليا وجزئيا بالمئات والآلاف، ولكن هذه الأرقام، على ضخامتها، تبقى هياكل جامدة أمام الحقيقة الوجدانية، إنها مجرد كشوفات حساب لا تجيد رصد قيمة الروح البشرية، فكل رقم يمثل أسرة فُقد عمودها، وطفلا تيتم، وامرأة فقدت شريك حياتها. الفقد هنا ليس مجرد غياب، بل هو بتر روحي، لم يُتح حتى مراسم عزاء تليق به، فقد اختطف الموت أحباءهم بلا وداع، وتركهم يلملمون أشلاء الذاكرة بلا عزاء.. يتجوّل الأب بين بقايا منزله لا بحثا عن متاع، بل عن رائحة باقية، عن أثر لطفل بقيت لعبته تنتظر حضوره، كل خطوة فوق الأنقاض هي حنين موجع يحمل ثمن البقاء الباهظ، وكأن الناجي يدفع ضريبة العيش بقلب ممزق وروح موجوعة.
نزيف لا يتوقف في مرايا الأرواح
في هذه المرحلة الجديدة، تبدأ عملية إحصاء الخسائر الحقيقية التي تتجاوز أرقام المباني والضحايا بكثير؛ الخسائر هي تلك التي لا تُسجل في بيانات الأمم المتحدة، ودوائر الإحصاء، بل تُنقش بأحرف من نار في مرايا الأرواح الموجوعة؛ الأمان المفقود، والبراءة المسلوبة، والمستقبل المسروق. فإذا كانت الخسائر المادية تُقدر بالمليارات في البنية التحتية، فإن الخسارة الروحية لا تُقدّر بثمن ولا تداويها أموال الإعمار، بل هي جرح حضاري مفتوح. كيف ينام الطفل الذي شاهد سقف بيته يتهاوى؟ وكيف يبني الشاب خطة لحياة جديدة وهو يقف على أرض هُدمت كل معالمها التعليمية والصحية والاقتصادية؟ يجد أهل غزة أنفسهم أمام تحدٍّ وجودي، وهل يزرع الأمل في أرض ارتوت بالدماء؟
إنّ الفرحة بوقف إطلاق النار ممزوجة بحذر عميق وخوف مرير، خوف من عودة الكابوس، وخوف من أن يصبح النسيان جزءا من التعايش، إنهم يعيشون نزيفا مستمرا للمستقبل، وكأن الحياة نفسها تتعرض لاغتيال معنوي ممنهج.
الصمود كفعل مقاوم لا ردة فعل
تُرفع شعارات الإعمار، وتُعقد المؤتمرات، ولكن الإعمار الأهم والأصعب هو إعمار الأرواح المكلومة، بعد أن زحف بياض القهر إلى عيون الغزيين، وبعد أن أكل العذاب من جرف أحلامهم ما أكل.
بناء الجدران سهل، لكن ترميم القلب الممزق مستحيل، ومع ذلك، يبرز جوهر غزة الحقيقي، فمن تحت الركام لا يجد اليأس موطئ قدم، يحاولون النهوض بأيدٍ عارية وقلوب مثقلة، يقاتلون للحياة كي لا ينتصر الموت مرتين؛ مرة بالفقد، ومرة بالاستسلام لليأس. إن روح الصمود هنا ليست شعارا عابرا، بل هي فعل مقاوم يومي وممنهج، وليس مجرد ردة فعل على المأساة، فهذا الفعل يبدأ بتنظيف حطام المنزل والحي، وينتهي بزرع بذرة أمل في أرض الجار. يدرك السكان أن طريق التعافي طويل وشاق، لكن إيمانهم بأن الحياة تستحق أن تُعاش، وأن ذاكرة الشهداء يجب أن تُكرّم بالبقاء والعمران. هو الوقود الذي يدفعهم، إنهم يجدون في بعضهم البعض السند والمواساة، يتقاسمون النزر القليل من الموارد، والكثير من الوجع ليُعاد تدويره إلى قوة، ليعيدوا تشكيل ملامح مدينتهم ومخيماتهم من جديد، مُعلنين أن الإرادة هنا أقوى من التدمير.
خيط الأمل العنيد
غزة بعد توقف القصف هي مدينة معلّقة بين شهيق الحياة وزفير الموت، إنها ليست مجرد بقعة جغرافية، بل هي أسطورة الأساطير ومعجزة المعجزات، وبوصلة أخلاقية تكشف عجز العالم عن احتواء منظومة الحزن الأكبر.
إنها رسالة حُبرت بألم، مفادها أن النجاة من القصف لا تعني النجاة من الكارثة، ولكن وسط هذا البحر من الفقد والدمار، يظل هناك خيط رفيع من الصمود العنيد، يتدلى من سماء رمادية، هو إصرار الأهالي على البقاء، وعلى لملمة شتاتهم، وإعادة بناء ما يمكن بناؤه. فحتى في أشد اللحظات ظلمة، يرفض الفلسطيني في غزة أن يتحول إلى مجرد ضحية، بل يبقى صانعا للحياة بامتياز، يجدد الأمل في كل صباح كفعل تحدٍّ وصمود، سيعيدون بناء بيوتهم، لكنهم لن ينسوا، فالحزن والفقد أصبحا جزءا من هوية الأرض، وشاهدا أبديا على الثمن الباهظ للحياة والحرية، وعلى عظمة شعب يأبى أن يكون مجرد فصل منسي في كتاب التاريخ.