لجريدة عمان:
2025-10-29@20:46:48 GMT

الهشاشة النفسية

تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT

لماذا أصبحنا أكثر هشاشة؟ وما مستقبل الأجيال القادمة؟ هذا محور مقالتنا لهذا الأسبوع التي سأحاول فيها تغطية الموضوع تغطية شاملة قدر الإمكان، فما هي الهشاشة وما مفهومها وما المساوئ التي لن تتوقف عند الأفراد، بل يتعداها إلى المجتمع كله. نجد في لسان العرب في مادة «هشش» تعريف ابن منظور للهشاشة حيث يقول «هَشَشَ: الهَشُّ والهَشِيشُ مِن كل شيء: ما فيه رخاوة ولين، وشيءٌ هشٌّ وهَشيش وهَشَّ يَهِشُّ هَشاشَةً، فهو هَشٌّ وهشيش.

وخُبزَةٌ هَشَّةٌ: رخْوَةُ المَكْسَر.. وهَشَّ هشوشة: صار خوارا ضعيفا». أما في علم النفس فلم أجد الجواب الشافي للهشاشة، ولم أجد لها تعريفا علميا لكننا نفهمها بأنها الضعف الشديد الذي يشعر معه المرء بأنه لا يقوى على شيء.

أصبحت الهشاشة سمة يمكن رصدها بسهولة في قبيل كبير من الناس ولا سيما ممن اعتاد استعمال وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا، فلم تعد مقتصرة على المشاعر والأحاسيس وحدها، بل لحقتها الإرادة والقدرة على فعل الأشياء الطبيعية بحالتها الطبيعية كما اعتاد الناس على ذلك عبر العصور، فهي تجعل علاقة الإنسان مضطربة ضعيفة بنفسه وبالعالم المحيط به. فلم تشف التكنولوجيا الإنسان من وحدته، وهو مسكون بالخواء رغم الوفرة التي يمتلكها، ورغم انفتاحه في الحديث على العالم بأكمله في وسائل التواصل المختلفة المتنوعة إلا أنه منعزل انعزالا قاتلا في الوقت ذاته. إن وسائل التواصل الاجتماعي قائمة على المقارنات اللانهائية، في الشكل والملبس والمأكل والمشرب والكماليات. فهي واجهة اجتماعية ثقافية اقتصادية سياسية، فيشرئب المتشبع بها إلى الحصول على القيمة والمكانة منها، فهو يبحث عن الشهرة، عن الإعجاب، القبول، والمكانة المفقودة. لكن أين تكمن الهشاشة إذن؟ تتبدى الهشاشة حين تتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى شيء يُفقِد المرء ما أراده منها، فهو لا يحصل منها على ما يريد، بل يتعمق لديه الشعور بفقده ونقصانه، مما يعمق النقص الكامن بداخله ويزيده غورا.

يرى بعض الفلاسفة ومنهم نيتشه بأن الوعي لعنة ومرض يصيب الكائن المفكر، فهو يقارب الهشاشة من منظور مختلف وغير معتاد -وإن كنا نعرف البيت الشهير ذو العقل يشقى في النعيم بعقله- بما يشبه التنظير الفلسفي الذي نثره في مؤلفاته المختلفة بصيغ عدة. فالهشاشة عنده هي ذلك الضعف -يرى نيتشه الضعف مرضا- الذي يصيب الإنسان باعتباره شيئا حادثا، لا أصيلا في المرء. لكن هذا الوعي هو ما ينقذنا من الهشاشة أصلا؛ فالأمل والمرونة والنظرة التفاؤلية إلى الغد الذي يمكن أن يحمل في راحتيه ياسمين العمر القادم، كلها أشياء ممكنة الحدوث ولها دلائلها ونظائرها في التاريخ الإنساني الممتد. لكنه يختار أن يرى ما يريد.

لم نعد نتصدى للرياح العاتية بصلابة كما في السابق، بل ساد الشعور العام بالقلق والتيه والضبابية والرغبة الملحة في البحث عن معنى الوجود والحياة واستمراريتهما، وللقارئ أن ينظر إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعا في العالم كله، ليجد أن الكتب التي تعالج هذه الموضوعات هي المتسيدة للمشهد، بل والأدهى أن هنالك من الكتب ما يروّج للهشاشة والأمراض النفسية باعتبارها سمة فارقة تميز الإنسان عن أقرانه، وعلامة فارقة تستدعي الفخر لا العلاج! إن أسوأ ما يحصل للعلم، أن يتدخل فيه من لا يعلم، فقد تظل معلومة زائفة محفورة في أذهان الناس، بل وتنتشر انتشار النار في الهشيم باعتبارها الحقيقة الثابتة التي لا يمكن دحضها، وللمرء أن يتيقن في هذا السياق من المشهور عن تشارلز داروين العالِم الطبيعي، وهل قال فعلا بأن أصل الإنسان قرد، أم أن هذا مما ينسب إليه زورا وبهتانا!. وإن كان لهذه الكتب وهذه الموجة بارقة، فهي أنها لا تقدم الأمراض النفسية باعتبارها عيبا وخللا فاضحا يمس المرء في دينه، أخلاقه، تربيته، أوعائلته. بل يقارب الأمر مقاربة علمية تبحث في العلل والأسباب وتعالج جذور المشكلة. كما لو أن المرء يحصل على المفتاح الذهبي الذي يفتح له مغاليق نفسه.

إن وعي الإنسان بالموضع الذي هو فيه، والموقع الذي يريد الوصول إليه؛ هو الدافع والحافز الذي يحدد السبيل الذي سيسلكه لبلوغ ذلك الموقع وتلك المكانة. أكان الأمر داخليا، أي تلك الأمور القابلة للتحقيق لذات المرء ودون أن يعلم بها الآخرون، وهي التي تكون بين الإنسان ونفسه. أو تلك البارزة للعيان المتعلقة بفراغ يشغله، في العمل، المجتمع وغيرها؛ فالرغبة الداخلية بتغيير الإنسان لوضعه، تدفعه للعمل والفعل والمثابرة، لكن ما أصابنا هو الانتقال من البحث عن الأساسي والمفصلي والمحوري للحياة؛ إلى التوق والجوع إلى الكماليات. ففي غزة على سبيل المثال، لا يوجد للإنسان رفاهية الهشاشة النابعة من الوفرة، بل هو يقاوم كل شيء ليحيا يوما بيوم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: وسائل التواصل

إقرأ أيضاً:

د. آية الهنداوي تكتب: الشباب العربي والحرب المفقودة.. الصحة النفسية على صفيح ساخن

وسط الدمار والفوضى التي تتركها الحروب والتهجير القسري يعيش الشباب العربي واقعًا مريرًا يتجاوز الخسائر المادية ليصل إلى أعماق النفس. لم تعد الحرب مجرد صواريخ وألغام، بل أصبحت حربًا على العقل والروح حيث تتضاعف الضغوط النفسية والتوترات اليومية ويتعرض الشباب لموجات من القلق والإكتئاب والصدمات النفسية التي تؤثر على قدرتهم على التعلم والعمل وحتى بناء علاقات إجتماعية صحية.

التقارير الدولية تؤكد أن نسب اضطرابات الصحة النفسية بين الشباب في مناطق النزاع تفوق بكثير المتوسط العالمي مما يجعلهم فئة شديدة الهشاشة أمام أي أزمة جديدة. ومع ذلك، فإن الحديث عن الصحة النفسية في المجتمعات العربية غالبًا ما يظل مغيبًا أو مهملًا، بينما تتحول صرخات الشباب إلى أصوات مكتومة خلف الجدران المهدمة والمدن المشردة.

المبادرات المحلية والشبابية تعد بصيص أمل في هذا الظلام النفسي. برامج الدعم النفسي، المراكز المجتمعية، والمبادرات التعليمية التفاعلية تقدم للشباب فرصة لإستعادة بعض توازنهم النفسي وإعادة بناء مهاراتهم الإجتماعية والمهنية. لكن هذه الجهود رغم أهميتها تحتاج إلى دعم مؤسساتي وسياسات واضحة من الدول لتعزيز فعالية العمل النفسي والإجتماعي.

إن تجاهل هذا البعد النفسي للشباب لا يضر الفرد فقط، بل يشكل تهديدًا مستقبليًا للمجتمع بأسره. شباب اليوم هم القوة التي ستقود إعادة البناء غدًا، فإذا تركناهم غارقين في صراعاتهم الداخلية دون دعم فإن آثار الحرب لن تنتهي بتوقف القتال، بل ستستمر أجيالًا في صورة مشاكل إجتماعية وصحية ونفسية معقدة.

الأمر يحتاج إلى وعي جماعي، وإدراك أن إعادة الإستقرار للشباب لا تبدأ بالسياسة وحدها، بل بالاستماع لهم ومعالجة صدماتهم وتمكينهم من المشاركة الفعالة في بناء مستقبل منطقتهم. 
فالسلام الحقيقي يبدأ من العقل والقلب قبل أن يبدأ من أي إتفاق سياسي والشباب هم حجر الزاوية في هذا البناء.

الحرب لا تهدم فقط المباني، بل تهدم الأحلام والهوية. وكثير من الشباب يشعرون بفقدان السيطرة على مستقبلهم ويعيشون في حالة مستمرة من الإحباط واليأس مما يدفع بعضهم إلى الإنغماس في سلوكيات محفوفة بالمخاطر أو الإنسحاب التام من المجتمع ليصبحوا ضحايا صراعات لم يختاروها ويواجهون فقدان البوصلة الأخلاقية والإجتماعية. 
في هذا الواقع تلعب الأسرة والمجتمع المحلي دورًا أساسيًا كخط الدفاع الأول ضد الصدمات النفسية حيث يساهم الدعم الأسري المتماسك، وبرامج التوجيه المجتمعي والمجموعات الشبابية التفاعلية في إعادة بناء الثقة بالنفس وتخفيف آثار الصدمات، لكن في مناطق النزاع حيث تتفكك البنية الإجتماعية ويبقى الشباب غالبًا دون حماية أو إرشاد مما يضاعف الحاجة لتدخلات عاجلة ومستدامة. ورغم كل التحديات يظهر الشباب العربي قدرة ملحوظة على الإبتكار والتكيف من خلال مشاريع صغيرة لإعادة الإعمار ومنصات تعليمية رقمية ومبادرات نفسية مجتمعية تثبت أن الإستثمار في الشباب ليس رفاهية، بل ضرورة لبناء مجتمعات قادرة على التعافي والمقاومة وتحويل هذه المبادرات إلى برامج مؤسسية يمكن أن يكون الفارق بين مجتمع محطم وآخر قادر على الصمود. ولا يمكن أن تتحقق أي إصلاحات حقيقية دون تدخل الدولة بجدية ووضع سياسات واضحة لدعم الصحة النفسية للشباب في مناطق النزاع من خلال توفير الموارد وتدريب المختصين ووضع برامج استباقية، فالمستقبل لن يُبنى إلا إذا أصبح الشباب محور أي إستراتيجية للتنمية والسلام.

وأضيف من خلال هذا السياق ، أنه لابد من التعاطف التام مع أجيال الحروب، فالشباب الذين نشأوا في مناطق النزاع لم يعرفوا طفولة طبيعية أو استقرارًا نفسيًا وإجتماعيًا. 
فهم بحاجة إلى فهم عميق لدواخلهم والتقدير لمعاناتهم اليومية، وليس مجرد تقديم حلول سطحية. التعاطف الحقيقي يعني توفير الدعم النفسي والفرص التعليمية والمساحات الآمنة للتعبير عن الصدمات والمخاوف ليتمكنوا من استعادة شعورهم بالكرامة والأمل وبناء مستقبلهم الشخصي والإجتماعي بعيدًا عن دائرة الخوف واليأس.

فالشباب العربي هم المستقبل وصوتهم وصمودهم يمثلان الأمل الحقيقي في عالم ملأته الحروب والفوضى. ولا يمكن إعادة بناء المجتمعات أو كسر دائرة العنف دون الإستثمار الفعلي في قدراتهم النفسية والإجتماعية والتعليمية. ومسؤوليتنا الجماعية أن نمنحهم الدعم و الإستماع والفرص ليصبحوا قادة التغيير فكل جيل يتجاوز آلام الحروب هو خطوة نحو السلام والإستقرار والتنمية وكل لحظة اهتمام بهم اليوم تزرع أسسًا لمجتمع أكثر قوة 
وتماسكًا غدًا.

مدرس بكلية الآداب ـ جامعة المنصورة.

طباعة شارك الشباب العربي الضغوط النفسية اضطرابات الصحة النفسية

مقالات مشابهة

  • مسؤول مصري ينصح بـمجالسة الحمير لتحسين الصحة النفسية
  • أحمد السعداوي يفتح أبواب الفكر الإنساني في “واحة الكتب”
  • زاهي حواس يفجر مفاجأة: ما ورد في الكتب السماوية لا يوجد في النقوش الفرعونية
  • ظاهرة التصهين والحرب النفسية.. أنا أقاوم إذن أنا موجود
  • بالشراكة مع «الصحة العالمية».. ليبيا تطلق الاستراتيجية الوطنية لـ«الصحة النفسية»
  • “أونروا”: الآلاف من سكان غزة يعانون من الصدمات النفسية
  • تأثير السوشيال ميديا على حياتنا النفسية والاجتماعية
  • د. آية الهنداوي تكتب: الشباب العربي والحرب المفقودة.. الصحة النفسية على صفيح ساخن
  • نصف المقررات وصلت… بنغازي تبدأ توزيع الكتب وترفع نصاب المعلمين لسد العجز