مقدمة المترجم

ما الذي جعل الدولار عملة عالمية مهيمنة؟ وما الذي استفادته الولايات المتحدة على مدار عقود من هذا الوضع؟ ولماذا يرغب العديد من دول العالم في تغييره؟ تُجيب ليل برينارد، زميلة في مركز بساروس بجامعة جورجتاون، والزميلة الأولى في مركز موسافار – رحماني بكلية كينيدي بجامعة هارفارد، والمديرة السابقة للمجلس الاقتصادي الوطني، والنائبة السابقة لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، والوكيلة السابقة لوزارة الخزانة الأميركية، عن هذه الأسئلة وغيرها من خلال مراجعة مختصرة لكتاب "دولارنا.

. مشكلتك" (Our dollar, Your problem) للخبير الاقتصادي الشهير كينيث روغوف.

وفقا للكاتبة، تحقق هيمنة الدولار فوائد مهمة للولايات المتحدة، فهي تُقلِّل من تقلبات الأسعار في التجارة الخارجية الأميركية، وتُمكِّن واشنطن من الاقتراض بسخاء وبتكلفة منخفضة، وتمنح الحكومة الأميركية أدوات قوية لمعاقبة خصومها. فيما تُسهم عوامل القصور الذاتي الاقتصادي "Inertia" (المقاومة الكامنة في الأنظمة الاقتصادية تجاه محاولات التغيير) وجدارة المؤسسات السياسية والمالية الأميركية في استمرار هذه الهيمنة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أفول الهيمنة الأميركية.. صعود الصين والمأزق في الشرق العربي والإسلاميlist 2 of 2فيلسوف تنبأ بالصراع الحالي بين واشنطن وبكين وتوقّع مستقبل أميركاend of list

من هنا تأتي المخاطر الجمة لسياسات التعريفات الجمركية الأميركية والهجوم الذي تشنه إدارة ترامب على المؤسسات المالية المستقلة، وأهمها الاحتياطي الفيدرالي، وتجعل الدولار أقل جاذبية. وتجادل برينارد أن استمرار هذه السياسات على المدى الطويل سوف يقوّض هيمنة العملة التي يعتمد عليها جزء كبير من السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة.

نص الترجمة

على مدار أكثر من سبعة عقود، هيمن الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي، حيث تُستخدم العملة الأميركية اليوم في نحو 90% من معاملات الصرف الأجنبي. وتُسعَّر النسبة الأكبر من التجارة الدولية، بما في ذلك 74% من تجارة آسيا و96% من تجارة الأميركتين، بالدولار. ويُمثِّل الدولار 58% من احتياطيات البنوك المركزية خارج الولايات المتحدة، وفي جميع أنحاء العالم، تُفضل الأصول المقومة بالدولار بشدة على الأصول المقومة بغيره من العملات.

إعلان

وتحقق هيمنة الدولار فوائد مهمة للولايات المتحدة، فهي تُقلِّل من تقلبات الأسعار في التجارة الخارجية الأميركية، وتُمكِّن واشنطن من الاقتراض بسخاء وبتكلفة منخفضة وتمنح الحكومة الأميركية أدوات قوية لمعاقبة خصومها. وكما يُجادل الخبير الاقتصادي الشهير كينيث روغوف في كتابه الجديد والجذاب "دولارنا.. مشكلتك"، فإن استبدال عملة مهيمنة أمرٌ بالغ الصعوبة.

فالقصور الذاتي الاقتصادي "Inertia" (المقاومة الكامنة في الأنظمة الاقتصادية تجاه محاولات التغيير) قوةٌ جبارة تُبقي الدولار في الصدارة، وتضيف المؤسسات السياسية والمالية الأميركية قوة أخرى. ورغم استياء العديد من الدول من نظام الدولار، لم يُقدّم أيٌّ منها بديلا قويا بما يكفي للتغلب على مزاياه. لكن روجوف يُحذِّر أيضا من أن هيمنة الدولار ربما بلغت ذروتها، مُشيرا إلى أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى صياغة سياساتها بعناية إذا أرادت الحفاظ على مكانتها المتميزة.

على مدار عقود، تبنَّت الإدارات الأميركية المتعاقبة سياساتٍ عززت، أو على الأقل تجنَّبت، تقويض هيمنة الدولار. فقد احترمت استقلالية الاحتياطي الفيدرالي والتزامات الولايات المتحدة الدولية، بما في ذلك دورها بوصفها وصيةً على النظام المالي العالمي.

ومع ذلك، تُهاجم إدارة ترامب الدعائم المؤسسية التي تُشكِّل أساس مكانة الدولار. إنها تختبر حدود السلطة التنفيذية، ولا تلقى مقاومة تُذكر لقيامها بذلك، كما أنها تحاول إضعاف استقلالية السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي واستقلالية الوكالات الإحصائية الرسمية التابعة للحكومة، وتُشكك في التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها وشركائها.

تتخذ إدارة ترامب هذه الخطوات في الوقت الذي تُقدم فيه سياساتٍ تعتمد استدامتها على الحفاظ على امتياز الدولار، كما يظهر مشروع قانون الإنفاق الضخم الذي وقّعه الرئيس دونالد ترامب في يوليو/تموز، ومن المتوقع أن يزيد الدين القومي الأميركي بشكل كبير خلال العقد المقبل.

وإذا تآكلت هيمنة الدولار، فسوف تتآكل قدرة واشنطن على الاقتراض أيضا، وسترتفع تكلفة خدمة ديونها. وإذا اقترن ارتفاع فوائد الدين الفيدرالي مع انخفاض حاد في قيمة الدولار، فقد تجد الحكومة الأميركية خياراتها المالية مقيدة بطرق ربما تُلحق ضررا دائما بالاقتصاد.

تُمكِّن هيمنة الدولار الولايات المتحدة من الاقتراض بسخاء ودفع فوائد أقل بكثير على ديونها مقارنة بالعديد من الدول الأخرى (الأوروبية)عملة فوق القمة

هناك العديد من الأسباب الموضوعية لتربع الدولار فوق عرش العملات. يُتيح استخدام الدولار الأميركي للدول الأجنبية ممارسة أعمالها التجارية في جميع أنحاء العالم دون الحاجة إلى الاحتفاظ بأرصدة عملات دول متعددة، وهكذا يكون تنويع الاقتصاد بعيدا عن الدولار مكلفا للغاية، إذ يتطلب الاحتفاظ بأرصدة عدد كبير من العملات وإدارة مخاطر التعرض لتقلبات كلٍّ منها.

ومع ذلك، فقد اختبر حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حدٍّ سواء مكانة الدولار، وكما يوضح روغوف، لم يمتلك أيٌّ من هؤلاء المتحدين المقومات اللازمة لتحقيق الهيمنة أو استبدال العملة الأميركية. على سبيل المثال، منذ ظهور منطقة اليورو عام 1999، انخفضت حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي من 71% إلى 58%، بينما احتفظ اليورو بالمركز الثاني بنسبة 20%.

إعلان

لكن روغوف يُصرّح محقا بأنه سيكون من الصعب على اليورو أن يستبدل الدولار ما لم يعتقد المستثمرون الأجانب أن أسواق الدين الرسمية المُقوّمة باليورو يمكن أن تضخ سيولة كافية، الأمر الذي يتطلب تجاوز القيود السياسية والمؤسسية على إصدار المزيد من الديون المدعومة من الدول الأوروبية بشكل مشترك.

كما ازدادت حماسة الصين وروسيا للبحث عن بدائل للدولار مع تزايد مساعي الولايات المتحدة وحلفائها لاستخدام نظام المدفوعات المُقوّم بالدولار لفرض العقوبات. ففي أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 على سبيل المثال، حدّت واشنطن وحلفاؤها من وصول البنوك الروسية إلى أنظمة الدفع الدولية، وفرضت سقفا سعريا على صادرات النفط الروسية، وجمّدت الأصول السيادية الروسية بها في الخارج.

وتعمل الصين الآن لتقليل تعرّضها للمخاطر ولو جزئيا، مع شركاء من بينهم البرازيل والهند وروسيا، وذلك عبر تطوير نظام دفع بديل باستخدام اليوان الصيني أو (الرنمينبي) ، كما تعمل بكين مع دول أخرى لوضع معايير لمعاملات العملات الرقمية عبر الحدود، مستفيدةً من غياب الولايات المتحدة عن هذا المجال.

لكن روغوف يشير إلى أن هذه الجهود الرامية إلى تدويل الرنمينبي (العملة الصينية) وإزاحة الأنظمة القائمة على الدولار ستفشل ما لم تُجرِ الصين إصلاحات جوهرية. ولن تتمكن بكين من منح المستثمرين الأجانب الثقة في قدرتهم على تسييل أصولهم بالرنمينبي متى احتاجوا إلى السيولة إلا من خلال تحرير أسواق رأس المال واتخاذ خطوات لتوسيع أسواق سندات الرنمينبي والحد من تقلباتها.

أوراق نقدية صينية من فئة مائة يوان (غيتي)امتيازات الهيمنة.. وعواقبها

في ستينيات القرن الماضي، ندَّد فاليري جيسكار ديستان، الذي أصبح لاحقا رئيسا لفرنسا، بهيمنة الدولار والمزايا التي يوفرها للولايات المتحدة، واصفا إياها بـ"امتياز باهظ" أو "مفرط". ويتعامل روغوف مع هذه المزايا، بالإضافة إلى أعباء هيمنة الدولار، بقدر من الإنصاف. فبما أن الولايات المتحدة قادرة على الاقتراض من الدول الأجنبية وتسديد ديونها بعملتها المحلية، فإن الآخرين هم الذين يتحملون مخاطر تقلبات أسعار الصرف.

عمليا، يعني ذلك أن الولايات المتحدة تملك حصانة نسبية ضد تقلبات أسعار العديد من الواردات والصادرات الأميركية. وبصفتها الدولة المُصدرة للعملة المهيمنة في نظام المدفوعات الدولي الرسمي، تتمتع الولايات المتحدة برؤية واضحة للمعاملات العابرة للحدود، وتحظى بوسائل قوية لفرض عقوبات تعوق تلك التدفقات. كما تتمتع واشنطن بنفوذ واسع على قواعد النظام المالي الدولي، فهي العضو الوحيد الذي يتمتع بالقوة التصويتية اللازمة لنقض قرارات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

أكثر من ذلك، تُمكِّن هيمنة الدولار الولايات المتحدة من الاقتراض بسخاء ودفع فوائد أقل بكثير على ديونها مقارنة بالعديد من الدول الأخرى، وهي ميزة بالغة الأهمية، لا سيما مع ارتفاع ديون الحكومة الأميركية وتزايدها باستمرار.

وتستطيع واشنطن الاقتراض بتكلفة زهيدة نسبيا نظرا لاستعداد المستثمرين الأجانب للتنازل عن بعض امتيازاتهم مقابل "العائد التفضيلي" (Convenience yield) لسندات الحكومة الأميركية (بمعنى أن المستثمرين يقبلون عائدا أقل لأنهم يحصلون على ميزة السيولة العالية والأمان، مما يسمح للحكومة الأميركية بالاقتراض بتكلفة أقل من معظم الجهات الأخرى).

وقد شهدت هذه الأصول الآمنة عالية السيولة طلبا قويا نظرا لإمكانية الاعتماد عليها للحفاظ على قيمتها في أوقات الضائقة المالية، ولكونها الضمانة الأساسية للعديد من المعاملات المالية الدولية.

ويُسلّط روغوف الضوء على التقديرات الأخيرة التي تُشير إلى أن الحكومة الأميركية توفر ما لا يقل عن 140 مليار دولار سنويا من تكاليف خدمة الديون الدولية نتيجة انخفاض الفائدة التي تدفعها على قروضها، وهو رقم قد يصل إلى 600 مليار دولار سنويا، إذا أخذنا بالاعتبار مدفوعات الديون التي يحتفظ بها المستثمرون المحليون.

إعلان

هكذا يمكننا أن نفهم ما تعنيه سمعة الدولار بوصفه أصلا آمنا يرتفع الطلب عليه بشدة خلال أوقات الأزمات المالية، ما يُمكِّن الولايات المتحدة من اقتراض مبالغ طائلة حتى في خضم الأزمات الاقتصادية الطاحنة.

على سبيل المثال، خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 والركود الاقتصادي عام 2020 وسط جائحة "كوفيد-19″، تمكنت حكومة الولايات المتحدة من تخفيف تأثير الصدمات الاقتصادية على الشركات والعمال والأسر الأميركية وضمان انتعاش أسرع مقارنةً بالدول الأخرى بفضل هذه الميزة التي يوفرها الدولار.

ومع ذلك، فإن هيمنة الدولار ليست مفيدة للولايات المتحدة من جميع الأوجه. يشير روغوف إلى الوضع التاريخي الذي يشير إلى أن الدول ذات العملات المهيمنة هي ذاتها الدول ذات القوة العسكرية الرائدة، وأن تلك القوة العسكرية تكون مكلفة للغاية. كما يجادل بأن ممارسة مبادلة الدولار مؤقتا مقابل العملات الأجنبية من عدد قليل من البنوك المركزية الكبرى في لحظات الأزمات المالية ربما يُمثِّل عبئا على الولايات المتحدة، رغم أنه في الحالات النادرة التي استُخدمت فيها هذه المبادلات، كما حدث خلال الأزمة المالية لعام 2008 وفي بداية الجائحة، فإنها عززت الاستقرار المالي الأميركي دون تكبد أي تكلفة فعلية.

ولعل العبء السياسي الأبرز لهيمنة العملة الأميركية كان العيب التنافسي الذي تكبدته الشركات الصناعية والعمال في أميركا خلال الفترات التي كان فيها الدولار الأميركي قويا للغاية. على سبيل المثال، من عام 2000، أي العام الذي سبق انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، إلى عام 2005، لم تسمح الصين للرنمينبي بالارتفاع في قيمته الاسمية مقابل الدولار الأميركي، رغم زيادة صادراتها إلى الولايات المتحدة ثلاثة أضعاف.

وقد كان لهذا المزيج آثار مدمرة طويلة الأمد على الوظائف والتصنيع في المدن الصناعية في جميع أنحاء الولايات المتحدة. ومع ذلك، لم تكن هيمنة الدولار في حد ذاتها هي التي تسببت في هذه الخسائر، بل تضافر السياسات الصناعية والتجارية الصينية، وتدخلها في سوق العملات، وفشل المسؤولين الأميركيين في مواجهة هذه الممارسات بفعالية.

تحطيم الهيمنة

عموما، سيستفيد الأميركيون من الحفاظ على هيمنة الدولار التي استمرت على مدى العقود السبعة الماضية. ويتطلب استمرار هذه الهيمنة أن تظل الأوراق المالية المقومة بالدولار الأميركي جذابة للمستثمرين الأجانب.

ويؤكد روغوف أن ما يرتكز عليه هذا الجذب هو قوة المؤسسات والمعايير الأميركية: استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وسيادة القانون، وسجل من المشاركة الدولية الموثوقة. هذه المؤسسات الأميركية تحمي من ارتفاع التضخم وتحفظ حقوق الدائنين، وتحافظ على الوصول إلى أسواق رأس المال، وتحافظ على جدارة ائتمانية قوية. وقد حمت هذه الأسس مكانة الدولار حتى مع تقلب السياسة الأميركية وظهور منافسين أجانب في أكثر من مناسبة.

وتستند آفاق استمرار هيمنة الدولار إلى مزايا وضع الهيمنة الراهن (والقصور الذاتي الاقتصادي) ومرونة المؤسسات الأميركية. المشكلة هي أن كتاب "دولارنا.. مشكلتكم" ينتهي عند انتخابات الولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لذا فإنه لا يتفاعل مع الخطوات التي اتخذها ترامب في ولايته الثانية وقد تتحدى تلك الافتراضات.

بداية، رفعت إدارة ترامب من جانب واحد الرسوم الجمركية على الواردات الأميركية إلى مستويات لم نشهدها منذ قانون سموت-هاولي للرسوم الجمركية لعام 1930 (قانون رفع الرسوم الجمركية بشكل كبير على أكثر من 20 ألف سلعة مستوردة بهدف حماية الشركات والمزارعين الأميركيين من المنافسة الأجنبية).

ووعد وزير الخزانة سكوت بيسنت "بمئات المليارات من الدولارات سنويا من الإيرادات، وهو ما يرتبط بانخفاض مئات المليارات من السندات التي يتعين على الخزانة إصدارها" حسب قوله. وفي المحصلة ارتفعت الرسوم الجمركية بمتوسط 17% على جميع الدول، بزيادة ثمانية أضعاف تقريبا مقارنة بالعام الماضي. ولم يسلم حلفاء الولايات المتحدة من ذلك، فحتى المملكة المتحدة، الشريك الوثيق الذي تحقق معه الولايات المتحدة فائضا تجاريا، تواجه رسوما جمركية بنسبة 10%.

يتجاهل هذا الإجراء الأحادي للإدارة السلطة الدستورية للكونغرس في تحديد الرسوم الجمركية. وقد وجدت محكمة استئناف فيدرالية بالفعل أن الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها ترامب تُمثل تجاوزا بموجب قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية (IEEPA) لعام 1977. ونظرا لأن الإدارة فرضت تعريفات جمركية دون مراعاة اتفاقيات التجارة الأميركية القائمة، فقد أثارت شكوكا حول مصداقية الالتزامات الاقتصادية الدولية للحكومة الأميركية، وهي دعامة مهمة للثقة في نظام الدولار.

إعلان

علاوة على ذلك، شككت إدارة ترامب مرارا وتكرارا في استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي في وضع السياسة النقدية. ولكي يظل المستثمرون الأجانب على استعداد للاستثمار بكثافة في سندات الخزانة منخفضة العائد، فيجب أن يكونوا على ثقة بأن الولايات المتحدة لن تخسف أموالهم بسبب التضخم، ويُعد استقلال البنك المركزي أمرا حيويا لهذه الثقة. وفي هذا الصدد، يقدم روغوف حجة مقنعة، مفادها أن سندات الخزانة الأميركية اعتبرت أصولا آمنة جزئيا لأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي حافظ على استقلاله السياسي وسجله في تحقيق تضخم منخفض ومستقر منذ منتصف الثمانينيات.

هكذا يمكننا أن نفهم كيف أن خطر تصاعد التضخم، وارتفاع البطالة المصاحب لتعريفات إدارة ترامب، وضع لجنة صنع السياسة النقدية التابعة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في موقف صعب. انتقد الرئيس الاحتياطي الفيدرالي لعدم خفضه أسعار الفائدة بالسرعة الكافية، وهدد بإقالة رئيسه، وأقال واحدة من محافظي الاحتياطي الفيدرالي دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة -رغم أن محكمة جزئية ومحكمة استئناف فيدرالية منعتا هذه الخطوة-، وعيّن محافظا جديدا هو أحد أعضاء طاقم البيت الأبيض، وكلاهما سابقة تاريخية.

كل هذا يُمثِّل هجوما غير مسبوق على استقلالية المؤسسة. وقد أوضح ترامب أنه يعتقد أن الاحتياطي الفيدرالي يجب أن يخفض أسعار الفائدة لخفض مدفوعات الفائدة على الدين الوطني الذي سيزيده مشروع قانون الإنفاق الخاص به، مدعيا أن رئيس الفيدرالي جيروم باول قادر على تحقيق "توفير يقارب تريليون دولار بجرّة قلم".

ولكن إذا اعتقد المستثمرون أن الاحتياطي الفيدرالي سيعطي الأولوية لإدارة الديون على تفويضه القانوني بمكافحة التضخم، فسيطالبون بعوائد أعلى على سندات الخزانة لتعويض ارتفاع التضخم المتوقع، وسترتفع مدفوعات الفائدة الفيدرالية بدلا من أن تنخفض.

وبالمثل، بعد أن أصدر مكتب إحصاءات العمل تقرير التوظيف في يوليو/تموز الذي أظهر ضعف نمو الوظائف، أقال ترامب رئيس الوكالة الذي تأكد تعيينه في مجلس الشيوخ. تُهدد هذه الإجراءات الاستقلال المؤسسي للوكالات الإحصائية الرسمية وسلامة البيانات التي تُنتجها. ومن ناحية أخرى، تعتمد ثقة المستثمرين في قوة الدولار وسلامته على ثقتهم في جودة الإحصاءات الحكومية الأميركية المستخدمة لتقييم حالة الاقتصاد والنظام المالي الأميركي.

اللعب بالنار

مما يثير القلق أن كل هذا يحدث في الوقت الذي يضيف فيه قانون الإنفاق الجديد أكثر من 4 تريليونات دولار على مدى عشر سنوات إلى الدين الوطني الأميركي. يُمثل الدين الأميركي بالفعل نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وترتفع تكاليف الفائدة على الدين سنويا. وبينما تخطط إدارة ترامب لمزيد من الاقتراض، فإن هجومها على أسس هيمنة الدولار يُهدد المزايا التي تضمن الطلب على سندات الخزانة الأميركية، وأسهمت في توفير أكثر من تريليون دولار من مدفوعات خدمة الدين على مدار عقد من الزمن.

لقد ظهرت بوادر ذلك بالفعل. ففي أعقاب إجراءات ترامب مباشرة، تفاعلت الأسواق المالية بحِدَّة مع تحركات الإدارة العدوانية وغير التقليدية لرفع الرسوم الجمركية أو تهديد استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فارتفعت عوائد سندات الخزانة الأميركية طويلة الأجل، مما زاد من تكلفة الاقتراض للحكومة الأميركية وفقد الدولار جزءا من قيمته.

ردًّا على ذلك، خففت الإدارة من إجراءاتها. ففي التاسع من أبريل/نيسان، وبعد أسبوع واحد فقط من إعلان ترامب عن فرض تعريفات جمركية شاملة، الذي أدى إلى ارتفاع عوائد سندات الخزانة، وضعف الدولار، وهبوط سوق الأسهم، أوقف الرئيس تطبيق التعريفات لمدة 90 يوما.

ولكن بعد أن نشر ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي في 17 أبريل/نيسان تلويحا بإقالة باول، وصرح كيفن هاسيت، مدير المجلس الاقتصادي الوطني، علنًا في اليوم التالي أن الإدارة تدرس خيارات لتحقيق ذلك، تفاعلت أسواق الأسهم والسندات الأميركية بالطريقة نفسها، وانخفض الدولار مجددا. لذلك في 22 أبريل/نيسان اضطر ترامب للتراجع مجددا مُصرّحا بأنه "لا ينوي إقالة باول".

ومع ذلك، سيكون من الحماقة المراهنة على أن بدائل الدولار ستكون غير كافية لدرجة أن واشنطن ستواصل انتهاك المعايير والالتزامات الراسخة دون عواقب. فرغم أنه لا توجد عملة واحدة تتمتع بجميع السمات اللازمة لتحل محل الدولار، فإن هناك خطرا كبيرا من أن تتضاءل مركزية الدولار بمرور الوقت. لقد انخفضت بالفعل حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية بأكثر من عشر نقاط مئوية منذ عام 2000. ويشهد الابتكار في مجالي التمويل والمدفوعات تطورا سريعا، وتعمل الدول المنافسة جاهدةً على ابتكار بدائل للنظام القائم على الدولار.

إنّ حُجّة الحفاظ على امتياز الدولار أقوى من أي وقت مضى، إذ يتطلب العجز المتضخم باستمرار إبقاء تكاليف خدمة الدين منخفضة. علاوة على ذلك، تتطلّب إستراتيجية واشنطن في استخدام العقوبات لتعزيز مصالحها الأمنية الوصول إلى الأدوات المالية التي يُتيحها وضع الدولار.

ولكن إذا واصلت الإدارة الحالية هجماتها على استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي والوكالات الإحصائية الرسمية، واستمرت في تقويض مصداقية الالتزامات الدولية للولايات المتحدة، فقد يُقوّض ذلك هيمنة الدولار التي يعتمد عليها جزء كبير من السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. من المهم التذكير أن الدولار ليس بمنأى عن المخاطر، وأن الوقت ليس مناسبا لاتخاذ خيارات خاطئة والاعتماد على الحظ السعيد وحده، وأنه إذا سقطت العملة الأميركية عن عرشها، فإن جميع الأميركيين سوف يدفعون الثمن.

هذا المادة مترجمة عن فورين أفيرز ولا تعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات أبعاد الولایات المتحدة من أن الولایات المتحدة ن الولایات المتحدة الحکومة الأمیرکیة الخزانة الأمیرکیة للولایات المتحدة الدولار الأمیرکی العملة الأمیرکیة الرسوم الجمرکیة ن هیمنة الدولار على سبیل المثال سندات الخزانة إدارة ترامب الحفاظ على ل الدولار العدید من من الدول ن واشنطن على مدار أکثر من ومع ذلک التی ت الذی ت إلى أن التی ی

إقرأ أيضاً:

ترامب يعرب عن استعداد الولايات المتحدة لإرسال مساعدات إلى جامايكا

أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استعداد الولايات المتحدة لإرسال مساعدات إلى جامايكا إذا لزم الأمر، عقب أن ضربها الإعصار "ميليسا" خلال الساعات الماضية.

ترامب يعلن قرب التوصل إلى اتفاقية تجارية مع كوريا الجنوبية

وقال ترامب - الذي يزور كوريا الجنوبية حاليا في تصريح نقلته شبكة "سي إن إن" الأمريكية اليوم الأربعاء - إن واشنطن تراقب الوضع عن كثب وعلى استعداد للمضي قدما في تقديم الدعم والمساعدات اللازمة، مشيرا إلى أن الإعصار يحدث في الوقت الحالي أضرارا جسيمة بالجزيرة.

وأشار إلى قوة الرياح المصاحبة للإعصار "ميليسا" وتصنيفه النادر بأنه من الفئة الخامسة - وهي الأعلى بين درجات الأعاصير- عندما وصل إلى اليابسة.

وأضاف الرئيس الأمريكي أنه معتاد على الأعاصير كونه مقيما في ولاية "فلوريدا" إلا أنه لم ير مثل هذا من قبل حيث أن الإعصار ببساطة يدمر كل شيء في طريقه.

وقد خلف الإعصار "ميليسا" بالفعل مسارا من الدمار أثناء عبوره منطقة الكاريبي، إذ لقي ثلاثة أشخاص في جامايكا مصرعهم أثناء محاولتهم قطع الأشجار، بينما توفي ثلاثة آخرون في هاييتي جراء الأمطار الغزيرة وشخص واحد في جمهورية الدومينيكان.

يذكر أن الأعاصير المدارية تتكون فوق المياه الدافئة للمحيطات، ويقول الخبراء إن ارتفاع درجات الحرارة العالمية يزيد من احتمالية حدوث عواصف شديدة .

ويبدأ موسم الأعاصير في المحيط الأطلسي في الأول من يونيو ويستمر حتى الثلاثين من نوفمبر كل عام.

مقالات مشابهة

  • الرئيس الكولومبي يواجه صعوبة في الحصول على راتبه بسبب العقوبات الأميركية
  • ترامب: العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان تشهد حالة من الازدهار
  • الولايات المتحدة تتوصل إلى اتفاق مع الصين بشأن المعادن النادرة
  • بعد ثلاثة عقود.. الولايات المتحدة تستأنف اختبار الأسلحة النووية بأمر من ترامب
  • الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية يتوصلان إلى اتفاق تجاري
  • عندما يهين نتنياهو الولايات المتحدة ورئيسها
  • ترامب يعرب عن استعداد الولايات المتحدة لإرسال مساعدات إلى جامايكا
  • كندا: تقدم ملحوظ في المفاوضات التجارية مع الولايات المتحدة
  • بايدن: الولايات المتحدة تعيش أياما مظلمة في عهد ترامب