عندما تتحدث ذاكرة المنازل المدمرة عن هادميها
تاريخ النشر: 1st, November 2025 GMT
غزة- «عُمان» من بهاء طباسي: في حي الزيتون شرق مدينة غزة، كان منزل عائلة كشكو يطلّ على شارع صغير، تتدلّى من شرفته ياسمينة لم تسقط رغم الغارات التي مزّقت الحي أكثر من مرة. في ذلك البيت المهدّم اليوم، كانت «أم وائل كشكو» تجلس كل صباح على أطلال المطبخ، تلمّ شظايا الأطباق وتجمع ما تبقّى من صور أبنائها في علبة معدنية قديمة كأنها تحفظ سرًّا لا تريده أن يضيع.
البيت الأول تعلّمت العائلة أن تتعامل مع الركام لا بوصفه موتًا، بل بوصفه ملفًّا قانونيًّا مفتوحًا. حين زارهم فريق من مركز الميزان لحقوق الإنسان، قدّمت أم وائل ما احتفظت به من أوراقٍ رسمية وصورٍ ملوّثة بالرماد، وأسماء الجيران الذين وثّقوا القصف. بعدها بشهرين، حمل أحد أفراد العائلة حقيبة صغيرة وسافر إلى باريس، حيث التقى بمحامين من منظمات فرنسية تسعى لتقديم أدلة ضدّ الجيش الإسرائيلي في قضايا تتعلق بجرائم الحرب السابقة.
في تلك الرحلة القصيرة، تحوّلت ذاكرة البيت إلى وثيقة، والوجع إلى شهادة قانونية. كانت أم وائل تتابع الأخبار بصمت، تضع كفّها على قلبها حين تسمع أن محكمة الجنايات الدولية قررت «فتح تحقيق أولي».
تقول: «أخشى أن تموت الأدلة كما مات الناس». ورغم الألم، ظلّت تجمع من تحت الركام أشياء صغيرة — مفتاح الباب الحديدي، ورق الطابو، شهادة ميلاد، ورائحة الطفولة العالقة في الحائط المكسور.
الآن، لم يعد البيت موجودًا، لكن أبناء كشكو يصرّون أن الحجارة تعرف من هدمها، وأن «لكل بيت ذاكرة لن تموت». على تلك الفكرة، يواصلون مراسلة المنظمات الحقوقية، يكتبون شهاداتهم بأقلامٍ مُرتعشة، كأنهم يوقّعون على وثيقة حياة جديدة.
تقول أم وائل في نهاية حديثها لـ«عُمان»: «أريد أن أدفن ابني بكرامة، لكنني أريد أيضًا أن يُحاسب من قتل حلمه.. لا أريد الانتقام، أريد فقط أن يعرف العالم أن هذا البيت كان حيًّا، وأنه قُتل عمدًا».
بيت الشاهد بعد أن هدأت أصوات الطائرات وبدأ الناس يعودون إلى أحيائهم بعد وقف إطلاق النار ظهر يوم الجمعة الماضي 10 أكتوبر 2025، اكتشف الغزيون أن بيوتهم المهدّمة لم تترك لهم مكانًا للنوم فقط، بل فراغًا في الذاكرة. فقد صار الركام دفترًا ضخمًا للأدلة: هنا جدار يحمل بصمة صاروخ، وهناك بابٌ محروق يروي قصة اقتحام. ومع مرور الأيام، صار بعض الأهالي يحتفظون بهذه البقايا لا للذكرى، بل للشهادة أمام العدالة.
يقول بسام زقوت، مدير جمعية الإغاثة الطبية في غزة، إن ما يجري اليوم في غزة هو «أكبر عملية توثيق شعبية في تاريخ النزاعات الحديثة»، حيث تحوّل المدنيون أنفسهم إلى شهود، وصار كل هاتف محمول جهاز أرشفة متنقل.
يضيف لـ«عُمان»: «الكاميرات صارت سلاحًا في يد الضعفاء، لكن تحويل الصورة إلى قضية قانونية يحتاج منظومة دولية لا تزال بطيئة ومتهاونة».
في شوارع غزة القديمة، يجلس الناس على أنقاضهم كأنهم في معرض ذاكرة جماعية، كل واحد يحمل قطعة من منزله ويروي قصتها. ورغم أن المشهد يبدو مأساويًّا، إلا أنه يكشف عن وعي قانوني جديد بدأ يتكوّن بعد الحرب، حين أدرك كثيرون أن العدالة لا تأتي من الصراخ، بل من توثيق التفاصيل الصغيرة: ساعة وقوع القصف، نوع الطائرة، اتجاه الريح، واسم الجار الذي صوّر الحادثة.
غير أن ما يقلق الحقوقيون هو أن هذا الجهد الهائل من التوثيق الشعبي قد يضيع إن لم يُنسّق ضمن إطار قانوني معترف به دوليًا. يوضح زقوت: «نحن نخشى أن تتحول هذه الذكريات إلى غبار رقمي، تُنسى كما نُسي آلاف الضحايا. العدالة تحتاج إلى ذاكرة منظّمة، لا إلى صورٍ متناثرة».
ذاكرة أخرى في حيّ تل الهوا، لم يتبقَّ من منزل فائزة عزام سوى حائطٍ واحدٍ مائل ودرجٍ لا يؤدي إلى مكان. كانت فائزة قد فقدت زوجها وابنها في قصفٍ ليليّ قبل عامين، لكنها ما زالت تأتي إلى المكان كل صباح. حين التقيناها قالت وهي تمسح الغبار عن حافة الجدار: «هنا كنا نجلس كل مساء، وهنا وقع الصاروخ. لم أجد إلا صورةً واحدةً لابني.. نصفها محترق، لكنها كل ما بقي من البيت».
تحكي فائزة أن رجال الدفاع المدني أعادوها بعد أسبوعين من القصف إلى أنقاض المنزل لتبحث عن أوراقٍ شخصية. لكنها لم تبحث عن أوراق. كانت تبحث عن شيء يشهد أنها كانت هنا. وجدت بطاقة مدرسية ودفترًا صغيرًا، فاحتضنتهما كما يُحتضن طفل غائب. تُبين: «أخذت الدفتر إلى مركز حقوق الإنسان، وقالوا لي إن كل ورقة مهمة. لم أكن أعلم أن الدموع يمكن أن تكون دليلًا».
منذ ذلك اليوم، صارت فائزة تجمع شهادات الجيران وتوثّقها على ورق بخطّ يدها. كتبت شهادات خمس نساء فقدن أزواجهنّ في الليلة نفسها. ترسلها عبر تطبيق واتساب إلى باحثة في مؤسسة «الميزان» اسمها رنا المصري، التي تتولّى أرشفة هذه القصص. «أخبرتني رنا أن كل شهادة تقترب بنا من العدالة»، تضيف فائزة بابتسامةٍ حزينة.
اليوم، صار الحائط المائل في منزلها شاهدًا صامتًا، تضع عليه صورة ابنها وشمعة صغيرة. حين تهبّ الريح من البحر، تتراقص الشعلة وتنعكس على الجدار المتفحّم. تقول فائزة: «ربما لا يعود البيت، لكن العدالة يمكن أن تبنيه من جديد، حتى لو في ذاكرة الناس».
البيت كوثيقة في مخيم جباليا شمال غزة، كان بيت عائلة عبد ربه واحدًا من أبرز رموز المأساة. في الحروب السابقة، فقدت الأسرة ثلاثة من أبنائها في قصفٍ مباشر، وأصبحت قصتها موثقة في تقارير «هيومن رايتس ووتش» و«أمنستي». لكن بعد الحرب الأخيرة، تغيّر المشهد: عاد الأب ليجد أن المنزل دُمّر بالكامل. لم يعد لديه شيء سوى كيسٍ صغيرٍ جمع فيه بقايا من البلاط والحديد وقطعة من صورةٍ علِقت على الجدار.
يقول ربّ العائلة في شهادةٍ لمركز «الميزان»: «حين رأيت الجرافة الإسرائيلية تهدم البيت في عام 2023، شعرت أنني أُمحى من الوجود». ومع ذلك، قرر أن يجعل من الركام أرشيفًا للذاكرة. نقل القطع الصغيرة إلى منزل أقاربه في بيت لاهيا، ووضعها في صندوق زجاجي وكتب عليه بخط يده: «بيت عبد ربه – الشاهد على الإبادة».
بعد أسابيع، زارهم فريق تحقيق تابع للأمم المتحدة. استمع إلى شهاداتهم وصوّر ما تبقى من الركام. أحد المحققين قال لهم: «كل حجر هنا يمكن أن يكون دليلًا». تلك الجملة كانت كافية لتغيّر نظرتهم إلى بيتهم. صار الأب يقول لأطفاله: «لا تبكوا على ما تهدّم، فربما يكون هذا الحائط هو الذي سيُدين القاتل».
يوضح زقوت: «ما يميز قصة عبد ربه أنها انتقلت من الألم إلى الوعي، من البكاء إلى الفعل. تحوّل البيت إلى وثيقة حيّة تُستخدم اليوم في ملفات التحقيقات الدولية التي تسعى لفتح قضايا إبادة جماعية ضدّ إسرائيل».
عدالة مؤجلة لكن العدالة، كما يقول طاهر البلتاجي من مؤسسة الميزان، «تسير ببطءٍ أشبه بالسير على الركام». فالمحكمة الجنائية الدولية ما زالت تتعامل مع آلاف الملفات من دون أن تفتح تحقيقًا شاملاً في الإبادة الجماعية، رغم توافر الأدلة والصور والأسماء.
يضيف البلتاجي لـ«عُمان»: «نحن لا نطلب معجزة، نطلب فقط أن تكون أرواح الضحايا ذات قيمة قانونية تساوي حياة بشر في أي مكان آخر».
من جهته، يوضح بسام زقوت أن هناك ثلاث خطوات عاجلة يجب تسريعها: أولًا، نقل الأدلة الميدانية إلى قواعد بيانات مؤمّنة خارج غزة، خشية ضياعها. ثانيًا، تفعيل التعاون بين المنظمات المحلية والدولية لتوحيد ملفات التوثيق. وثالثًا، الضغط السياسي عبر الدول الأطراف في اتفاقية جنيف لفرض مذكرات توقيف بحق المسؤولين العسكريين الإسرائيليين.
أما عصام يونس، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فيرى أن الإبادة في غزة لم تعد «مسألة محلية»، بل جريمة تمسّ النظام الدولي برمّته. يقول: «ما لم يتحرك القضاء الدولي الآن، فإن العالم سيعلن عمليًا موت العدالة». يضيف: «لدينا آلاف الصور والفيديوهات، لكن المطلوب ليس الأدلة فقط، بل إرادة سياسية لتحريكها».
ويؤكد يونس لـ«عُمان» أن الملفات المقدّمة إلى المحكمة الجنائية تحتاج إلى تجميع قانوني موحّد، لأن التشتت بين المنظمات الفلسطينية يُضعف القضية. لذلك يعمل المركز بالتعاون مع مؤسسات أوروبية لتجهيز ملفٍ متكامل حول «الاستهداف المنهجي للمدنيين»، يشمل قصص كشكو وعبد ربه وعزام وغيرهم.
ويرى الخبير في القانون الدولي محمود محارب، الأستاذ في جامعة القدس والباحث في العدالة الانتقالية، أن هذه القضايا قد تشكّل سابقة تُعيد تعريف مفهوم الإبادة في القرن الحادي والعشرين.
يقول محارب إن ما جرى في غزة «ليس إبادة آنية كحادثة واحدة، بل إبادة متقطّعة ممتدة في الزمن»، موضحًا خلال حديثه لـ«عُمان» أن الفرق الجوهري بين غزة وسربرنيتسا — التي شهدت في يوليو 1995 مقتل أكثر من ثمانية آلاف مسلم بوسني في أيامٍ معدودة على يد قوات صرب البوسنة — هو أن الإبادة في غزة «تحدث ببطءٍ، وتحت سمع العالم وبصره، وبغطاء سياسي دولي، ما يجعلها أخطر من الإبادة الفورية».
ويضيف محارب أن العدالة الدولية لم تعد تختبر قدرتها على المعاقبة فقط، بل على الاعتراف. «حين يعترف العالم أن ما جرى في غزة إبادة جماعية، سيُكتب فصلٌ جديد في القانون الدولي»، يقول. ويؤكد أن على المحكمة الجنائية الدولية «أن تتعامل مع هذه القضايا بوصفها امتحانًا لإنسانيتها، لا لإجراءاتها».
وعد العدالة في المساء، تعود أم وائل كشكو إلى الركام الذي كان بيتها، تجلس على حجرٍ ما زال يحتفظ بحرارة الحرب، وتقول: «ما عاد لي بيت، لكن بقيت شهادتي».
حينها فقط يُدرك المرء أن الركام في غزة ليس أثرًا للموت، بل وثيقة حياة، وأن كل جدار تهدم لم يختفِ، بل انضمّ إلى أرشيفٍ وطنيٍّ ينتظر أن يُفتح في قاعات العدالة.
على مقربة من البحر، يواصل المتطوعون جمع صور الشهداء وبقايا ممتلكاتهم، يُعنونونها بتاريخٍ وموقع، كأنهم يُعِدّون ملفًّا قضائيًا لشعبٍ بأكمله. وفي المراكز الحقوقية، يتكدّس الأرشيف ذاته في ملفات مصنّفة بدقة، بعضها سيصل إلى لاهاي، وبعضها سيبقى في غزة يشهد على صبرها ووعيها.
لقد تحوّلت المدينة كلها إلى أرشيفٍ حيّ للعدالة، يحرسه الفقراء والناجون. وحين تنعقد المحاكم يومًا ما، لن تكون الأدلة مجرد أوراقٍ أو صورٍ، بل أحياءً يروون قصصهم كما يروون أنفاسهم الأخيرة. ذلك هو وعد الذاكرة، ووعد العدالة المؤجلة، بأن الركام يومًا ما سينطق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لـ ع مان أم وائل فی غزة
إقرأ أيضاً:
«الشارقة للمتاحف» تعيد إحياء ذاكرة النباتات المحلية
الشارقة (الاتحاد)
افتتحت هيئة الشارقة للمتاحف معرض «النباتات المحلية في دولة الإمارات: من جذور الماضي إلى ظلال الحاضر» في متحف الشارقة للتراث، وذلك بحضور كل من عائشة راشد ديماس، مدير عام هيئة الشارقة للمتاحف، وميساء سيف السويدي، مدير هيئة الشارقة للمتاحف، بجانب عدد من المختصين في مجالات التراث والزراعة والثقافة.
ويستمر المعرض حتى 30 أبريل 2026، في مبادرة تحتفي بما تمثله النباتات من ذاكرة حيّة تربط الإنسان الإماراتي بأرضه وبيئته.
واستُهلت مراسم الافتتاح بتجربة استكشافية أخذت الحضور في جولة تعريفية للتعرّف على النباتات المحلية ودورها البيئي والثقافي. كما تم تنظيم ورشة عملية لصناعة «صابون السدر»، لتسليط الضوء على استخدام النباتات المحلية في الصناعات التقليدية والمنتجات الطبيعية. يعكس المعرض رؤية علمية وثقافية عميقة تدعو الزوار من المتخصصين والمهتمين للتأمل في علاقة الإنسان بالطبيعة من منظور تراثي عريق، عبر تجربة تعليمية ثرية تستعرض تنوع النباتات المحلية المنتشرة في مختلف مناطق الدولة.
46 نوعاً
يضم المعرض 46 نوعاً من النباتات الأصيلة التي لعبت دوراً محورياً في حياة السكان في الماضي، مثل شجرة الغاف، والسدر، والأرطا، والشوع (المورينجا)، إذ كانت مصدرًا للغذاء والدواء والمأوى، وأسهمت في الصناعات والحرف التقليدية التي شكّلت ملامح الحياة اليومية، كما يسلّط الضوء على حضور النباتات في الموروث الثقافي والاجتماعي من خلال الأدب الشفهي، ما يعكس مكانتها في الذاكرة الجماعية للمجتمع الإماراتي.
ويوفّر المعرض للزوار، فرصة فريدة ليستكشفوا عن قرب النباتات الجبلية والصحراوية والساحلية، والظروف البيئية الفريدة التي تؤثر على نمو كل نبات في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكيفية توظيفها في الحرف التقليدية وأوجه الحياة اليومية. كما يهدف إلى تعزيز الوعي البيئي لدى الجمهور وربط الأجيال الجديدة بقيم الاستدامة والحفاظ على الموارد الطبيعية.
التراث والهوية
أكدت عائشة راشد ديماس، مدير عام هيئة الشارقة للمتاحف، أن المعرض يجسد الرؤية الثقافية لإمارة الشارقة في ربط التراث الطبيعي بالهوية الوطنية، مشيرة إلى أن النباتات المحلية ليست مجرد عناصر طبيعية، بل هي ذاكرة حية تروي حكاية الإنسان الإماراتي وعلاقته المتناغمة مع بيئته.
وقالت «يبرز هذا المعرض مكانة النباتات في الموروث الشعبي الإماراتي، ويدعو إلى تقدير دورها في حياة الأجداد واستلهام قيمهم في المحافظة على البيئة. كما يترجم التزام الهيئة بتعزيز الوعي البيئي ونشر ثقافة الاستدامة من خلال تسليط الضوء على هذه الثروة الطبيعية التي تشكل جزءًا من ذاكرة المكان والإنسان».