ليست واشنطن اليوم مدينةً هادئة كما تبدو في صورها الليلية؛ إنها بركان تحت الرماد، كل صندوق اقتراع فيها يشبه غرفة عمليات تُدار فيها معارك النفوذ على مستوى الكوكب.

الانتخابات الأمريكية الجارية ليست مجرد سباق بين مرشحين، بل معركة وجود بين رؤيتين للعالم، بين نظام دولي يترنح، وقوى صاعدة تنتظر لحظة الانهيار لتملأ الفراغ.

منذ الحرب الباردة، لم يعرف العالم لحظة ترقّب كالتي يعيشها الآن. فكل دولةٍ، من بكين إلى موسكو، ومن طهران إلى القاهرة، تتابع النتائج كأنها معنية بها شخصيًا. لأن السؤال لم يعد “من يفوز؟”، بل “أيُّ عالمٍ سيتشكّل بعد فوز أحدهما؟”

الولايات المتحدة لم تعد مركز القرار فقط، بل صارت قلب العاصفة التي تحدد اتجاه الرياح السياسية في كل القارات.

عودة دونالد ترامب إلى المشهد الانتخابي قلبت الموازين كلها.

الرجل الذي هزّ المؤسسة الأمريكية من الداخل، يعِد من جديد بما يسمّيه “أمريكا أولًا”، وهي الجملة التي تُترجم في عواصم كثيرة إلى “العالم أخيرًا”.

أما خصومه في الحزب الديمقراطي، فيرفعون شعارًا ناعمًا عن “استعادة القيم” و“ترميم التحالفات”، لكنه شعار يخفي خلفه عجزًا عن مواجهة واقعٍ دولي تغيّر أكثر مما تحتمل مؤسسات واشنطن العتيقة.

وراء الستار، تدور المعركة الأعمق: من يملك القرار الأمريكي فعلًا؟

هل هي المؤسسات العسكرية والاستخباراتية؟

أم شركات السلاح والطاقة التي تُموّل الحملات وتُحرّك السياسات؟

أم الإعلام الذي يصنع الرأي العام، فيُسقط رؤساء ويرفع آخرين كما يشاء؟

هذه الانتخابات كشفت أن الديمقراطية الأمريكية، التي طالما قدمت نفسها كنموذج، لم تعد أكثر من واجهة لصراع مصالح تتقاطع داخليًا وتنفجر خارجيًا.

العالم العربي ينظر إلى هذا المشهد بعينٍ أكثر واقعية من ذي قبل.

فقد تعلّم أن لا يُراهن على الإدارات، بل على استقراره الذاتي.

من مصر إلى الخليج، لم تعد العواصم تنتظر إشارة البيت الأبيض للتحرك.

القاهرة وحدها أصبحت تكتب معادلتها الخاصة في ملفات الإقليم: في غزة، وفي ليبيا، وفي البحر الأحمر.

وهذا التحوّل هو ما يقلق مراكز القرار في واشنطن أكثر من أي شيء آخر - أن الشرق الأوسط بدأ يتعلم أن يقول “لا” بلغةٍ واثقة.

أما أوروبا، فترقب المشهد بارتباكٍ واضح:

القارة العجوز فقدت بوصلتها بين ولاءٍ قديم لواشنطن، وحاجةٍ ملحّة لاستقلال القرار بعد الحرب الأوكرانية.

في بروكسل، تُقرأ نتائج الانتخابات الأمريكية كأنها تقرير مصير:

هل تستمر أوروبا ظلًّا للولايات المتحدة؟ أم تبحث عن أمنها بعيدًا عن الهيمنة الأطلسية؟

في آسيا، تُراقب الصين بهدوء من خلف جدرانها العالية، بينما تراهن روسيا على أن الفوضى داخل أمريكا هي أفضل ما قد يخدم استراتيجيتها طويلة المدى.

الكل يعرف أن ما يجري في واشنطن ليس حدثًا داخليًا، بل إعادة توزيع للسلطة العالمية.

الاقتصاد الدولي، أسواق الطاقة، خريطة التحالفات، وحتى الحروب بالوكالة… كلها تنتظر ما ستقرره “الصناديق” الأمريكية.

لكن وسط هذا المشهد المتداخل، يطلّ السؤال الأخطر:

هل ما زالت واشنطن قادرة على قيادة العالم وهي غارقة في انقسامها الداخلي؟

هل تستطيع ديمقراطية مشوَّهة بالحروب الإعلامية والمصالح المالية أن تُلهم الآخرين كما كانت من قبل؟

ربما نحن أمام بداية نهاية “القرن الأمريكي”، حيث تنتقل القيادة من الغرب إلى عالمٍ أكثر توازنًا، أو أكثر فوضى.

القاهرة، بخبرتها التاريخية، لا تقرأ الانتخابات الأمريكية من منظور الأسماء، بل من منظور الاتجاهات.

تعرف أن التغيير في واشنطن لا يُقاس بالوجوه، بل بالتحولات داخل البنية الدولية.

ولأن مصر تعرف جيدًا لغة التاريخ، فهي تدرك أن من يفهم إيقاع واشنطن لا يتأثر به، بل يوظّفه لصالحه.

إن ما يجري اليوم ليس تصويتًا داخل صندوق، بل تصويتٌ على شكل النظام العالمي القادم.

ومن وسط الضجيج الأمريكي، تخرج الحقيقة الهادئة:

أن القوة لم تعد في من يملك السلاح فقط، بل في من يملك الرؤية.

والسؤال الذي يجب أن يبقى بعد أن تُغلق الصناديق هو: هل ما زالت واشنطن تحكم العالم… أم أن العالم بدأ يكتب تاريخه من دونها؟.

طباعة شارك ترامب دونالد ترامب أمريكا

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: ترامب دونالد ترامب أمريكا لم تعد

إقرأ أيضاً:

نمط الحياة الحديث السبب.. جيل الألفية معرض للسرطان أكثر من آبائه

يشير الخبراء إلى أن جيل الألفية (مواليد 1981-1995) يُعد أول جيل معرض لخطر الإصابة بالسرطان أكثر من آبائهم. ووفقا لموقع The Conversation، ارتفع عدد حالات السرطان المبكر في العالم بين عامي 1990 و2019 لدى الأشخاص دون سن الخمسين بنسبة 79%، بينما ارتفع معدل الوفيات بنسبة 28%.

وتوضح البروفيسورة ليديا بيغونيا هورلندر، أخصائية علم المناعة وبيولوجيا السرطان بجامعة سان خورخي الإسبانية، أن حوالي 80% من حالات السرطان لا تسببها طفرات وراثية، بل عوامل خارجية تؤذي الحمض النووي مع مرور الوقت، مثل الغذاء، الهواء الذي نتنفسه، النشاط البدني، النوم، التوتر، والتعرض للمواد الضارة.


العوامل الرئيسية المؤثرة:
1. النظام الغذائي:
تُعتبر عوامل نمط الحياة، وأهمها النظام الغذائي، مؤثرة بشكل كبير على الإصابة بالسرطان. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، كان في عام 2022 أكثر من 390 مليون طفل ومراهق (5-19 عاما) يعانون من زيادة الوزن، بينهم 160 مليون مصابون بالسمنة.
وترتبط السمنة بمقاومة الأنسولين، والالتهابات المزمنة الخفيفة، والتغيرات الهرمونية، مما يزيد خطر الإصابة بسرطان القولون والثدي وبطانة الرحم. وتبقى آثار سمنة الأطفال مستمرة مع التقدم في السن، حيث يكون أصحاب مؤشر كتلة الجسم المرتفع في المراحل المبكرة أكثر عرضة للإصابة بسرطان القولون لاحقا.
كما يؤثر النظام الغذائي الغني بالأطعمة المعالجة على ميكروبيوم الأمعاء، ويزيد من نسبة السلالات المنتجة لمستقلبات مسببة للالتهابات، ما يساهم في تطور أمراض الجهاز الهضمي المختلفة.

 

2. الكحول:
يعد الكحول ثاني أهم مسبب للسرطان، إذ تصنفه الوكالة الدولية لأبحاث السرطان ضمن المجموعة الأولى للمسرطنات، إلى جانب التبغ. ويؤدي الجسم الكحول إلى أسيتالديهيد، وهو مركب يضر الحمض النووي ويزيد من خطر الإصابة بالسرطان.

 

3. الحرمان من النوم والتوتر:
تشير الدراسات إلى أن جيل الألفية والجيل Z ينامون أقل بـ 30-45 دقيقة من جيل طفرة المواليد (Baby Boomers)، نتيجة زيادة استخدام التلفزيون وشبكات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى الضوء الاصطناعي الذي يعيق إنتاج الميلاتونين، هرمون مضاد للأكسدة ينظم دورة الخلية.
يؤدي الحرمان المزمن من النوم إلى إعاقة إصلاح الحمض النووي وضعف المناعة، مع تراكم الطفرات وزيادة خطر الإصابة بالسرطان.
كما يسجل ارتفاع مستوى الكورتيزول (هرمون التوتر) لدى جيل الألفية، ما يساهم في مقاومة الأنسولين وارتفاع ضغط الدم، ويضعف آليات الدفاع المناعي، ويزيد الالتهابات، وقد يحفز خلايا الورم الخاملة.


التوقعات المستقبلية:

وفقا للبروفيسورة هورلندر، من المتوقع أن يرتفع عدد حالات الإصابة بالسرطان من حوالي 20 مليون حالة في 2022 إلى ما يقرب من 35 مليون حالة في 2050، أي بزيادة إجمالية تقارب 77%. ومع ذلك، يمكن اتباع عادات صحية للحد من المخاطر، وتحسين جودة الحياة، وبالتالي تقليل عدد الإصابات بالسرطان.

مقالات مشابهة

  • د. آية الهنداوي تكتب: الإنترنت الأسود.. الوجه الخفي لعصر المعلومات
  • العلماء يحذرون من الزلزال الكبير.. هل اقترب موعده أكثر مما نعتقد؟
  • السوداني بين كفتي المقاومة والبيت الأبيض و العراق ساحة اختبار بين السيادة والضغوط  
  • ياسمين صبري: “أتمنى يجتمع تراثنا المصري القديم كله في المتحف الكبير”
  • نائب:لا تغيير في الانتخابات المقبلة
  • نمط الحياة الحديث السبب.. جيل الألفية معرض للسرطان أكثر من آبائه
  • قمة التنمية الاجتماعية.. قادة العالم يعتمدون "إعلان الدوحة السياسي" ويجددون الالتزام ببناء مجتمعات أكثر عدلا وشمولا
  • وول ستريت جورنال: هكذا يرى ترامب النظام العالمي
  • المرأة المصرية في المشهد الكروي العالمي .. ما القصة ؟