في الوقت الذي أصبحت فيه شبكة الإنترنت فضاءً مفتوحًا للتواصل والمعرفة والعمل يختبئ في أعماقها عالم آخر مظلم يُعرف بـ الإنترنت الأسود أو الدارك ويب (Dark Web) وهو الجانب السري والخفي من الشبكة الذي لا تصل إليه محركات البحث التقليدية ولا يمكن دخوله إلا عبر برامج خاصة مثل تور (Tor). هذا العالم الموازي الذي لا تراه العيون ولا تلمسه الأيدي هو موطن الفوضى الإلكترونية بكل معانيها.

الإنترنت الأسود هو جزء من شبكة الإنترنت العميقة التي لا تُفهرس من قبل محركات البحث مثل "جوجل" و"بينج". لكن بخلاف الإنترنت العميق الذي يضم بيانات آمنة كحسابات البنوك أو قواعد البيانات الجامعية، فإن الإنترنت الأسود يُستخدم غالبًا لأغراض غير قانونية أو غير أخلاقية حيث تُباع فيه الأسلحة والمخدرات والعملات المزيفة والبيانات المسروقة وحتى تُدار من خلاله عمليات تجسس وتجنيد إلكتروني.

يدخل الإنترنت الأسود في منطقة رمادية قانونيًا وأخلاقيًا، إذ لا توجد فيه رقابة ولا هوية واضحة للمستخدمين، فكل شيء يتم عبر التشفير الكامل وإخفاء العناوين.

هذه البيئة المظلمة جعلت منه ملاذًا للهاربين من العدالة ومسرحًا للجريمة الإلكترونية العابرة للحدود. لكن الأخطر أن هذا الفضاء لا يقتصر على تجارة الممنوعات، بل يمتد إلى الجرائم البشرية البشعة مثل شبكات الاتجار بالبشر واستغلال الأطفال وبيع الأعضاء البشرية في أسواق رقمية سرية تُدار كأنها مؤسسات تجارية منظمة.

تشير تقديرات حديثة صادرة عن مؤسسات أمنية دولية إلى أن حجم التعاملات المالية عبر الإنترنت الأسود يتجاوز مليارات الدولارات سنويًا، وغالبًا ما تُجرى هذه الصفقات باستخدام العملات المشفّرة مثل "البيتكوين"، التي تضمن عدم تتبع مصدر الأموال أو الجهة المستفيدة منها. وبذلك يتحول هذا العالم إلى إقتصاد موازٍ يعمل في الظل تغذيه الفوضى ويقوده غياب الأخلاق.

ولا تقف خطورة الإنترنت الأسود عند حدود الأفراد، بل تمتد لتصبح تهديدًا للأمن القومي للدول. فمن خلاله تُدار حملات التضليل والهجمات السيبرانية، وتسريب الوثائق الحساسة وترويج الفكر المتطرف.

 وأؤكد من خلال هذا أنه ساحة حرب رقمية غير معلنة تتصارع فيها الدول والجماعات في صمت وتُرسم من خلالها خرائط نفوذ جديدة داخل الفضاء الإلكتروني.

ورغم أن الإنترنت الأسود يُقدَّم أحيانًا على أنه ملجأ للحرية بعيدًا عن رقابة الحكومات والشركات الكبرى، فإن الحقيقة أكثر تعقيدًا. فذلك الفضاء المظلم لم يعد ساحة للباحثين عن الخصوصية، بل أصبح مرتعًا للجريمة المنظمة تُنتهك فيه كل القوانين، وتُباع فيه المعلومات كما تُباع السلع في الأسواق.

 كل شيء قابل للبيع هناك من بيانات الأفراد إلى برمجيات القرصنة، ومن جوازات السفر المزيفة إلى الوثائق السرية المسروقة من مؤسسات كبرى.

لقد تحوّل الإنترنت الأسود إلى دولة موازية بلا دستور تحكمها شريعة المال والخداع. لا هوية فيها ولا ضمير، فكل مستخدم يمكن أن يتخفّى خلف آلاف العناوين الإلكترونية ليصبح قاتلًا أو تاجرًا أو ضحية في آنٍ واحد. وما يثير الفزع أن هذا العالم لا يحتاج إلى عبقرية تقنية لدخوله، بل إلى بضع خطوات وفضولٍ قاتل، لتُفتح أمام الزائر أبوابٌ لا يمكن إغلاقها بسهولة.

ورغم الجهود الدولية المتزايدة لمحاصرته إلا أن الإنترنت الأسود يظل دائم التجدد كالأفعى التي تُبدّل جلدها كلما اقتربت يدٌ من الإمساك بها. كلما أُغلق موقع أو سقطت شبكة وُلدت أخرى أكثر احترافًا وأكثر قدرة على التمويه. هذه الطبيعة المتحوّلة جعلت مكافحته سباقًا مع الظل حيث لا يمكن ملاحقة ما لا يُرى ولا يُحدَّد.

غير أن الأخطر من هذا كله هو التأثير النفسي والفكري الذي يتركه هذا الفضاء على من يغامر بالتوغل فيه. فبعض الشباب ينجذب إليه بدافع الفضول ثم يجد نفسه وسط محتوى صادمٍ وقاسٍ يتجاوز حدود المألوف والإنساني. هناك تُهدم الحواجز الأخلاقية وتُشوَّه الفطرة الإنسانية تدريجيًا حتى يصبح العنف أو الإنحراف أمرًا اعتياديًا. وهكذا لا يُهدد الإنترنت الأسود الأنظمة الأمنية فحسب، بل يهدد البنية الأخلاقية للمجتمع بأسره.

إن العالم اليوم يقف أمام مفارقة مريرة التكنولوجيا التي صُنعت لتحرير الإنسان أصبحت في بعض جوانبها أداة لاستعباده. فبينما يعيش العالم على سطح الإنترنت في فضاء من التواصل والإبداع تنمو في أعماقه طبقة مظلمة تُغذّي الكراهية والفساد والتطرّف. هذا التناقض يعكس مأساة العصر الرقمي الذي منح الإنسان قوة لم يحسن استخدامها، وحريةً لم يتعلم كيف يصونها.

ولعلّ المواجهة الحقيقية تبدأ من تربية الوعي، لا من غلق الأبواب. فكل جدار يُقام في وجه الإنترنت الأسود يمكن تجاوزه بوسيلة تقنية، لكن الجدار الحقيقي هو وعي الإنسان وإيمانه بمسؤوليته الأخلاقية.

 إننا بحاجة إلى تربية رقمية جديدة تُعلّم الأجيال أن الإنترنت ليس عالمًا منفصلًا عن الواقع، بل امتدادٌ له وأن الظلمة التي نحاربها في الشبكة هي في حقيقتها ظلمة في داخل النفس البشرية.

ولمواجهة هذا الخطر لا يكفي التشريع أو المراقبة التقنية وحدها. فالمجتمع بحاجة إلى وعي رقمي حقيقي يبدأ من التعليم والإعلام لتربية أجيال تدرك كيف تستخدم الإنترنت بوعي ومسؤولية.

 كما أن التعاون الدولي في مكافحة الجرائم الإلكترونية أصبح ضرورة حتمية لأن الإنترنت الأسود لا يعرف حدودًا جغرافية ولا سيادة وطنية.

الإنترنت الأسود ليس مجرد مساحة خفية في الشبكة، بل هو مرآة مظلمة تعكس الجانب المظلم في النفس البشرية حين تنفلت من القيم والرقابة. ومع اتساع الإعتماد على التكنولوجيا، فإن التحدي الحقيقي ليس في إغلاق هذا العالم، بل في تطهير الإنسان من دوافعه التي تصنعه.

طباعة شارك الإنترنت الأسود المعلومات التكنولوجيا

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الإنترنت الأسود المعلومات التكنولوجيا أن الإنترنت هذا العالم

إقرأ أيضاً:

منال الشرقاوي تكتب: فيلم الساقية… حين يخاطب التاريخ أبناءه بأدوات عصرهم

ليست كل الأفلام تُروى؛ بعضها يُستعاد كذاكرة بصرية متجسدة.
ينتمي الفيلم الجزائري «الساقية» (2024) للمخرج نوفل كلاش إلى ذلك النمط من الأعمال التي تتعامل مع التاريخ كمساحة حية للتأمل في كيفية سرده واستعادته بصريًا. 

يقدم الفيلم تجربة رائدة في السينما الجزائرية من خلال مقاربة تحريكية ثلاثية الأبعاد تعيد بناء مجزرة ساقية سيدي يوسف (8 فيفري 1958) داخل رؤية فنية تتجاوز التوثيق المباشر نحو بناء تجربة حسية تستثير الوجدان قبل أن تستدعي الفهم.

بهذه المقاربة، يفتح الفيلم نقاشًا جماليًا حول قدرة الأنيميشن على استعادة الأثر الإنساني لما فُقد في الواقع، ويؤسس لسردية جديدة لذاكرة الثورة الجزائرية عبر أدوات السينما الرقمية التي تمزج بين التقنية والانفعال، وبين التاريخ كحدث والتاريخ كإحساس.

حين تُروى الذاكرة بعيون الطفولة
يرتكز فيلم «الساقية» على حبكة بسيطة في ظاهرها، عميقة في بنيتها الدلالية، عائلة مجاهد تضطر إلى اللجوء من «سوق أهراس» إلى «ساقية سيدي يوسف» على الحدود التونسية، حيث تنشأ صداقة بين الطفلين عمار (الجزائري) ومنصف (التونسي). غير أن هذه البراءة الطفولية لا تلبث أن تُقابل بوحشية القصف الاستعماري الذي يحول المكان إلى رماد، في مشهد يختصر المأساة الإنسانية للحرب.

تقوم هذه المعادلة السردية على ثنائية الذاكرة والبراءة، وهي ثنائية صاغها كاتب السيناريو والمنتج المنفذ «الطيب توهامي» بوعي درامي يوازن بين الوثائقي والتخييل، بين الذاكرة الجماعية والعاطفة الفردية. أما المخرج نوفل كلاش فاستثمر هذا البناء الذكي ليركز على التفاصيل الإنسانية الصغيرة –نظرة، حركة، أو لحظة صمت– باعتبارها حوامل للمعنى التاريخي أكثر من كونها عناصر للحبكة التقليدية.

تتبلور اللغة البصرية للفيلم بوصفها محور التجربة الجمالية بأكملها، إذ يتجاوز اختيار تقنية الأنيميشن ثلاثي الأبعاد حدود التجريب التقني، ليغدو أداة رمزية في حد ذاته. فالفيلم يوظف هذا الوسيط الرقمي لإعادة تشكيل الذاكرة خارج قيود التوثيق الفوتوجرافي، ما يتيح إعادة تخييل الكارثة بدرجة من التحكم الجمالي والترميز التعبيري.

توظف الكاميرا الافتراضية في حركات دائرية وانسيابية تحيط بالشخصيات، بما يحول المشهد إلى فضاء دائري يعيد تمثيل دورة الذاكرة والتاريخ؛ فالحركة تُقرأ هنا باعتبارها استعارة للحركة المستمرة للزمن داخل الوعي الجمعي.

وإذا كانت الصورة في «الساقية» تُعيد بناء الذاكرة عبر الضوء واللون، فإن الصوت يفعل ذلك عبر النغمة والهمس. تشكل موسيقى «أحمد فيرود» في الفيلم بعدًا حسيا مكملًا للبنية البصرية، فهي تأتي في موقع امتداد وجداني للصورة. تعتمد الموسيقى على تنويعات لحنية هادئة تتدرج من الشجن إلى الصمت، لتصبح أحيانًا أقرب إلى ذاكرة صوتية تتسرب إلى المشاهد أكثر مما تُسمع مباشرة. هذا الانضباط في التوظيف الموسيقي يمنح الإيقاع العام للفيلم طابعًا تأمليًا.

على مستوى الأداء الصوتي، يبرز الفنان «عبد الباسط بن خليفة» في دور الجد بصوت عميق متعب، يحمل في طبقاته حنينًا ووقارًا معًا. أداؤه يضفي على الشخصية ثقلًا وجوديًا، إذ يجسد فكرة «الذاكرة الناطقة» التي تنقل الحكاية عبر نبرات تفيض بالحكمة والانكسار. أما صوتا يسرى منار (عمار) وإيناس منار (منصف) فيضيفان طبقة نقية من البراءة تقابل خشونة العالم الخارجي، ليشكل التباين بين الأصوات الثلاثة بناء صوتيًا يوازي البناء البصري في معناه.
تحمل الأصوات ملمحًا محليًا يذكر ببيئة سوق «أهراس»، ما يمنح المشهد السمعي خصوصيته المحلية ويُرسخ الجغرافيا في أذن المتلقي كما تُرسخ الصورة المكان في ذاكرته البصرية.

بهذا الدمج بين الموسيقى والصوت، يتجاوز الفيلم مستوى التوثيق إلى تشكيل ذاكرة سمعية–بصرية متكاملة، تُعيد إحياء الحدث الماضي، كصدى مستمر في الحاضر.

في «الساقية» تتكثف التقنية داخل النسيج السردي؛ إذ تتحول أدوات التحريك الثلاثي الأبعاد إلى بنية أسلوبية تعبر عن فكرة الفيلم ذاتها، وهي استعادة الماضي عبر وسيط رقمي قادر على محاكاة الذاكرة. يعمل الفريق التقني الجزائري، الذي يضم أكثر من ستة عشر مختصًا في مجالات التحريك والمؤثرات البصرية، على بناء فضاء بصري يمزج بين الواقعي والتخييلي، مستعينًا بدعم مؤسساتي من وزارة المجاهدين وذوي الحقوق ووزارة الثقافة والفنون.

انطلقت مراحل التنفيذ سنة 2023 من مدينة الكاف التونسية، في اختيار يرمز إلى التماس بين الجغرافيا التاريخية التي شهدت المجزرة والفضاء الفني الذي يعيد سردها. هذا التلاقي بين المكان الحقيقي والعالم الرقمي يمنح الصورة عمقًا مزدوجًا، فهي تُحاكي التاريخ وتعيد تخييله في الوقت نفسه. ومع أن معظم الشخصيات في الفيلم خيالية المنشأ، إلا أنها تتحرك ضمن إطار واقعي موثق، ما يضع العمل في منطقة وسطى بين «الأنيميشن الواقعي» و«الخيال التاريخي التوثيقي».

هكذا تُستخدم التقنية كوسيط معرفي يُعيد الحياة لما غاب عن الصورة الأرشيفية، ويجعل الذاكرة حدثًا متجددًا في كل لقطة.

يستثمر «الساقية» بنيته الحكائية لتفعيل بعد فكري وإنساني يتجاوز التمثيل السردي البسيط. فمن خلال الصداقة البريئة التي تجمع بين الطفلين عمار (الجزائري) ومنصف (التونسي)، يستعيد الفيلم فكرة التضامن المغاربي في أحد أنقى تجلياتها، حين لا تتجسد الوحدة في الشعارات وإنما في عاطفة الطفولة ذاتها. بهذه العلاقة، يتحول الحدث المحلي إلى رمز إنساني كوني يعيد تأكيد قدرة الفن على ترميم ما تمزقه السياسة والتاريخ.

تغدو الساقية في هذا السياق أكثر من موقع جغرافي؛ إنها علامة رمزية للجرح المشترك بين الشعبين، واستعارة بصرية لامتداد الدم في الماء كما يوحي العنوان نفسه. فالماء هنا حامل لذاكرة الألم والتضامن في آن واحد. 
لا ينزلق الفيلم إلى خطاب سياسي مباشر، فقد اختار طريق أنسنة التاريخ من خلال بناء بصري وشاعري يتجاوز التوثيق نحو التأمل. وبهذا يُقدم «الساقية» نموذجًا لكيف يمكن للسينما، حتى في أكثر وسائطها رقميةً، أن تُعيد للحكاية الإنسانية مركزها في مواجهة النسيان.

في الحقيقة، لا ينتهي «الساقية»عند حدود حكايته؛ إنه عمل يبدأ من الحكاية لينفتح على أسئلة أوسع حول علاقة السينما بالذاكرة وبالجيل الذي يخاطبه. 
يشكل «الساقية» محطة مهمة في مسار السينما الجزائرية، والعربية أيضًا. إذ ينجح في الجمع بين الأنيميشن بوصفه فنا معاصرًا والذاكرة الثورية بوصفها مادة رمزية وإنسانية، ليقترح ما يمكن تسميته بـ الأنيميشن الوطني؛ أي توظيف الوسائط الحديثة في إعادة إنتاج الوعي الجمعي.

يتعامل الفيلم مع القصف الاستعماري كصدمة وجودية تنعكس في وجوه الأطفال وأصواتهم، فتتحول المأساة الجماعية إلى مرثية للطفولة المفقودة وإلى تأمل في هشاشة الحياة زمن الحرب. بذلك، يُعيد العمل رسم لحظة لم تلتقطها الكاميرات، لكن الفن –بخياله البصري وذكائه التكنولوجي– أعاد منحها حياة ثانية داخل الذاكرة الثقافية.

في نهاية التجربة، يقدم «الساقية» درسًا في إمكان الجمع بين الأصالة والابتكار، بين التاريخ والوسيط الرقمي، مؤكدًا أن السينما، حين تجرؤ على إعادة صياغتها، تستطيع أن تجعل التاريخ يخاطب أبناءه بأدوات عصرهم، لتجعل الذاكرة الوطنية فعلًا فنيًا حيًا يروي الحقيقة بروح معاصرة.

طباعة شارك منال الشرقاوي الاستعمار تونس مقالات صدى البلد

مقالات مشابهة

  • ياسمين عبده تكتب: زلزال واشنطن السياسي.. هل تغيّر الانتخابات وجه النظام العالمي؟
  • هند عصام تكتب: كاهن آمون الأكبر ماساهرتا
  • الضويني: الأزهر يعد بلا منازع القبلة التي يقصدها كل باحث عن الوسطية
  • ماذا نعرف عن التصويت الذي قد يجعل إيلون ماسك أول تريليونير أو يدفعه للرحيل عن تسلا؟
  • 108 أعوام على وعد بلفور: شهادة ميلاد الظلم ودم فلسطين الذي لن ينكسر
  • منال الشرقاوي تكتب: فيلم الساقية… حين يخاطب التاريخ أبناءه بأدوات عصرهم
  • صور جوية تُظهر الجمال الخفي للزراعة في كوريا الجنوبية
  • نهيان بن مبارك: العلم رمز لقيمنا وحضارتنا التي نفاخر بها العالم أجمع
  • رابطة العالم الإسلامي تعزي في ضحايا الزلزال الذي ضرب شمال أفغانستان