لجريدة عمان:
2025-11-08@19:07:33 GMT

هل نسينا الموت أم تناسيناه؟

تاريخ النشر: 8th, November 2025 GMT

نتناسى الموت أملاً في نسيانه، وطمعًا ربما في أن ينسانا هو بدوره. نتناساه ريثما ندبر حياتنا أو نستشعر عمق الوجود متناسين التهديد الدائم والمستمر للفناء والموت، والمرض، والخسارات. لكن الموت كما يبدو لا يعجبه تناسينا المفتعل، فيعيد تذكيرنا كل مرة بطريقة تهديدية. ولا شك أن الموت محق في نزعنا من تخدير التناسي وإعادتنا إلى الإفاقة، ولكننا نحن كذلك لا نملك وسيلة أخرى غير تناسيه، وإلا شلّنا وأعطبنا تذكره وانتظاره، ولعل هذه هي المأساة المستمرة لوجودنا، والتي يكثر عليها الكلام منذ غابر الأزمنة.

ثلاث حوادث للموت في الأسبوع الماضي هي أكثر من كافية لأجد نفسي نهاية الأسبوع أكتب عن الموت. وقد سبقتها إرهاصات، لكني كالعادة لم أدرك الإشارة إلا متأخرًا؛ فقد ظلت ترن في صدى نفسي القطعة الشعرية: (كل شهر/ على فواتير الكهرباء/ أسماء الموتى.) ولعلي بهذا الشكل لن أدرك إشارات رحيلي الشخصي إلا بعد فوات الأوان، لا خشية من الرحيل فأنا أزعم التصالح مع فكرة الفناء، كما قلت في نفس الأسبوع لصالح العامري في برنامجه (في هواء الكتابة). ومع ذلك يبدو كل رحيل فاجعة. والسمة الفجائعية للوجود تجعله مأساويًا كما يثبته ميغيل أونامونو في كتابه (الشعور المأساوي بالحياة)، ومن قبل كما نجده في شعر المراثي الجاهلية كما قال أبو ذؤيب الهذلي وهو يرثي بنيه في قصيدته (أمن المنون وريبها تتوجع): «وإذا المنيّة أنشبت أظفارها.. ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ». ومتى لا تنشب المنية أظفارها؟

ما يدريني إن كانت العبارة التي اختارها ليون شيستوف من اليوناني يوريبيدس تمهيدًا لمقالته عن دوستويفسكي صادقة فعلًا: «من يعرف؟ من الممكن أن تكون الحياة هي الموت/ والموت هو الحياة» ت. إسكندر حبش.

وما الذي ذكرني بذلك كله غير الموت؟ نحن نسل الموتى وتراثهم الحي إلى حين، إلى أن نصبح نحن هم، موتى مثلهم. ومن كان غير أبي نواس بالذات -المتهم بالمجون- هو الذي يذكرنا بنسبنا في الهالكين: «وما الناس إلا هالكٌ وابن هالكٍ.. وذو نسبٍ في الهالكين عريقِ»؟ بدأ الأسبوع وبدأت حوادثه. وبينما كنت أتصفح الجريدة صباح الأحد كالعادة قبل الخروج، وإذا بي أمام صدمة الخبر الأول بطريقة غير متوقعة في مقالة سليمان المعمري في الصفحة الأخيرة من جريدة عمان. انسقت وراء المقالة أقرؤها. لم يدر بخلدي ولا لحظة كيف، ولم أسأل نفسي عن السبب: لماذا يكتب سليمان عن إسكندر حبش؟ كنت أقرأ النص وسليمان يشرح علاقته ومحاولاته لتسجيل مقابلة مع إسكندر حبش لصالح برنامجه ضفاف منساقًا ومستسلمًا بكل هدوء حتى اصطدمت بخبر رحيل إسكندر حبش في الفقرة الأخيرة من المقالة. والآن أتساءل: لمن كتب سليمان تلك المقالة؟ هل كتبها لمن لا يعرف برحيل إسكندر أم لمن يعرف؟ لكن هل ذلك مهم في حضرة الموت؟ إسكندر نفسه الذي عنون مختاراته للشعر البرتغالي والإيطالي بعناوين محورها الموت: أجمع الذكريات كي أموت؛ نجهل الوجه الذي سيختمه الموت.

ما أربكني في الخبر أكثر هو أنني كنت بعثت لإسكندر حبش الليلة السابقة على هاتفه نسخة من مجموعتي الأخيرة. بعثت رسالتي ومجموعتي لرجل راحل، لروح مغادرة، ورنّ في بالي مقطع آخر (دون جدوى/ ركضي كله/ رحلوا). قضيت ساعة أذهب وأعود لفكرة رحيله، وأتذكر هذه العلاقة التي توثقت أكثر على البعد، بيني وبينه، بيننا، بين ما نمثله وما نرمز إليه، ربما ليس أكثر من انعكاسات أمكنتنا، أو أرواحنا، نحن الذين التقينا مرة في حياتينا بعيدًا عن المكانين، في الجزائر الأبعد. في الظهيرة جاءني رد من رقم إسكندر حبش، ارتبكت، هيأت نفسي لصدمة ثانية، لم أطق الانتظار وفتحت الرسالة، فإذا بأرملة الراحل ورفيقة دربه شيرين تبلغني وفاته: «إن كنت لا تعلم»، خجلت من نفسي. نعم أنا خارج عوالم التواصل الإلكتروني؛ ولهذا فاتني مثل هذا الخبر. وبعثت رسالة وهدية لمن يعلم أغلب المهتمين على الأرجح أنه رحل. لمت نفسي: لو كنت حافظت على حسابي في الفيسبوك لكنت علمت بهذا الرحيل، لكن نفسي بررت ذاتها بسرعة: لو بقيت في الفيسبوك لكان مثل هذا الخبر مرَّ عليّ غير مروره عليّ الآن. لربما مرّ عليّ وهو متوقع، منتظر، مهيأ له، أو مر عليّ مرور خبر ناعم، بلا حواف، بلا حدة، تحت التخدير؛ حيث كل شيء ممكن، لا أظن الوقع سيكون نفسه، ولا صدمتي الصباحية بخبر رحيله هي نفسها. هكذا رحل الفلسطيني الأرمني ابن الشتاتين، مجمع المأساتين والتغريبتين، المهاجر خارج المكان، في بيروت لبنان حيث عاش، وعمل، وأبدع، وشكل لشغفه بالقراء نهرًا معرفيًا متنوعًا للقارئ العربي طوال نتاجه الممتد منذ ثمانينيات القرن العشرين. والآن في خريف هذا العام أردد صدى كلماته في قصيدته (لا شيء أكثر من هذا الثلج): «أنت الذي لم يكن إلا في كتاب. أنت الذي لم يستمع إلى نهاية الحكاية» أو: «أنا الذي بدا طويلًا مثل شمس اختبأت من عاصفة، مثل شمس تغيب عند اشتعال الجبال في مساء الخريف». ما كادت تمر ساعة من صباح الأحد حتى فجأني خبر رحيل شاعر شعبي في بداية تفتح مشروعه وشبابه وحياته: طارق زكي عبيد الحجري: «طيح دمعة أبوي ف فقد جدي عبيد» هي الدمعة التي عادت تسقط أغزر هذه المرة على الابن، طارق الذي كنت قد التقيته مرة أو مرتين صحبة أبيه زكي الجميل، وصاحب الأثر الثقافي بمكتبته المعروفة قبل أن تغلق أبوابها. ولم أكن أعلم حين التقيت طارق أنه اختط لنفسه مشروعًا شعريًا أدبيًا، لكني أذكر بوضوح هدوءه، وأذكر ابتهاج أبيه بسعة اطلاعه وقراءاته. هكذا ما كاد نجم الشاعر الشاب الذي تحدى إعاقته وتجاوزها بأشواط منطلقًا بمشاركته الحية والفعالة في المحافل الشعرية، الشاب الذي أنتج قصائد تلفت الأنظار والأسماع، بلغتها المتجذرة، وإيقاعاتها الفريدة، وتشبيهاتها المنحوتة نحتًا، والمسبوكة ببراعة فنيّة، تطرب السامعين، تعكس مخيلة قارئ متعمّق، ما كاد يصعد ذلك المشروع الواعد والخصب والمشهود له حتى انطفأ. رحل طارق مثل شهاب خاطف مخلفًا في نفوس جمهوره وأهله ووالديه خاصة وفينا جميعًا فقدًا لا يعوّض. وإذا كان فقد الكهل الكبير المدنف رغم توقعه وانتظاره يكون محزنًا فكيف بفقدان الشاب الغض؟ طارق الذي غادرنا وهو القائل: «أنا الشاعر اللي وظف أفكاره لفنّه ومتوحد.. ولا اشكي من اعراض متوحّد/ لو الحب واجد حولنا يقتل اللذّة ويقتل مشاعرنا لو ان حولنا محّد».

انقبض قلبي من الخبرين، وبدأت أتوجس وأنا أنتظر، أترقب، من أين ستأتي الضربة القدرية القادمة؟ ولم يخب الحدس. لم يكد يمضي يوم حتى خسرت وخسرت عائلتي صهرًا وأخًا، غادرنا سليمان بن علي الحبسي الأربعيني العصامي الذي شق طريقه بكل حماس في التجارة والأعمال بنجاح يضرب به المثل دون أن ينسى عائلته وأسرته وأطفاله. رحل في دبي بسكتة قلبية. وبعد تأخر تسليم جثمانه قرابة يوم كامل بفعل الإجراءات المعقدة التي لا موجب لها في مثل هذه الأحوال بين بلدين متلاصقين أعيد جثمانه ودفن في وطنه صباح اليوم التالي تاركًا لنا ولأهله وأبنائه طعم الفاجعة في القلوب، وانتصبنا واجتمعنا من كل حدب وصوب للعزاء.

ما العزاء في حضرة الموت؟ أهو تلويحة وداع إنسانية جماعية، كف ضخمة هي مجموع الأكف التي تتصافح في التعازي، حركة وداع اجتماعية، التحام وأحضان من أجل تجسيد كل هذا المصير المهدد بالزوال، بالمغادرة، بالغدر والغدير. العزاء لعله هو تمثيل الغدير بعد المغادرة. أليس الغدير ما غادرته المياه، والغدر الموضع الكثير الحجارة صعب المسالك، وأين يجد نفسه من غودر إلا هناك؟ لعل العزاء هو فطرتنا الطبيعية نفسها وهي تلتحم بأهل المتوفي في وجه الموت، تلتحم بهم وتتحد لتخفف الفاجعة، ولتلهيهم عن المأساة، لتجبرهم بالانشغال على التناسي، ولكن أبدًا ليس النسيان؛ هذا حال الدنيا نقول، لكن من المغادر التالي؟ نتساءل؛ لأننا جميعنا مغادِرون أو مغادَرون، وفي أعماقنا نعرف الغادر، وندعي أننا لا نعرفه؛ نسميه أسماء مختلفة ونتناساه. نسميه ومهما حاولنا تسميته تنقفل الكلمة التي نسميها به كأنها الظلام المطبق.

لا شك أن لدينا يبدو ميولًا فطريًا للنواح. حالتنا الوجودية تستوجب مثل هذه الاستعداد والقابلية، كالطفل الذي يتعرف الفناء وهو يلهو في فناء الدار، وكم يبدو من هذه الزاوية موحشًا ومرعبًا مشهد لعب الأطفال في الفناء. رغم ذلك؛ هذا هو حالنا تقريبًا، نعم نلعب قليلًا ونختفي، نلعب قليلًا ونغادر.

«قد يثور، هنا، غبار الماء/ لا تتأخر كثيراً،/ من سيقرأ هذه الكتابة العمياء/ من سيضع الكلمة عند أول الصباح/ كي لا يعود ليل».. إسكندر حبش. 

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إسکندر حبش

إقرأ أيضاً:

استشاري نفسي يكشف صفات النرجسي: يعتمد على المديح كما تعتمد الهيستيرية على الاهتمام

قال الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر الشريف، إن العلاقات الاعتمادية من أكثر الأنماط النفسية شيوعًا في المجتمع، موضحًا أن بعض الشخصيات تقع في هذا النمط بشكل واضح نتيجة اعتمادها النفسي والعاطفي على الآخرين في الشعور بالقيمة أو الأمان أو التقدير.

وأوضح "المهدي"، خلال حلقة برنامج "راحة نفسية"، المذاع على قناة الناس، اليوم الأربعاء،أن أبرز هذه الشخصيات هي الشخصية السلبية الاعتمادية، وهي التي لا تستطيع اتخاذ قراراتها بنفسها، وتظل في حاجة دائمة إلى من يوجهها ويطمئنها، فتخشى الاستقلال وتبحث دائمًا عن شخص تعتمد عليه في شؤونها اليومية والعاطفية.

وأضاف أن من الشخصيات الاعتمادية أيضًا الشخصية الهستيرية، وهي أكثر شيوعًا بين النساء، وتتميز بحب لفت الأنظار والرغبة في أن تكون محور الاهتمام. وقال إن صاحبة هذه الشخصية "تتسول نظرات الإعجاب"، ولا تشعر بقيمتها إلا حين تكون محط أنظار الآخرين، وإذا فقدت هذا الاهتمام تنهار نفسيًا وربما تصاب بأعراض هستيرية كالإغماء أو فقدان النطق أو الشلل المؤقت.

وأشار أستاذ الطب النفسي إلى أن الشخصية النرجسية هي الأخرى نموذج للاعتمادية ولكن من نوع مختلف، إذ يعيش النرجسي على مديح الآخرين له وتعظيمهم لشأنه، مؤكدًا أن هذا الاعتماد هو ما يمنحه إحساسًا زائفًا بالقوة والتفوق، قائلًا: “النرجسي لا يعيش إلا بين المصفقين له، فهو في الحقيقة يعتمد على إعجاب الناس كما تعتمد الهستيرية على اهتمامهم”.

كما تحدث "المهدي" عن الشخصية البارانويدية (الشكّاكة)، موضحًا أنها أيضًا اعتمادية من نوع خاص، إذ تحتاج لأن تُخضع الآخرين لسيطرتها لتشعر بالأمان، فهي لا تثق إلا عندما يكون الآخرون تحت نفوذها وإرادتها.

وأشار إلى أن العلاقات الاعتمادية تضعف الشخصية وتشوّه مفهوم الحب والارتباط، مؤكدًا أن العلاج يبدأ من الوعي الذاتي، وتنمية الاستقلال النفسي والعاطفي، وممارسة المسؤولية دون خوف من الفقد أو الرفض. وأضاف: “العلاقة السليمة هي التي تقوم على التكامل لا التبعية، وعلى التبادل لا الاستغلال”.

اقرأ المزيد..

مستشار بالبنك الدولي: مصر خلقت 5 ملايين فرصة عمل بفضل مشروعات البنية التحتية بسمة وهبة: الرئيس السيسي امتلك بعد نظر في المشروعات ومصر أصبحت في المراكز المتقدمة بسببه بسمة وهبة: السيدة انتصار السيسي قدمت لفتة إنسانية راقية في تقدير المبدعين المصريين رحلة عبر الزمن تخطف الأنظار.. "القاهرة الإخبارية": إقبال تاريخي على المتحف المصري الكبير أستاذ بالأزهر: صلاح الآباء هو أول طريق لحفظ الأبناء.. والقدوة أهم من الكلام المنتج أحمد جودة: جهزنا لحفل افتتاح المتحف الكبير منذ مايو الماضي عضو بالحزب الديموقراطي: انتخاب زهران ممداني عمدة لنيويورك زلزال سياسي يضرب البيت الأبيض المتحف المصري الكبير.. انبهار كبير من الزوار بتمثال رمسيس وكنوز توت عنخ آمون خالد الجندي: الصديق نِدٌّ لصاحبه.. ولهذا لم يقل القرآن "صديقه" بل قال "صاحبه" الصليب الأحمر يسلم جثامين 15 شهيدًا لمستشفى ناصر بعد استلامها من الاحتلال.. فيديو

مقالات مشابهة

  • كيف أستعد نفسي لبدء العام الجديد؟
  • استشاري نفسي: الطموحات غير الواقعية سبب رئيسي في زيادة الاضطرابات النفسية بين الشباب
  • حمدي الوزير: خُفت من نفسي في المغتصبون لهذا السبب
  • أستاذ طب نفسي: سبب نسيان سيدنا موسى الانشغال والتوتر
  • أستاذ طب نفسي: هذه أسباب الطلاق .. والعلاقات الاجتماعية انتهت
  • من دفتر ممداني.. حين وجدت نفسي في ميدان التحرير بين الثورة والخوف والهوية
  • عيسى إسكندر: مصر بلد الأمن والاستقرار وتستضيف 15 مليون لاجئ دون تمييز
  • طبيب نفسي أزهري: الوعي الأسري يصنع شخصية واثقة لا خائفة
  • استشاري نفسي يكشف صفات النرجسي: يعتمد على المديح كما تعتمد الهيستيرية على الاهتمام