«بتاع فنيلتك».. يخون وصية وردي
تاريخ النشر: 8th, November 2025 GMT
أحمد عثمان جبريل
كان محمد وردي يغني للحرية وللعدالة وللسلام..
كان وردي يُغني للوطن؛ لا بل كان وردي الوطن..
كان حين يُغني وردي.. يُغني كل السودان حقوله وسواقيه دوره ومدارسه وجامعاته..
كان وردي يُغني من قلب الشعب، ولأجل الشعب، وباسم الشعب..
كان وردي يُعلّم الناس أن الأغنية يمكن أن تكون موقفا، وأن العزف على العود قد يكون أبلغ من قعقعة السلاح.
كان وردي يشعل القلوب بحب الحياة، لذلك غنى لأحلام الناس البسطاء، فصار رمزا يتجاوز الفن إلى الضمير الإنساني.
لكن يد القدر، أو عبث الواقع، شاءت أن تمتد من الجرح ذاته، لتطفئ تلك الشعلة التي أضاءت ليل السودان الطويل؛ فقد جاء الابن عبد الوهاب وردي، لا ليواصل الرسالة، بل ليُنكر وصيّة الأغنية الأولى: “مكان الطلقة عصفورة تحلّق حول نافورة” وصية كأنها تلخيصٌ كامل لرسالة وردي، روحه، وإيمانه بأن الفن لا يُصالح الموت، بل يخلق للحياة معنى آخر .
غنى الابن حيث كان يجب أن يصمت، وصمت حيث كان يجب أن يُغني.. اصطف مع الحرب، فخان الصوت الأبوي الذي أوصاه أن يظل مع الناس لا عليهم، ومع الحياة لا ضدها.
في لحظة واحدة، انهار ما كان الناس يرونه امتدادا للحن الخالد.. دهش السودانيون، لا لأن الابن أخطأ، بل لأن الابن الذي ورث إرث فنان مستنير صار يميل إلى الظلام والظلاميين.
كيف يمكن لابن من نسل الأغنية أن يُنشد للحرب؟ كيف يغدو الإرث الذي كان يروي الحقول رمادا في ريح السياسة؟.. كيف؟
لقد خذل عبد الوهاب وردي ذاكرة الوطن.. الوطن الذي يرى في أبيه رمزا للكرامة والعدل والجمال.. والمأساة هنا ليست في موقف سياسي، بل في انكسار جمالي عميق: “أن يتحول الفن من رسالة تُنقذ الروح إلى سلاح يُبرر الموت”.
إنّها مفارقة سودانية موجعة، أن يُطفئ الابن شمعة والده فنان أفريقيا الأول بيده، وأن يتحوّل الضوء الذي أنار دروب الناس إلى ظلام آخر، في زمن لم يعد فيه للحن وطن، ولا للوجدان مأوى.
وربما، في أعماق الصمت، يسمع عبد الوهاب الآن صدى أبيه البعيد، كأن محمد وردي يهمس له من وراء الغياب: “يا بني، إن الغناء لا يُرفع في وجه الناس، بل يُرفع بهم”.
لكن الأوطان حين تتشظّى، تتيه فيها البوصلة حتى عند من حملوا العود من بيت كان يصدح بالحب والحياة.
ربما أخطأ الابن الطريق، وربما غلبه زمن لم يعد يُفرَق بين اللحن والرصاصة، بين الخوف والولاء، غير أن التاريخ لا ينسى، فالأغنية التي خُلقت للحياة لا تموت، وإن غناها من خانها يوما.
سيبقى صوت محمد وردي نارا صغيرة في قلب السودان، يذكر أبناءه بأن الضوء لا يُطفأ، حتى لو أطفأه أحب الناس بأيديهم، فقد كان وردي حين يغني يرى في كل حرب طائرا مذعورا، وفي كل رصاصة حياة تُزهق عبثا، فقد كان يحلم أن يكون مكان الطلقة عصفورة تحلّق حول نافورة لا دما يسيل على تراب عطش للسلام.. إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: کان وردی ی
إقرأ أيضاً:
بياعين الوهم!!
«أبوالطيب المتنبى» شاعر جاء إلى مصر تقريباً عام 959 ميلادياً وقال فى أحد أشعاره «كم ذا بمصر من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكاء» والمتنبى عندما كان يمدح كان مديحه مدفوع الأجر والعطايا، فكان من مديحه أنه صور الأمير «سيف الدولة الحمدانى» بالأسد الغضنفر، وهو فى الحقيقة كان أمير مهزوم منكسر، حيث خسر حلب وهو أمير عليها، حيث انسحب عام 962 على يد القائد البيزنطى «نقفور» إلا أن المتنبى صوره ببطل المعارك وحول هزيمته إلى نصر، فكان المتنبى مثله مثل القنوات الفضائية التى تبيع الوهم للناس، وتصور الانكسارات نصراً، ولكن بالتأكيد كان للمتنبى براعته بجانب المديح فى الحكمة والوصف ، ليكون بيته الذى قاله على شعب مصر وصفاً دقيقاً لهم منذ زمن ما قاله حتى الآن، ولعلهم كانوا على هذه الشاكلة قبل المتنبى، فهم الذين يبكون إذا فرحوا ، بل يطلقون على هذا النحو من البكاء «البكاء السعيد» وعندما يضحكون يقولوا عبارتهم المشهورة والمعتادة «الله يجعله خير» أى يخافون من الضحك كنذير شؤم «والعياذ بالله» ويعتقد بعض المتفلسفين أن سبب ذلك راجع إلى أن الناس فى بلدنا عاشوا أيام حزينة أكثر من أيام الفرح، لذلك لا يفرحون عندما يكونوا سعداء. الأمر الذى لا تستطيع الأن التمييز بين ضحك الناس وبكاءهم فى جميع الحالات فرح كان أو الحزن!!