الإسلامويون و‎ ‎«الجنجويد».. مخزون القساوة وتجسيد العنف في أبشع صوره..!!‏

خالد أبو أحمد

يلازمني هذه الأيام تفكيرٌ عميق في كنه هؤلاء المنتسبين إلى الجنجويد: أي قساوةٍ هذه؟ وأي ‏قلوبٍ يحملون في صدورهم؟ هذا ‏ليس هو السؤال فحسب، بل السؤال الأعمق: من أين أتى ‏الإسلامويون بالجنجويد ليعيثوا في دارفور فسادًا وقتلًا واغتصابًا ‏وتشريدًا، ليسكتوا صوت ‏الضمير الحي هناك؟.


من أي كوكبٍ جاءوا؟ واضحٌ أن اختيارهم لم يكن عبثًا، بل كان مقصودًا لتحجّرهم وقساوتهم ‏اللا محدودة ليؤدّوا المهام التي ‏تُريح الحركة (الإسلامية) في مأمنها، وقد وجدت ضالتها فيهم.‏
وثمة سؤالٌ أعمق: لماذا أحسّت منظومة الإسلامويين في الخرطوم أنها بحاجة إلى مخزونٍ ‏من القساوة خارج الجيش النظامي؟ ‏فلدى أجهزتها الأمنية المخزون (الاستراتيجي) الذي قتل ‏بجرعةٍ منه الدكتور علي فضل بمسمارٍ في أمّ رأسه!‏
أيّ قسوةٍ أبلغ من هذه؟ وهي نفسها التي تمّ بها لاحقًا قتل الأستاذ أحمد الخير بالتفاصيل التي ‏نعرفها جميعًا، تلك القسوة التي عبّر ‏عنها تأسيسُ منهجٍ واختصاصٍ في الاغتصاب!‏
الجواب يكمن في فهم العلاقة السببية: الجنجويد لم ينشأوا صدفةً في فراغ؛ هم ثمرةُ خيارٍ ‏سياسيٍّ واعٍ اتخذته حركةٌ مؤدلجة ‏للسلطة، خيارٌ يجعل من العنف المنظَّم أداةً مركزيةً للبقاء ‏والإخضاع.‏
منذ أن تفجّرت المأساة السودانية في دارفور عام 2003م، ثم تمدّدت إلى بقية أقاليم البلاد، ظلّ سؤالٌ ‏واحد يلحّ على ضمير ‏السودانيين: كيف تحوّل بشرٌ من أبناء البلاد نفسها إلى آلاتٍ للعنف ‏والقتل والانتهاك بلا رحمةٍ ولا وازع؟.‏
هذا السؤال لا يجد إجابته في التفاصيل الميدانية للحرب فحسب، بل في الجذور العميقة للفكر ‏الذي أنشأ وصاغ تلك الأدوات ‏البشرية القاتلة، الفكرُ الإسلاموي الذي أعاد تعريف معنى ‏‏”العدو”، وحرّف مفهوم “الجهاد”، وفتح الباب أمام ولادة أكثر ‏التنظيمات وحشيةً في تاريخ ‏السودان الحديث، وهم الجنجويد.‏
في ايام كئيبة (نوفمبر-ابريل 2004م) كانت مناطق وادي صالح بدارفور تنزف مثل جرحٍ مفتوح ‏في خاصرة الإقليم، كان ‏الدخان يعلو من بيوت الطين، وصراخ النساء يختلط بصوت الرصاص، ‏والسماء من فوق تبدو كأنها تتفرّج بصمتٍ على ‏الكارثة. في ذلك اليوم كانت الطائرات ‏الحكومية تُمهّد الطريق، بينما اجتاحت الميليشيات القرية على صهوات الخيل والسيارات ‏‏المموهة. لم تكن معركةً بين جيشين، بل بين بشرٍ مسلحين وبشرٍ عُزّل. كان ذلك اليوم بداية ‏فصلٍ جديد من تاريخ القسوة في ‏السودان، يوم خرج الجنجويد من ظلّ الإسلامويين إلى مسرح ‏التاريخ.‏
الحركة الإسلاموية التي حكمت السودان لم تصنع الجنجويد بالصدفة، صنعتهم كما يصنع ‏الحدّاد سيفه، لتطعن بهم كل من يقف ‏في وجهها. كانت تعرف أن الجيش الوطني لم يعد ‏مطواعًا كما كان، وأن ثورة الرفض في دارفور تتوسع، فاختارت أن تصنع ‏جيشًا من خارج ‏القانون، جيشًا بلا ضميرٍ ودون عقيدةٍ سوى الولاء للحاكم. هؤلاء لم يخرجوا من المدارس ‏العسكرية بل من ‏طموحات الإسلامويين الغبية، ومن رؤوسهم الفارغة إلا من الهوس بالسلطة ‏والتلذذ بالمال والنساء. قيل لهم إنهم يحاربون ‏الكفار والمتمردين، وإن الله في صفهم، وكانت تلك ‏بداية الجريمة الكبرى التي حملت شعار الإيمان ورفعت راية الخلاص.‏
لقد أدار الإسلامويون ماكينة الحرب بذكاءٍ شيطاني، فساروا في طريقٍ واحدٍ إلى دارفور، كلّ ‏شيءٍ كان مخططًا بعناية: إشعال ‏النار ثم التبرؤ من الدخان. كانوا يقولون للعالم إن ما يحدث ‏صراعٌ قبلي، بينما كانت الطائرات التي تحمل شعار الدولة هي التي ‏تمطر القرى بالقنابل.‏
لم يكن اللاعبون الرئيسيون في محارق دارفور يأتون صدفةً؛ تمّت صناعتهم في دهاليز الدولة ‏الإسلاموية بواسطة عمر البشير ‏وصلاح قوش، صنعوهـم كما يصنع الساحر مخلوقَه من ‏الطين، ثم يخاف منه حين يتحرك.‏
ومثل كل الأنظمة التي تظن أنها قادرة على ترويض العنف، انقلب السحر على الساحر. ‏الجنجويد الذين خُلقوا لحماية النظام ‏صاروا نظامًا بحدّ ذاتهم، وحين تحوّلوا إلى “قوات الدعم ‏السريع”، لم يعودوا مجرد ميليشيا، بل دولةً داخل الدولة. امتلكوا ‏الذهب من جبل عامر، وطرق ‏التهريب، والعلاقات الإقليمية، حتى صارت لهم ميزانيتهم وسياستهم الخاصة. وهكذا وجد ‏‏الإسلامويون أنفسهم أمام وحشٍ أنشأوه بأيديهم.‏
لكن السودان ليس أول من يلد أبناءً من رحم الدم؛ فالمغول حين اجتاحوا بغداد عام 1258 لم ‏يكتفوا بالقتل، بل أرادوا أن ‏يزرعوا الخوف في ذاكرة الأمم، والنازيون بعدهم استخدموا العنف ‏كلغةٍ لتطهير أوروبا من “الآخر”، فحوّلوا القتل إلى عملٍ ‏إداريٍّ منظم، وفي كمبوديا كتب ‏الخمير الحمر فصلاً آخر من الجنون حين قرروا أن يبدأ التاريخ من عام الصفر، فأبادوا ‏شعبهم ‏باسم الثورة. كلهم تشابهوا في شيءٍ واحد: اعتقادهم أن الدم يُبنى به وطن، ‏والإسلامويون في السودان لم يكونوا استثناءً من هذه ‏القاعدة الملعونة، فقد آمنوا بأن السلطة ‏يمكن أن تحيا بالعنف، وأن القسوة يمكن أن تخلق الاستقرار.‏
لكن ما بين كُتم والفاشر ونيالا والجنينة، كان الدم يكتب الحقيقة التي تجاهلوها: أن القسوة لا ‏تحمي أحدًا. ففي كل قريةٍ أُحرقت، ‏وكل امرأةٍ اغتُصبت، وكل طفلٍ فُقد، وُلدت ذاكرةٌ لن تموت. ‏تقارير الأمم المتحدة و(هيومن رايتس ووتش) كانت تصرخ بأرقامٍ ‏ووقائع، وكانت هناك ‏مجهودات الممثل النجم الأمريكي جورج كلوني في توثيق الجرائم عندما زار دارفور أيام ‏الإبادة، وقال ‏إنه “شاهد بعينيه مناظر فظيعة من عمليات اغتصاب وتجارة نساء في إقليم ‏دارفور غرب السودان، وذلك خلال جولته في ‏الإقليم مع والده نِك كلوني، التي استمرت لمدة ‏خمسة أيام”، موضحًا أنه “أعدّ تقريرًا عن الرحلة، وتأثّر جدًّا بكل ما شاهده ‏فيها”، لافتًا إلى ‏أن “مشاهد الاغتصاب لم تكن وحدها السائدة، إنما مشاهد القتل والتدمير”.‏
في تلك الأيام، كان العالم مشغولًا عن دارفور بقضايا أخرى ساخنة، الإسلامويون كانوا يحتفلون ‏بالنجاة من العقوبات، ‏والجنجويد كانوا يحتفلون بالغنائم، والضحايا كانوا يدفنون موتاهم بدموعٍ ‏صامتة. ثم جاء عام 2019 وسقط البشير، فسقط معه ‏قناع الدين الذي كان يغطي وجه القسوة. ‏خرج الجنجويد من عباءة الإسلامويين، ورفعوا رايتهم الخاصة، وصاروا ينازعون ‏الجيش ‏على الشرعية. حينها فقط أدرك السودانيون حجم الكارثة، وأن الوحش الذي أُطلق في دارفور ‏لن يعود إلى القفص. ‏الحرب التي تمزق السودان اليوم ليست سوى صدى بعيدٍ لتلك القرية ‏الصغيرة التي احترقت في عام 2004.‏
اليوم حين يروي الناجون قصصهم، لا يتحدثون عن السياسة، بل عن الليل الطويل، عن الخوف ‏الذي صار هواءً يتنفسونه، عن ‏الجوع والرصاص والذاكرة. في صوتهم وجعُ أمةٍ خُدعت باسم ‏الله ثم قُتلت باسمه. الإسلامويون الذين صنعوا الجنجويد لم يفقدوا ‏فقط سلطتهم، بل فقدوا ‏المعنى، لأن من يبني عرشه على الجثث لا يملك إلا أن يسقط معها.‏
ولعلّ الدرس الأكبر أن السودان لا يحتاج إلى مزيدٍ من الدم، بل إلى شجاعة الاعتراف. ‏الاعتراف بأن الجنجويد لم يكونوا ‏حادثةً عرضية في التاريخ، بل تجسيدًا نقيًّا لروح المشروع ‏الإسلاموي حين يخلع قناعه، إنهم الوجه الحقيقي للفكرة حين تتحول ‏من نصوصٍ في الكتب ‏إلى رصاصٍ في الصدور. وما لم يواجه السودانيون هذه الحقيقة بجرأةٍ وعدالة، فستظل ‏دارفور وكل ‏مدن السودان تشتعل كلما حاولوا نسيانها.‏
‏(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)‏
‏11 نوفمبر 2025م

الوسومالإسلامويون الجنجويد الدولة الإسلامية السلطة و التلذذ والنساء تجسيد العنف في أبشع صوره خالد أبو أحمد عمر البشير مخزون القساوة

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الإسلامويون الجنجويد الدولة الإسلامية خالد أبو أحمد عمر البشير

إقرأ أيضاً:

السلطان علي دينار.. آخر سلاطين دارفور الذين حاربوا الإنجليز

علي دينار آخر سلاطين سلطنة الفور -أو ما عرف لاحقا بإقليم دارفور– بالسودان. ولد عام 1868 في قرية الشاواية شمال غرب مدينة نيالا. بويع سلطانا للفور عام 1890 بعد مقتل عمه أبو الخيرات، واستطاع توحيد دارفور تحت سلطته وإعادة إعمارها بعد سنوات من الحرب وعدم الاستقرار السياسي. وقتله الاستعمار الإنجليزي عام 1916.

واجه الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان الحاكم العربي الوحيد الذي وقف إلى جانب الدولة العثمانية ضد دول الحلفاء، وخاض معركة شرسة ضد الإنجليز انتهت بمقتله، وانتهى معها استقلال سلطنة دارفور وضُمت مثل باقي أراضي السودان إلى الحكم البريطاني.

الميلاد والنشأة

ولد علي دينار بن الأمير زكريا بن السلطان محمد الفضل بن السلطان عبد الرحمن الرشيد سنة 1868 بقرية الشاواية شمال غرب مدينة نيالا في دارفور.

ولُقب منذ صغره بـ"دِينار" وتعددت الروايات حول أصل هذا اللقب، فبعضها يرى أنه جاء تيمنا بعلماء من السلف حملوا الاسم نفسه، مثل مالك بن دينار، وترجح روايات أخرى أن المقصود منه الإشارة إلى قيمة الدينار في الحضارة الإسلامية.

وتذهب روايات ثالثة إلى أن اللقب مأخوذ من عبارة "علي ده نار" في إشارة إلى حدة طباعه وسرعة اشتعال غضبه، غير أن هذا التفسير لم يلق قبولا واسعا لأنه لا يتماشى مع عادة تسمية الناس في تلك الحقبة بأسماء مشاهير العلماء والسلاطين.

وكان والده الأمير زكريا بن السلطان محمد الفضل واليا على إمارة شرق دارفور، أما والدته فهي الميرم كلثومة المعروفة باسم "كلتومو نونو" ابنة الأمير علي كرمي بن الأمير يحيى بن السلطان أحمد بكر بن السلطان موسى، وتصفها المصادر التاريخية بأنها كانت سيدة ثرية وكريمة وذات رأي في مجتمعها المحلي.

وتوفي والده وهو في سن صغيرة ولم يكن له أخ شقيق إلا أخته الميرم تاجة. وبعد وفاة والده تزوجت أمه من ابن خالتها الفقيه مكي جبريل من قبيلة بني منصور.

إعلان

ويقول المؤرخون إن الفقيه مكي جبريل كان له أثر بالغ في تربية علي دينار وتكوينه، وهو الأثر الذي ظهر في معرفته الدينية الواسعة وحفظه القرآن الكريم في سن مبكرة وبلاغته في اللغة العربية.

وتوفيت والدته بلدغة ثعبان سام بينما كان علي دينار منشغلا في المقاومة والجهاد، وبعدما تولى السلطنة بنى لها ضريحا وحفر بئرا في المنطقة سميت "أم كلنا" تخليدا لذكراها.

ظروف توليه السلطنة

عام 1873 قررت الإدارة المصرية في عهد الخديوي إسماعيل غزو منطقة دارفور بعد أن استعصت عليها زمنا طويلا، وبعد مقاومة مستميتة من سلطانها إبراهيم انتهت المعارك بمقتله وسقوط العاصمة الفاشر في نوفمبر/تشرين الثاني 1974.

ورغم سقوط العاصمة، لم تنته سلطنة الفور والعائلة المالكة، إذ شكلت حكومة ظل وجبهة مقاومة سرية قادها السلطان حسب الله محمد الفضل الذي احتمى بجبل مرة قبل أن يُقبض عليه ويُنفى إلى القاهرة مع بقية أولاد السلاطين.

وعام 1875 اختير هارون بن سيف الدين سلطانا حتى مقتله عام 1880، فخلفه السلطان أبو الخيرات الذي أدى دورا بارزا في المقاومة أثناء سيطرة الدولة المهدية على السودان، وهي حركة دينية سياسية قامت ضد الحكم التركي المصري المدعوم من بريطانيا بهدف إقامة حكم إسلامي عادل في السودان.

ولجأ أبو الخيرات بدوره إلى جبل مرة مع ابن أخيه علي دينار، وتقول المصادر التاريخية إن وجود الأخير في معسكر المقاومة صقل شخصيته وأكسبه تجربة ومراسا وتدريبا عمليا على المستوى السياسي والعسكري والتنظيمي.

وبعد مقتل أبي الخيرات، بويع علي دينار خلفا له في السلطنة عام 1890 فاتخذ لنفسه لقب "عبد ربه أمير المؤمنين السلطان علي دينار" وقرر اتباع سياسة جديدة في التعامل مع الحركة المهدية بعدما تخلى عنه عدد من أتباعه وقادته، فأعلن مصالحة معها.

وفي عام 1893 اتجه صوب الفاشر واستقبله حاكمها استقبالا حافلا، ثم استدعاه الخليفة عبد الله التعايشي إلى عاصمته أم درمان وجعله ضمن حرسه الخاص، وهو أسلوب درج الخليفة على اتباعه إزاء الذين يشك في ولائهم.

وفي هذه الفترة فتح علي دينار قنوات التواصل مع رجالات الفور في أم درمان وكبار القيادات في الدولة المهدية من الفور، واستطاع أن يجمع صفوفهم بعيدا عن أعين الخليفة ورقابته، إلى أن فر بهم مع اقتراب الحملة الإنجليزية المصرية على أم درمان سنة 1898 لإسقاط دولة المهديين.

ودخل علي دينار إلى مدينة الفاشر وأعلن نفسه سلطانا على دارفور، واتخذ خاتما رسميا مَظْهَرا للسيادة، ولأنه كان يدرك الخطر الذي يحدق ببلاده في حال مجاهرته العداء للنظام السياسي الجديد في السودان بعدما رأى ما تعرضت له الدولة المهدية من تقتيل وتشريد وخراب، أرسل خطابا إلى الحكومة الثنائية (المصرية الإنجليزية) عرض فيه دفع ضريبة سنوية مقابل الاعتراف باستقلال دارفور وسيادته عليها، وهو ما حصل عليه رسميا عام 1900.

إعادة بناء النظام

بعد تثبيت سلطته، بدأ علي دينار إعادة الحدود القديمة لسلطنة دارفور وفرض الأمن وهيبة الدولة، وشن حملات عسكرية لتأديب القبائل المتمردة ومواجهة جيوب المهدوية في منطقة جنوب وغرب دارفور.

إعلان

وكانت أطول الحروب التي خاضها وأشرسها معركته ضد الفكي سنين حسين (زعيم قبيلة التاما في كبكايبة الذي كان يمثل آخر معقل للمهداوية في دارفور). وبدأت هذه الحرب عام 1900 ولم تنته إلا بمقتل الفكي سنين عام 1908، كما خاض حربا أخرى في جبهة دار مساليت إلى أن أحكم سيطرته على كل الأراضي التي كانت تحت إدارة أجداده في دارفور.

وبعد استتباب الأمن، أنشأ السلطان نظاما إداريا شبيها بنظام أسلافه، فأسس نظاما قضائيا مستقلا يعتمد الكتاب والسنة باعتبارهما مصدرا للتشريع الإسلامي، وعين على كل جهة مقدوما (مقدما) يتولى الإدارة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأنشأ جيشا لحماية البلاد وأزاح كل العقبات التي تعترض سلطته وهيمنته على البلاد.

إعادة الإعمار

أثناء الحرب الطويلة، التي استمرت ما بين 1874 و1898، كادت دارفور أن تصير أرضا مقفرة بسبب أعمال النهب المستمر والتخريب وعدم الاستقرار وهجرة الأهالي.

وبعد إحياء سلطنة أجداده، شرع السلطان علي دينار في إعادة إعمار البلاد وإنعاش الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وسعى لإعادة إحياء الزراعة بتوفير البذور للمزارعين، خاصة بذور الدخن التي تعتبر الغلة الرئيسية لأهل دارفور، وجلب بذور البندورة (الطماطم) وأشتال الفواكه من بلاد الشام، واستورد سلالات محسنة من كل أصناف الحيوانات الأليفة، وجلب فصائل نادرة من الأشجار المثمرة، ومنها شجرة السدر.

وبنى المساجد في الفاشر وكبكابية والشاواية وفورقو، وجدد سقف مسجد طرة وبنى أضرحة للسلاطين التسعة الذين دفنوا فيه.

وعام 1911 شيد قصره الشهير في الفاشر، وتميز بحدائقه الظليلة وأحواض الأسماك الصغيرة والقناطر وصفوف الأعمدة وأرضياته المغطاة بالرمل الفضي، كما تميز بجدرانه المدهونة بالأحمر والجدران الداخلية للصالات المزخرفة بآيات قرآنية بخط جميل أو تصميمات على شكل رقعة الشطرنج.

وكان القصر مركزا للحكم والعلم، إذ كانت تنطلق منه قوافل طلاب العلم نحو الأزهر والحجاز والزيتونة وبيت المقدس، وكان السلطان يبعث منه الرسائل والبعثات للدول ويستقبل المبعوثين من البلدان الأخرى، كما كان يستضيف فيه آلاف حفظة القرآن الكريم بالبلاد ضيوفا عنده طوال شهر رمضان للصوم معه ولإحياء لياليه بالذكر والابتهال.

وأعاد السلطان إحياء تقليد إرسال المحمل إلى المشاعر المقدسة، وراسل الخليفة العثماني في إسطنبول لاستئناف هذا التقليد الذي ظل أجداده يرسلونه على مدى 870 سنة متواصلة.

ويعرف هذا المحمل أيضا بصرة الحرمين الشريفين، وهي عبارة عن نفائس دارفور التي كانت ترسل للأسواق العالمية، فتباع ثم ترسل النقود لأصحاب العطايا الذين يحددهم السلطان، وتوظف أيضا لإنشاء المرافق العامة مثل تأهيل طرق الحج بالمياه ونظافة الحرمين وكسوة الكعبة ودفع أجور الأئمة والعلماء والإنفاق على طلبة العلم وتأمين حراسة قوافل الحج، وكل ما يتعلق بتأهيل الخدمات العامة في المشاعر المقدسة.

وأنشأ السلطان مصنعا لكسوة الكعبة في دارفور، واهتم بالتعدين والصناعات، إذ شجع على استخراج الحديد والنحاس وصناعة الأدوات الزراعية وطلقات البنادق والأسلحة البيضاء والأواني والحلي، وازدهرت صناعة الغزل والنسيج واستؤنف إنتاج الملح في جبل مرة.

وأنشأ السلطان علي دينار عملة وطنية سماها الرضينا (من الرضاء) وأنشأ مصنعا لصكها في الفاشر، بعد أن كانت أثواب الدمور وملح الطعام مقايضة مثل العملة المعتمدة في التبادلات التجارية طوال تاريخ السلطنة.

ولم تقتصر علاقات السلطان الخارجية مع حكومة السودان فقط، فقد كانت له علاقات مع الحركة السنوسية في ليبيا، ومع دولة الخلافة العثمانية إذ كان يؤمن بوجوب وحدة الأمة الإسلامية تحت راية الخلافة.

جناح السلطان علي دينار في الفاشر (غيتي)حربه ضد الإنجليز

حافظ السلطان علي دينار بداية حكمه على علاقة طيبة مع المفتش العام لحكومة السودان، ويدعى سلاطين باشا، وهو نمساوي سبق أن عمل في دارفور، وتوصلا إلى اتفاق ضمني يقضي بدفع ضريبة سنوية للحكومة في الخرطوم مقابل استقلال حكم علي دينار دون تدخل من أحد.

إعلان

غير أن عددا من العوامل جعلته يفقد الثقة في الإنجليز، من بينها سكوتهم على التجاوزات الفرنسية على حدوده، وتحريضهم القبائل على العصيان ضمن مخططاتهم لعدم استقرار المنطقة، ورفضهم تزويده بالأسلحة والذخيرة التي طلبها منهم لمواجهة المتمردين.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، حاولت بريطانيا استمالة السلطان إلى صفها، لكنه آثر الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية، وكان الوحيد بين حكام المسلمين الذي انحاز إلى محور العثمانيين ضد الحلفاء.

وقرر علي دينار وقف دفع الضريبة للإنجليز، وراسل السلطان العثماني في إسطنبول يخبره باستعداده للزحف شرقا للجهاد المقدس ومحاربة حكومة الإنجليز في السودان.

وخشيت بريطانيا من تأثير موقف السلطان علي دينار على المسلمين الواقعين تحت سلطة الاستعمار الأوروبي، وخاصة في السودان، فيثوروا على الحلفاء، فعجلت بغزو دارفور وجهزت جيشا عام 1916 قوامه 3 آلاف جندي.

وفي 22 مايو/أيار من العام نفسه، حلقت طائرتان إنجليزيتان فوق الفاشر للاستكشاف وإلقاء منشورات تحث على الاستسلام.

واختار السلطان نقل المعركة بعيدا عن العاصمة، فتوجه جيشه الذي يتكون من فرسان الخيالة والمشاة ويقوده 4 من كبار قادته للقاء جيش الإنجليز بمنطقة "سيلي" وفيها دارت معركة غير متكافئة استخدم فيها الإنجليز المدافع والبنادق الآلية الحديثة، مقابل استخدام جيش دارفور أسلحة بيضاء وبنادق مصنوعة محليا. وانتهت المعركة بهزيمة جيش السلطان ومقتل عدد من قادته، فسقطت الفاشر بأيدي الإنجليز.

وانسحب علي دينار مع ما تبقى من رجاله إلى جبل مرة الحصين للاحتماء به وتنظيم جيشه لمواجهة جديدة، وعسكر في وادي جبة المجاور لمنطقة كولمي، لكن بعض رجاله خانوه وكشفوا موقع جيشه.

السلطان علي دينار قتل يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1916 (ترك برس)نهاية سلطنة دارفور

يوم الاثنين 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1916، وبينما كان السلطان علي دينار يؤدي صلاة الفجر مع أتباعه، باغتهم الإنجليز وأطلقوا النار عليهم، فاستشهد السلطان ومعه عدد من أقرب رجاله، وضُمت دارفور إلى عموم السودان بعد أن ظلت مستقلة 18 سنة عن حكم الاستعمار.

وبعد مقتل على دينار، عمد الإنجليز إلى طمس حكم الفور نهائيا بإسناد الإدارة الجديدة لأشخاص من غير أسرة السلطان أو من قبيلة الفور، فعينوا محمود الدادنقاوي (أحد مستشاري السلطان السابقين) ملكا على مدينة الفاشر وضواحيها، وقسموا دارفور إلى 5 مراكز يشرف على كل منها مفتش إنجليزي، ما عدا دار مساليت التي أدار شؤونها معتمد نظرا لموقعها الحدودي.

ما تبقى من سلطنة الفور

بعد اندثار سلطنة الفور تحول قصر السلطان إلى مقر رسمي للكولونيل كيلي قائد القوات البريطانية في دارفور، ثم أصبح المقر الرسمي لمديرية دارفور، ثم ناديا للضباط. وفي عام 1977 أصدر الرئيس الراحل جعفر النميري قرارا بتحويل القصر إلى متحف تابع لإدارة الآثار.

وعام 2016 أدرج متحف قصر علي دينار ضمن قائمة التراث العالمي التي تحددها منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونيسكو)، ورممته الحكومة التركية عبر الوكالة التركية للتعاون والتنسيق في الفترة ما بين 2016 و2021.

ويحتوي المتحف على مقتنيات تعود إلى فترة حكم علي دينار، ومنها كرسيه الذي أهداه له الخليفة العثماني، وطبلان نحاسيان وعدد من الأسلحة والمخطوطات الأثرية القديمة وأختام السلطان وملابسه، فضلا عن عملات فضية وأوان مطلية بالذهب.

وعام 2022، أقامت الحكومة التركية بالتعاون مع أسرة السلطان احتفالية في إسطنبول بمناسبة الذكرى الـ106 لاستشهاده.

وحضر الاحتفال ممثل عن الحكومة التركية والسلطان أحمد حسين أيوب علي دينار وسفير السودان لدى تركيا وعدد من المنظمات المدنية بولايات دارفور.

مقالات مشابهة

  • «الأصابع الخفية» فى السودان
  • «أوتشا»: الأزمة تتفاقم في شمال دارفور مع استمرار العنف والنزوح
  • مناوي.. عازمون على “تحرير” السودان شبرًا شبرًا واستعادة سيادته
  • والي غرب دارفور: لن نُسلم هذا الوطن إلا كما ورثناه حرًّا أبيًّا صامدًا في وجه الأعاصير
  • كاتب سياسي: السودان يشهد أبشع الجرائم التي سجلت في تاريخ الإنسانية
  • السودان يشهد أكبر أزمة نزوح في العالم : تهجير أكثر من 12 مليون شخص
  • السلطان علي دينار.. آخر سلاطين دارفور الذين حاربوا الإنجليز
  • مسئول أممي: المشهد الإنساني في بعض مناطق السودان يثير القلق جراء أعمال العنف المتواصلة
  • سقوط الفاشر يفتح فصلًا جديدًا من المأساة في حرب السودان