ترجمة: بدر بن خميس الظّفري -

يمثل سقوط مدينة الفاشر، آخر المدن الكبرى في إقليم دارفور، التي كانت تحت سيطرة القوات الحكومية السودانية، هزيمة عسكرية عميقة ومأساة إنسانية فادحة؛ فقد كانت المدينة، على مدى شهور طويلة، رمزًا لصمودٍ هشّ، وملاذًا للنازحين الباحثين عن الأمان، وبصيص أمل في بقاء فكرة السودان الموحّد حيّة؛ غير أن سيطرة قوات الدعم السريع عليها أطفأت ذلك الأمل، وخلّفت وراءها آلاف المدنيين عالقين بين الجوع والخوف والضياع.

وسقوط الفاشر لا يُعدّ حدثًا محليًا فحسب، بل يعكس تفكك السودان ذاته، حيث تتلاشى الحدود بين الحرب والبقاء، وبين الضحية والشاهد. وما حدث في دارفور اليوم قد يرسم ملامح مصير البلاد بأكملها غدًا.

جاء سقوط المدينة بعد حصارٍ طويل وهجماتٍ متكررة استهدفت مخيمات النازحين والمنشآت المدنية. وقد أفادت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية بوقوع عمليات نزوح جماعي ومجاعة وقتل خارج القانون أثناء محاولات الفرار، وأدّى ذلك إلى تدفق أعداد هائلة من النازحين إلى المدن المجاورة وعبر الحدود، ما أرهق الموارد المحلية والممرات الإنسانية. وتبدو المخاطر أشد قسوة على الأطفال والنساء الحوامل والفئات الأكثر هشاشة.

كما شهد المستشفى السعودي في الفاشر مجزرة مروعة راح ضحيتها نحو 460 شخصًا، ما أدى إلى انهيار آخر مركز طبي كبير في المدينة، وجعل من تنسيق الخدمات الطبية وعمليات الإجلاء أمرًا شبه مستحيل. ونتيجة لذلك، ارتفعت الحاجات الإنسانية على نحوٍ حاد. وكانت عمليات إيصال المساعدات في دارفور تعاني أصلًا من ضعف الأمن والقيود البيروقراطية، ومع انتقال السيطرة إلى قوات الدعم السريع بات الوصول إلى المتضررين أكثر صعوبة من أي وقت مضى.

فعندما تسقط المدن المحاصرة، تتسع فجوة الحماية، فتقلّ الإمدادات الطبية والغذائية، وتتعقد عمليات الإغاثة والإجلاء، وتتعاظم احتمالات المجاعة المحلية وتفشي الأوبئة وسوء التغذية المزمن بين الأطفال.

إن دارفور منطقة مثقلة بتاريخٍ طويل من العنف الأهلي يعود إلى مطلع الألفية. وتنحدر جذور قوات الدعم السريع من ميليشيات الجنجويد، وقد أثارت ممارساتها الأخيرة مخاوف جدّية من أعمال انتقامية ضد مجتمعات يُنظر إليها على أنها موالية للجيش السوداني.

وتشير تقارير حديثة إلى عمليات تهجير قسري للسكان الأصليين، ومداهماتٍ منزلية، وإعداماتٍ ميدانية، وهي أنماط من الانتهاكات يعتبرها خبراء القانون الدولي جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية. ومن ثم فإن سقوط الفاشر يرفع احتمال دخول دارفور في دورة جديدة من الفظائع ما لم تُتخذ تدابير عاجلة للحماية والمساءلة.

وبسيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر، باتت تهيمن على جميع عواصم ولايات دارفور، ما يمنحها عمقًا جغرافيًا واتصالًا مباشرًا بخطوط التجارة عبر الصحراء الكبرى، وقدرةً على فرض الحصار وجباية الموارد. ويحذّر المحللون من أن ذلك يمهّد لواقع تقسيم فعلي، حيث تسيطر قوات الدعم السريع على الغرب والجنوب، مقابل سيطرة الجيش السوداني على أجزاء من الوسط والشرق.

غير أن مثل هذا الانقسام سيكون هشًّا بطبيعته، وقد يؤدي إلى ترسيخ الانفصال عبر إقامة حكومة موازية في منطقة نيالا تمتلك أجهزة أمنية خاصة بها وتدّعي الشرعية، مما يجعل التوصل إلى تسوية وطنية شاملة أمرًا في غاية الصعوبة. كما أن هذا التقسيم قد يفتح الباب أمام القوى الخارجية المتنافسة لتوسيع نفوذها، مفاقمًا حروب الوكالة في الإقليم.

إن هذا التحول الاستراتيجي يُضعف الحافز على المشاركة في مفاوضات سلام وطنية بوساطة دولية؛ فعندما تتمكن جماعة مسلحة من تحويل مكاسبها الميدانية إلى سلطةٍ فعلية على الأرض، تقلّ حاجتها إلى التنازل أو التفاوض. وقد تجد السودان نفسها أمام مسارات حوار متفرقة، أو ربما غياب أي حوار، تهيمن عليها الحسابات المحلية بدلًا من الرؤية الوطنية الجامعة.

ورغم أن مجلس الأمن والدفاع السوداني عقد هذا الأسبوع جلسة لمناقشة مبادرة هدنة ترعاها الولايات المتحدة، إلا أن الاجتماع انتهى دون إعلان أي تفاصيل. وفي بيانٍ متناقض، عبّر وزير الدفاع عن شكره للجهود الدبلوماسية الأمريكية، لكنه أكد في الوقت نفسه التزام الحكومة بمواصلة الحرب ضد قوات الدعم السريع، متحدثًا عن «الاستعداد لمعركة الشعب السوداني»، ومعتبرًا أن «الجاهزية القتالية حق وطني مشروع».

ما لم يتخلَّ الطرفان عن خيار الحرب، فإن الدعم السريع سيواصل على الأرجح تقدمه نحو كردفان ووسط السودان، لتتحول المعارك إلى حرب استنزاف طويلة.

تُعد دارفور ملتقى لحدود هشة مع دول الجوار، وسيطرة الدعم السريع على الخطوط الحدودية مع ليبيا وتشاد تنذر بتحركات عابرة للحدود تشمل المقاتلين والأسلحة والمدنيين. كما أن تدفقات اللاجئين تُرهق المجتمعات المضيفة وقد تُذكي مشاعر الغضب في المناطق الحدودية. ومن المرجح أن تستجيب الدول المجاورة بتشديد إجراءاتها الأمنية أو بدعم وكلاء محليين، وهو نمط طالما عمّق الفوضى في إقليم الساحل والقرن الإفريقي. لذا فإن تمكّن الدعم السريع من ترسيخ سلطته في دارفور يحمل خطرًا مضاعفًا: إذ يمكن أن تتحوّل الانتكاسة الوطنية إلى أزمة أمنية إقليمية إذا لم تتعاون دول الجوار والمنظمات الإقليمية في تنسيق ردّها.

تتجه الأنظار الآن إلى القاهرة لتقود مبادرة سلام جديدة، ليس فقط بوصفها عضوًا فاعلًا فيما يُعرف بــ«الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، بل أيضًا كدولةٍ جارةٍ تتأثر أمنًا باضطرابات حدودها الجنوبية. غير أن سرية المفاوضات الجارية، التي تستثني القوى المدنية، قد تفضي إلى اتفاق يُكرّس تقسيم السودان فعليًا.

ومن القاهرة، أكّد المستشار الأمريكي مسعد بولس أن الطرفين المتحاربين توصلا إلى هدنة إنسانية مدتها ثلاثة أشهر، رغم عدم صدور أي بيان رسمي داخل السودان يؤكد ذلك. ومع توسع نفوذ الدعم السريع، بدأت تظهر هياكل إدارية موازية مثل نقاط تفتيش، وجبايات غير رسمية، وترتيبات أمنية تُقصي المؤسسات المدنية. وهكذا يتآكل احتكار الدولة لاستخدام القوة وتقديم الخدمات، ما يؤدي إلى تفكك منظومة الحكم.

ويملأ شيوخ القبائل والميليشيات ورجال الأعمال الانتهازيون هذا الفراغ، فيرسخون أنماطًا من الافتراس الاقتصادي والسياسي يصعب تفكيكها أكثر من الانتصارات العسكرية نفسها. ومع مرور الوقت، يُعمّق هذا النمط من الحكم المسلح المحلي الفساد، ويقوّض سيادة القانون، ويرفع كلفة إعادة الإعمار بعد الحرب.

فقدان الجيش السوداني مدينة الفاشر يُعد خسارة مادية واستراتيجية، كونه فقد قاعدة رئيسية، ورمزيةً لأنه فقد السيطرة على دارفور. سياسيًا، يعزّز ذلك من قوة الدعم السريع التفاوضية في أي محادثات وطنية، ويضعف نفوذ الأطراف الداعية إلى انتقال مدني موحّد.

هذا التحول في موازين القوة ينعكس على جهود «الرباعية» الساعية لفرض السلام، إذ أصبحت قوات الدعم السريع في موقع يتيح لها المطالبة بحصصٍ أكبر من السلطة والثروة. وبعد أن بسطت سيطرتها على أكثر من ثلث مساحة السودان، الغني بالموارد والمواقع الاستراتيجية، باتت مكانتها التفاوضية أقوى من أي وقت مضى.

أما حلفاء الجيش المسلحون، كقوات دارفور المشتركة بقيادة جبريل إبراهيم وميني مناوي ومصطفى تمبور، فيواجهون خطر فقدان وزنهم التفاوضي بعد الهزيمة الميدانية في دارفور التي أضعفت حضورهم السياسي. ونتيجة لذلك، يُتوقّع أن تزداد محادثات السلام تعقيدًا، مع ارتفاع سقف مطالب الدعم السريع.

يعد سقوط الفاشر اختبارا لفعالية الأدوات الدولية التقليدية مثل العقوبات والعزلة الدبلوماسية والوساطة وآليات العدالة الدولية. فالعقوبات، رغم كونها إشارة رفضٍ دولي، تظل محدودة التأثير إذا تمكّن الدعم السريع من ترسيخ سلطته المحلية والاحتفاظ بداعميه الخارجيين.

الأولوية يجب أن تُمنح للمساعدات الإنسانية، لكنها لا يمكن أن تكون بديلًا عن الحلول السياسية أو عن المساءلة. فالمحكمة الجنائية الدولية وآليات الأمم المتحدة قادرة على توثيق الانتهاكات وملاحقة مرتكبيها، غير أن العدالة بطيئة وتتطلب إرادة سياسية وأدلة يصعب جمعها في مناطق النزاع النشط.

إن استجابةً دولية منسّقة ينبغي أن تجمع بين الحماية العاجلة، من خلال ضمان وصول المساعدات وفتح ممرات آمنة للإجلاء، وبين رسائل مساءلة واضحة، كالعقوبات الموجّهة وتجميد الأصول، إلى جانب دبلوماسيةٍ إقليميةٍ مكثفة لمنع تمدد العنف. لكن نافذة هذا التنسيق تضيق سريعًا؛ فكلما طال أمد الواقع الجديد على الأرض، تقلّ القدرة على تغييره.

وإلى ما بعد الأزمة الراهنة، يحمل سقوط الفاشر خطر تفككٍ اجتماعي طويل الأمد. فسنوات النزوح والمعاناة تآكل الثقة بين المكوّنات المجتمعية، وأضعفت آليات الوساطة التقليدية، وأجّجت الصراع على الأرض والموارد.

تكاليف إعادة الإعمار، من استعادة الخدمات الأساسية إلى ترميم النسيج الاجتماعي ونزع سلاح الجماعات، ستكون باهظة، وقد تتجاوز قدرات السودان دون دعمٍ دولي مستدام. إن تجاهل الاستثمار في «إصلاح النسيج الاجتماعي» سيُبقي البلاد رهينة دوائر متكررة من التعبئة والانتقام تمتد عبر الأجيال.

السياسة الدولية المسؤولة يجب أن تضع حماية المدنيين والممرات الإنسانية في صدارة أولوياتها، وأن تدفع باتجاه تحقيق العدالة عبر جمع الأدلة وفرض العقوبات على القادة المتورطين في الانتهاكات. كما ينبغي أن تنخرط في هذا الجهد كلٌّ من الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) والأمم المتحدة لضبط الحدود وإدارة تدفقات اللاجئين، مع تمويل طويل الأمد لإعادة الإعمار ودعم مبادرات المصالحة المحلية.

إن سقوط الفاشر يُغلق فصلًا من مأساة السودان ليفتح فصلًا أشدّ قتامة. فهو يُعمّق الانقسام الوطني، ويختبر حدود القدرة الإنسانية على الاحتمال، ويكشف صمت العالم الذي طال أمده. ومع ذلك، ما زالت الأصوات السودانية تصرّ على الحياة والكرامة والسلام.

فإذا كان لسقوط الفاشر أن يحمل معنى، فيجب أن يكون نقطة تحولٍ للضمير، لا انتصارًا للغلبة. فمستقبل السودان مرهون بقدرة العالم، وقادته في الداخل، على إدراك أن كل مدينةٍ تسقط، تُسقط معها جزءًا من روح الوطن.  

أسامة أبوزيد هو باحث مختص في قضايا التنمية والحوكمة، يعمل حاليًا باحثًا مشاركًا في المركز الفرنسي لدراسة القرن التاسع عشر، ومنسقًا لبرنامج منح المساعدات لمشروعات الأمن الإنساني والتنمية المحلية.

الترجمة عن موقع ميديل إيست آي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قوات الدعم السریع سقوط الفاشر فی دارفور الفاشر ی غیر أن

إقرأ أيضاً:

حاكم دارفور: أي هدنة دون انسحاب "الدعم السريع" تعني تقسيم السودان

الخرطوم- قال حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، إن أي هدنة لا تشمل انسحاب قوات "الدعم السريع" من المناطق السكنية والمستشفيات وتأمين عودة النازحين، تعني "تقسيم السودان".

جاء ذلك في تدوينة نشرها مناوي، السبت 8 نوفمبر 2025، عبر حسابه على منصة شركة "إكس" الأمريكية.

وأضاف: "الإنسانية لا تتجزأ، الهدنة يجب أن تسبق انسحاب الدعم السريع والمرتزقة من المناطق السكنية والمستشفيات، والإفراج عن المختطفين بمن فيهم الأطفال والنساء وتأمين عودة النازحين".

ومضى متسائلا: "لمن تكون الهدنة دون حماية المدنيين ومحاسبة مرتكبي الجرائم؟".

واعتبر حاكم إقليم دارفور أن "أي هدنة بغير ذاك تعني تقسيم السودان".

تأتي هذه التدوينة عقب إعلان "الدعم السريع"، الخميس، موافقتها على "الانضمام إلى الهدنة الإنسانية" التي قالت إن دول "الرباعية" المؤلفة من الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، هي التي اقترحتها.

ولم تذكر "الدعم السريع" بنود الهدنة وآلية تنفيذها، كما لم يصدر على الفور أي تعليق من "الرباعية" ولا الجيش السوداني.

وفي 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، استولت قوات "الدعم السريع" على الفاشر، وارتكبت مجازر بحق مدنيين وفق مؤسسات محلية ودولية، كما أقر قائدها محمد حمدان دقلو "حميدتي" بحدوث "تجاوزات" في المدينة، مدعيا تشكيل لجان تحقيق.

ويشهد السودان منذ أبريل/ نيسان 2023، حربا دامية بين الجيش و"قوات الدعم السريع" أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد نحو 13 مليون شخص.

ومن أصل 18 ولاية بعموم البلاد، تسيطر "قوات الدعم السريع" حاليا على جميع ولايات إقليم دارفور الخمس غربا، عدا بعض الأجزاء الشمالية من ولاية شمال دارفور، لا تزال تحت سيطرة الجيش، الذي يسيطر على معظم مناطق الولايات الـ13 المتبقية بالجنوب والشمال والشرق والوسط، وبينها العاصمة الخرطوم.

مقالات مشابهة

  • قوات الدعم السريع تستعد للسيطرة على مدينة الأُبيّض الاستراتيجية
  • الجيش السوداني يعترض هجوما بمسيّرة للدعم السريع على الأُبيض
  • الجيش السوداني يعترض هجوما لقوات الدعم السريع
  • حاكم دارفور: أي هدنة دون انسحاب "الدعم السريع" تعني تقسيم السودان
  • صور الأقمار الصناعية في مدينة الفاشر تكشف عن مقابر جماعية بعد سيطرة الدعم السريع
  • الدعم السريع يتقهقر في دارفور وسط معاناة إنسانية
  • أبرز قيادات قوات الدعم السريع في السودان
  • اتحاد عربي يطالب "الدعم السريع" بالإفراج عن 5 صحفيين سودانيين
  • كيف سيكون شكل السودان بعد سقوط الفاشر؟