في معنى المعارضة من داخل تصحيح المسار
تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT
لفهم المشهد التونسي الحالي، توجد العديد من المداخل النظرية الممكنة. وقد اخترنا في هذا المقال أن ننطلق من تركيبة المجلس النيابي في ظل النظام الانتخابي الذي أقره "تصحيح المسار"، وكذلك في ظل إعادة الهندسة الجذرية للمشهد العام في النظام الرئاسوي وتحويل "السلطات" إلى "وظائف" تابعة جوهريا للوظيفة التنفيذية.
منذ الأيام الأولى التي أعقبت إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، حرصت أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" على إظهار تأييدها لتلك الإجراءات وحاولت تسويقها للرأي العام باعتبارها موجهة أساسا ضد "منظومة الحكم "الخوانجية" -أي النهضويين- الذين يجب عدم التمييز بينهم في الاستهداف الإعلامي والأمني والقضائي. وعلى العكس من ذلك، يجب التعاطي مع حلفائهم من "الفاسدين" المنتمين إلى "العائلة الديمقراطية" بمنطق التمييز الإيجابي. فهؤلاء يجب معاملتهم على أساس فردي وليس على أساس أيديولوجي أو على أساس حزبي، فهم لا يّمثّلون غير أنفسهم.
الخطاب الرسمي لا يعكس واقع التعامد الوظيفي أو التخادم بين النظام الجديد وبين العديد من الأجسام الوظيفية التي كانت وما زالت في خدمة النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي، خاصة منها تلك السرديات المنتمية إلى اليسار -بجناحيه الماركسي والقومي- والمنتمية إلى التراث الدستوري-البورقيبي، أي ورثة المخلوع بن علي
إن "العشرية السوداء" هي عند هؤلاء "عشرية النهضة"، ولا يجب محاسبة "شركائها" السياسيين والاجتماعيين ولا تحميلهم أي مسؤولية أخلاقية أو سياسية، اللهم إلا أولئك الذين رفضوا الاعتراف بشرعية "تصحيح المسار" وعملوا على معارضته؛ فهؤلاء "متآمرون" و"فاسدون" و"خونة" مثل كل "الخوانجية" ولا يجب التمييز بينهم على أي أساس أيديولوجي أو سياسي.
رغم أن السردية الرسمية لـ"تصحيح المسار" تؤكد على "نهاية زمن الأحزاب"، وتنظر إلى "الأجسام الوسيطة" باعتبارها جزءا من "الخطر الجاثم"، وترفض منطق "الشراكة" وتقدم نفسها باعتبارها "بديلا" مطلقا ونهائيا، فإن الخطاب الرسمي لا يعكس واقع التعامد الوظيفي أو التخادم بين النظام الجديد وبين العديد من الأجسام الوظيفية التي كانت وما زالت في خدمة النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي، خاصة منها تلك السرديات المنتمية إلى اليسار -بجناحيه الماركسي والقومي- والمنتمية إلى التراث الدستوري-البورقيبي، أي ورثة المخلوع بن علي.
وكنا ذكرنا في أكثر من مقال سابق أنّ الحاجة إلى "تصحيح المسار" ليست في جوهرها إلا حاجة النواة الصلبة لمنظومة الحكم ورعاتها الإقليميين والدوليين إلى "شرعية سياسية" جديدة، تبرر انقلابها على رمز "الثورات العربية" وآخر معاقلها بعد إفشال باقي "الثورات"؛ بسيناريوهات مختلفة تراوحت بين الانقلاب العسكري (كما حصل في مصر) أو الحرب الأهلية (كما هو الشأن في ليبيا) وبين الاستهداف العسكري الخارجي (كما هو الشأن في اليمن). وهو ما يجعلنا نطرح قضية استمرار الأحزاب/الشخصيات الوظيفية في الوجود السياسي حتى في ظل نظام يجاهر برفضه لها، ولكنه طرح يجب أن يتجاوز سطحية بعض المقاربات الوصفية التي تكتفي برصد هذا الواقع دون أن تقدم تفسيرات منطقية له.
إنّ مقاربة هذه الوضعية "المتناقضة" سياسيا يجب أن ينطلق من مشروع "الديمقراطية القاعدية" أو الديمقراطية المباشرة ذاته بعيدا عن مجازات/شعارات المروجين له. فهذا المشروع هو في جوهره مشروع يساري، أو لنقل بأن الديمقراطية المباشرة هي إحدى تفريعات الفكر الماركسي مثل الشيوعية والاشتراكية. وهو ما يجعلها واقعيا شكلا من أشكال الديمقراطية الشعبية بالمعنى الذي تحمله هذه العبارة في "الجملوكيات" الشيوعية، كما هو الشأن في الصين أو كوريا الشمالية حاليا، أو كما كان الشأن زمن هيمنة الأحزاب الشيوعية في العديد من دول العالم.
ونحن نعلم أن الديمقراطية الشعبية تقوم على احتكار الزعيم/الحزب للإرادة الشعبية وعلى رفض منطق الانقسام الاجتماعي، وبالتالي إنكار تعدد الشرعيات أو استقلالية السلطات. ونحن نقول بأن "تصحيح المسار" هو "تَونسة" لروح الديمقراطية الشعبية مع نزعة خطابية إيمانية فرضتها عوامل سياقية. فالنقيض الفكري والموضوعي للديمقراطية القاعدية هو الديمقراطية التمثيلية، والطرف المهيمن على هذه الديمقراطية هو حركة النهضة، وهو ما يستدعي خطابا دينيا ينافس هذه الحركة في مجالها وفي مفرداتها، بل يزايد عليها في كل ذلك.
كانت شخصية "الخبير الدستوري" قيس سعيد مناسبة لتحقيق ذلك، ولكنها شخصية لا تحمل تاريخا نضاليا ولا نخبا بديلة ولا "عصبية" لها داخل منظومة الحكم، ولذلك اقتضى نجاح التعامد الوظيفي بين الرئيس وبين النواة الصلبة للحكم أن توفر النواة الصلبة للمنظومة للرئيس ما يحتاج إليه، لكن بصورة تحرص على الابتعاد عن "الأحزاب" وعن كل "الأجسام الوسيطة" الموالية للمشروع حتى لا تفقد سردية تصحيح المسار شرعيتها. فالاشتغال العلني مع من يُمثلون "الخطر الجاثم" أو من كانوا جزءا بنيويا من "العشرية السوداء" يعني تهاوي السردية السلطوية وسقوط منطق "لا رجوع إلى الوراء"، ويعني كذلك التشكيك في "حرب التحرير الوطني" و"محاربة الفساد"، وغير ذلك من ركائز الدعاية السلطوية الموجّهة إلى عموم التونسيين والتونسيات. لمّا كان المتحكم الأهم في لعبة التوازنات داخل أجنحة السلطة وهوامشها الوظيفية هو النواة الصلبة للحكم، فإننا لا نستبعد أن يكون تعالي الأصوات البرلمانية المعارضة جزءا من استراتيجية "الدولة العميقة" وبعض الفاعلين الخارجيين لتعديل المشهد أو لتغييرهولمّا كان التناقض الرئيس لليسار الوظيفي هو مع "الخوانجية" -أو الإسلام السياسي بجميع مكوّناته- وليس مع منظومة الاستعمار الداخلي، فإن هذا اليسار لم يجد حرجا في القبول بتهميش الأحزاب والعمل بالقوائم الفردية. فالأهم عنده ليس الديمقراطية في ذاتها، بل الديمقراطية التي تلغي الحاجة إلى الإسلاميين وتُرجعهم إلى مربّع الاستهداف الأمني-القضائي، وتتعامل معهم باعتبارهم "طائفة المنبوذين" داخل "النمط المجتمعي التونسي".
إن ارتفاع بعض أصوات المعارضة داخل البرلمان ليس في جوهره إلا لحظة من لحظات التعبير عن "الموت السريري" لما يسمى بـ"الموالاة النقدية". فأغلب المتصدرين لنقد الرئيس وحكومته والتباكي على هامشية "الوظيفة التشريعية" قد كانوا جزءا من المشهد السياسي زمن "العشرية السوداء"، وهم منتمون إلى أحزاب وظيفية سواء أكانت أحزابا ماركسية أم قومية أم تجمعية جديدة، وليست بكائياتهم إلا امتدادا لبكائيات أحزابهم التي همّش النظام رموزها وسفّه أحلام حلفائهم في النقابات والمجتمع المدني. ولذلك فإن ما يجاهرون به من نقد هو في الحقيقة تعبير عما يمكن تسميته بـ"التعامد الوظيفي المشتق"، أي ذلك التعامد الذي يكون بين مكونات وظيفية تحمل الأيديولوجيا نفسها -تقديم التناقض مع الإسلاميين على التناقض مع منظومة الاستعمار الداخلي- ولكنها اختارت تنويع تموقعاتها داخل السلطة وفي هوامشها.
ولمّا كان المتحكم الأهم في لعبة التوازنات داخل أجنحة السلطة وهوامشها الوظيفية هو النواة الصلبة للحكم، فإننا لا نستبعد أن يكون تعالي الأصوات البرلمانية المعارضة جزءا من استراتيجية "الدولة العميقة" وبعض الفاعلين الخارجيين لتعديل المشهد أو لتغييره. ولا يعني التعديل أو التغيير إنهاء الحاجة للرئيس بالضرورة، بل قد يعني فرض مشهد سياسي مختلف ينهي سردية البديل المطلق، وذلك لمواجهة الواقع المتردي اقتصاديا واجتماعيا، أي لتهيئة انفراجة سياسية لا تؤدي إلى العودة لمربع 24 تموز/ يوليو 2021، ولكنها تحول دون تواصل نهج الانفراد بالسلطة ورفض أي تشاركية كما هو الشأن حاليا.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء التونسي الأحزاب قيس سعيد الديمقراطية النهضة تونس النهضة أحزاب ديمقراطية قيس سعيد قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العشریة السوداء تصحیح المسار العدید من جزءا من
إقرأ أيضاً:
باكستان تُقر تعديلًا دستوريًا يمنح الرئيس وقائد الجيش حصانة مدى الحياة
أقرّ البرلمان الباكستاني، يوم الخمس، تعديلًا دستوريًا يمنح حصانة كاملة للرئيس وقائد الجيش الحالي، إضافة إلى كبار الضباط، في خطوة أثارت اعتراضات واسعة ووصفتها المعارضة بأنها تقويض خطير للديمقراطية واستقلالية القضاء.
يمنح التعديل الرئيس آصف علي زرداری حصانة من أي ملاحقة جنائية، على أن تسقط إذا شغل منصبًا عامًا آخر في المستقبل. وكان زرداری قد واجه عددًا من قضايا الفساد سابقًا.
وتتضمن التغييرات أيضًا منح الرئيس سلطة نقل قضاة محاكم الاستئناف بناءً على توصية لجنة القضاء، وهو بند يرى منتقدون أنه قد يُستخدم لإبعاد القضاة المعارضين في باكستان.
ويحصل قائد الجيش عاصم منير، الذي رُفع إلى رتبة مشير ميداني بعد المواجهة مع الهند في أيار/ مايو، على سلطة تمتد لتشمل الجيش والقوات الجوية والبحرية، وتضمن استمرار امتيازاته مدى الحياة حتى بعد انتهاء خدمته.
وبموجب التعديل، سيحتفظ أي ضابط تتم ترقيته إلى رتبة مشير ميداني، أو مارشال في سلاح الجو، أو أدميرال الأسطول، برتبته وامتيازاته مدى الحياة، وسيستمر في ارتداء الزي العسكري ويحصل على حماية من أي ملاحقة جنائية. وكان هذا النوع من الحصانات في السابق محصورًا برئيس الدولة فقط.
كما ينشئ القانون محكمة دستورية اتحادية بصلاحية حصرية في القضايا الدستورية، ما يسحب جزءًا كبيرًا من صلاحيات المحكمة العليا وينقل إليها الالتماسات العالقة. ويمنع التعديل المحاكم من الطعن بأي تعديل دستوري "تحت أي ظرف كان".
المسار التشريعي وردود الفعل المعارضةبدأ مشروع القانون مساره في مجلس الشيوخ، يوم الاثنين، ثم انتقل بعد ذلك إلى الجمعية الوطنية حيث عُدّل وأُقر بعد يومين، قبل أن يُعاد إلى المجلس الأعلى لنيل الموافقة النهائية.
وقال رئيس مجلس الشيوخ يوسف رضا جيلاني، يوم الخميس: "هناك أربعة وستون عضوًا صوتوا لصالح مشروع القانون، وأربعة ضده، وبالتالي تمّ إقرار المقترح". كما نال المشروع موافقة المجلس الأدنى المؤلف من 336 عضوًا بأغلبية الثلثين المطلوبة.
Related تعثر المحادثات بين أفغانستان وباكستان في تركيا رغم "محاولة أخيرة" للتوصل إلى هدنة دائمةأفغانستان وباكستان تبرمان في الدوحة اتفاقا لوقف إطلاق النار بعد تصعيد حدودي دامٍتصاعد التوتر بعد انتهاء الهدنة.. طالبان تتهم باكستان باستئناف القصفوفي الأيام الماضية، أقدمت أحزاب المعارضة، بقيادة حزب PTI، على تمزيق نسخ من المشروع في كلا المجلسين احتجاجًا على التعديلات.
وقد أثار التعديل موجة اعتراض واسعة في صفوف المعارضة، التي رأت فيه خطوة تُضعف ما تبقّى من استقلالية القضاء وتوسّع النزعة السلطوية، محذّرين من أن الحصانات الدائمة وتركيز الصلاحيات في موقع واحد قد تدفع البلاد نحو تقويض أوسع للضوابط الديمقراطية.
وتبقى باكستان، التي يزيد عدد سكانها على 250 مليون نسمة وتمتلك برنامجًا نوويًا، عالقة بين سلطتين متنازعتين: السلطة المدنية وموقع الجيش في الحياة السياسية، وقد يُشكّل هذا التعديل منعطفًا جديدًا في طبيعة العلاقة بينهما.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة