الحاجة الاستراتيجية للنقد العربي
تاريخ النشر: 4th, December 2025 GMT
- «استَنْوَقَ الجمل».
أعود إلى الوراء أكثر من أربعة عقود؛ فهل كان الفتى الذي كنته، الطالب في القسم العلمي، بما يهيئه الأهل من تعليم في مجالات العلم، يعرف أنه سيقضي ما يأتي من عمره في مجالات الأدب، والنقد بشكل خاص؟
كانت أول «حصة» من حصص النقد الذي كان يتم تعليمه مع البلاغة والعروض، بواقع حصة واحدة أسبوعيا للنقد، إن لم تخني الذاكرة، حين راح المعلم يذكر بدايات النقد الأدبي العربي، والذي يكون نقدا انطباعيا، يتمثل بكلمات قليلة.
كان بيت الشعر محل بدايات النقد القديم والذي ينسب للشاعر المتلمس يقول:
وَقَدْ أتَنَاسَى الهمَّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ ... بِنَاجٍ عَلَيْهِ الصَّيْعَرِيَّةُ مكدم
فما كان من طرفة بن العبد حديث السنّ وقتها إلا قال تلك العبارة التي افتتحنا بها المقال: «استَنْوَقَ الجمل»، من منطلق ارتباط الصيعرية بالناقة أنثى الجمل.
تلك كانت بداية الاهتمام لدى الفتى، فراح يقرأ كتاب المدرسة بشغف، لا يرتبط فقط بالتحصيل المدرسي والإعداد للامتحان. والحق أن تدريس تاريخ الأدب والنقد يحتاج لأبحاث، أكان ذلك من قبل أو بعد.
في كلية الآداب، بعد ذلك بقليل، في قسم اللغة العربية، حيث تاريخ الأدب بعصوره منذ ما اتفق على تسميته بالعصر الجاهلي حتى العصر الحديث، وما واكب ذلك من تاريخ للنقد، إضافة إلى مباحث اللغة وغيرها، كانت بداية أخرى جديدة للشاب الذي كنته. وبالطبع كانت دراستي عن اختيار؛ حيث كان مجموع علاماتي يؤهلني لدراسة الكثير من التخصصات، فقد كنت من الأوائل في الثانوية العامة.
والحق أن تدريس النقد أمر آخر غير ممارسة النقد؛ فإذا كان تعليمه لنا ونحن لم نتمكن من الأدب نفسه في المدرسة، فإن تعليمه لنا في الجامعة لم يكن مكتملا، فكنا نعاني في دراسته، وهو معلومات قديمة في مجملها بلغة كلاسيكية، وكان الأحرى أن يتم الإعداد بطريقة تضمن فهم الطلبة للأدب، الشعر خاصة، ومن ثم تعليمنا كيف أن كل مرحلة من مراحل الأدب واكبها فهم خاص من قبل النقاد انسجم مع تلك المرحلة. ثم كان ما كان من محددات أكاديمية في التعامل مع النصوص الأدبية الحديثة المنتمية للأجناس الأدبية المختلفة.
أما المهتمون من بين بضعة آلاف من طلبة السنة الأخيرة بالأدب فكان قليلا، والنقد أقل بالطبع، وهكذا تخرجنا وقد تم وضعنا ربما على أول خطوة في عالم الأدب.
فيما بعد، تمنيت بالطبع ألا يكون تعليم الأدب والنقد مقتصرا على العصور التقليدية، بدءا بالعصر الجاهلي وصولا إلى العصر الحديث؛ فقد كان الاهتمام منصبًا على الشعر العربي الذي ظهر قبل قرن ونصف من ظهور الإسلام. وكم كان سيكون مهما لو درسنا تاريخ الأدب العالمي، خاصة الأدب المرتبط بالحضارات القديمة في منطقتنا، فليس الأدب المكتوب باللغة العربية هو الأدب الوحيد الذي ظهر هنا، فقد سبقته آداب أخرى على ضفاف الأنهار والبحار.
في دراسة النقد، سنتعلم عن سلطة الناقد، والذي يمكن أن يكون مستقلا، أو ممثلا لأحد مراكز السلطة، بما يعني الارتباط بين الأدب والكتابة، بما فيها التوثيق، بمنظمة الحكم التي كان يرأسها الحاكم والإمام معا.
ويبدو لدارس تاريخ النقد، أنه مع التطور، ازداد هامش الاستقلالية للناقد، وإن لم تختف الأساليب التقليدية، والتي أصلا ما زالت هي السائدة. وهكذا فإن ما يهمنا هو النقد الإبداعي الذي يتعامل مع المنجز الأدبي كمنجز إبداعي بالدرجة الأولى.
لكن لماذا النقد؟ ولماذا نتحدث عنه اليوم؟ بل لماذا ربطنا ذلك بالاستراتيجية التي ارتبطت كلاسيكيا بالسياقات العسكرية ثم دخلت مجالات الحياة الأخرى، فكانت الاستراتيجية الاقتصادية والتربوية والثقافية وهكذا؟
لما كان الأدب والفن معا، من روافع المجتمع والأمة، لما لهما من دورين في التعبير عن حياتنا والاشتباك مع قضايانا الفردية والجمعية، كقضايا إنسانية، والنهوض بنا عبر إيحاءات الأدب والفن غير المباشرة التي تدفع نحو التغيير المنشود، فإنه وإننا والحال كذلك بحاجة لتطوير الأدب والفن، والذي يكون فعلا من خلال النقد والنقاد.
من هنا، فإن دور النقد هو دور استراتيجي، وما النقد العربي في عصوره إلا استجابة للأدب، تأثرا وتأثيرا، وما كان الأدب ليتطور فعلا لولا وجود النقاد على مختلف مشاربهم وتلقيهم. كذلك فإن النقد مدان للأدب لأنه سبب روافعه أيضا، وبخاصة الأدب الإبداعي غير النمطي وغير التقليدي النمطي. كذلك فإن النقاد بل كلّ ناقد مدان لهذا الإبداع، حيث ساهم الأدب في تطوير ذائقته، في مراحل إبداعه كناقد. كما أن النقاد جميعا مدانون لمن سبقهم في النقد والكتابة.
الحاجة للنقد الأدبي هي حاجة استراتيجية؛ فهي من ناحية تنير على الإبداعات المهمة التي تترك أثرا عميقا، فيكون النص النقدي الموازي للنص الأدبي (والفعل الفني بالطبع) نصا فكريا، يكشف لنا ما غاب عنا، ويعمّق لدينا ما حضر. وهو يتجاوز البعدين الأدبي والفني لما هو إنساني، من خلال فهم عملية النقد كمنظومة متكاملة، بل هناك من ربط النقد الثقافي بالفلسفة أيضا. والنقد الأدبي والفني الإبداعي والفلسفي أيضا هو من يستخلص نبوءات النص الأدبية والأعمال الفنية، فهو الأكثر قدرة على بيان رسائل الأدب والفن، التي يتم تقديمها من خلال التقاط الناقد لما تم رصده أدبيا وفنيا من سلوك البشر في ظل التحولات المتنوعة، وهي الأكثر ليس فقط على كشف الإنسان من داخله، بل هي من تدفع بوعي وشعور، نحو الفعل الإنساني. ومن ناحية أخرى، فإن النقد يشكل ضمانة مهمة في الحفاظ على مستوى معين من الأدب والفن؛ فبالرغم من حق التعبير، فإن هناك محددات إبداعية تضمن وصول الأعمال الأدبية والفنية للمستهلكين، بأقل قدر من الإشكاليات، حماية للإبداع من جهة، والحفاظ على متابعة الجمهور لتلك الأعمال. لذلك تحرص دور النشر العريقة على وجود «المحرر الأدبي»، وليس اللغوي، الذي يشترط فيه مواصفات عالية.
وأخيرا، وبالرغم من زهد النقاد في الركض وراء الامتيازات المتنوعة، فإن على المؤسسة الثقافية الرسمية أولا، والمؤسسات الثقافية والمعرفية الانتباه لدور النقد، إيمانا منها جميعا بالدور المميز للنقد والنقاد، بحيث تتم «غربلة» حقيقية لما يتم إنجازه، فنضمن التقدم للأمام، والحرص على عدم الرجوع إلى الوراء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأدب والفن ما کان
إقرأ أيضاً:
هيئة الأدب والنشر والترجمة تطلق أعمال مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة
انطلقت مساء اليوم أعمال مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025 في نسخته الخامسة، الذي تنظّمه هيئة الأدب والنشر والترجمة في مكتبة الملك فهد الوطنية، لمدة ثلاثة أيام تحت عنوان “الفلسفة بين الشرق والغرب: المفاهيم، والأصول، والتأثيرات المتبادلة”.
ويأتي انعقاد المؤتمر هذا العام امتدادًا لمسيرته المعرفية التي بدأت قبل خمسة أعوام، ليواصل دوره كمنصة عالمية تجمع المفكرين والباحثين والخبراء من مختلف دول العالم، وتُرسّخ مكانة المملكة مركزًا دوليًا لإنتاج المعرفة وتعزيز الحوار بين الثقافات.
وافتتحت أعمال المؤتمر بكلمة للرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز الواصل، رحّب فيها بالضيوف، وقال خلالها: “إن انعقاد مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في نسخته الخامسة يأتي امتدادًا لمسيرة مشروع فكري انطلق قبل خمسة أعوام، وتحول إلى مبادرة راسخة تعزّز حضور الفلسفة، وتثري حوار الثقافات، وترسّخ موقع المملكة منصةً عالمية في مجالات الإنتاج المعرفي وصناعة الفكر”.
وأشار إلى أن المؤتمر بات اليوم مشروعًا يتنامى أثره عامًا بعد عام، ويتسع حضوره على المستويين المحلي والدولي، ما يعكس الثقة التي اكتسبها ودوره في دعم الحوارات الفلسفية بين الشرق والغرب.
وبيّن الواصل أن اختيار عنوان هذا العام “الفلسفة بين الشرق والغرب: المفاهيم، والأصول، والتأثيرات المتبادلة” يأتي تأكيدًا على أن الفلسفة لم تُولد من الجغرافيا بقدر ما تشكّلت من السؤال, وأن تناول ثنائية الشرق والغرب لا يستهدف تكريس الانقسام، بل إبراز الروابط المشتركة بين التجارب الفكرية، وما يجمعها من ميراث إنساني قائم على البحث عن المعنى وصناعة الوعي.
وأكد الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة أن انعقاد المؤتمر يعكس حاجة المرحلة الراهنة إلى استعادة دور الفلسفة في زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتصاعد فيه المادية، لتعيد طرح الأسئلة الكبرى، وتقدم قراءة أعمق للتحولات التي يشهدها العالم.
اقرأ أيضاًالمجتمعأكاديمية “واس” تشارك في مهرجان الأفلام السينمائية الطلابية 2025
وأشار إلى أن الرياض، باحتضانها هذا الحدث المعرفي، تؤكد مكانتها فضاءً حيًا يتقاطع فيه عمق الفكرة مع حيوية التجديد، وتمنح الفكر موقعًا فاعلًا في صياغة الرؤى والأسئلة المعاصرة.
ورفع الواصل شكره وتقديره للقيادة الرشيدة على دعمها المستمر لمشروعات المعرفة، ولصاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان وزير الثقافة، ومعالي النائب الأستاذ حامد بن فايز، على دعمهما المتواصل للمبادرات الثقافية والفكرية التي تعزز الحراك المعرفي السعودي.
واختتم الواصل بالتأكيد على تقديره للمتحدثين والمشاركين في المؤتمر، مشيرًا إلى أن حضورهم يسهم في إثراء مضامينه، وأن المؤتمر يمضي عامًا بعد عام في بناء فضاء معرفي مفتوح يعكس المكانة المتنامية للمملكة في المشهد الفلسفي العالمي.
ويشارك في المؤتمر 60 متحدثًا من الفلاسفة والمفكرين والباحثين من مختلف دول العالم، يمثلون مدارس واتجاهات فلسفية متعددة، الأمر الذي يمنح البرنامج تنوعًا معرفيًا يعزز مكانته منصة دولية للحوار وتبادل الخبرات.
كما يشهد المؤتمر أكثر من 40 جلسة حوارية تتناول جذور الفلسفة الشرقية والغربية، وطرائق التفكير، ومسارات التأثير المتبادل بين المدارس الفكرية، إلى جانب مناقشة قضايا معاصرة تتعلق بالمعنى الإنساني والتحولات الثقافية ودور الفلسفة في قراءة الواقع. ويتيح هذا الزخم العلمي للباحثين والمهتمين فرصة الاطلاع على رؤى متنوعة ومقاربات فكرية موسّعة، تسهم في تعميق النقاشات الفلسفية وتطوير فهم أعمق للأسئلة الكبرى في الفكر الإنساني.
ومن المتوقع أن يستقبل المؤتمر ما يقارب 7000 زائر، في مؤشر يعكس تنامي الاهتمام بالفلسفة والعلوم الإنسانية داخل المملكة.
ويأتي هذا الحضور بوصفه دلالة على توسع قاعدة المتابعين للنشاط الفلسفي، وارتفاع مستوى التفاعل مع المحتوى المعرفي الذي يقدمه المؤتمر وبرامجه المصاحبة.
ويُعدّ مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة أحد أبرز الفعاليات الفكرية السنوية في المنطقة، إذ يسهم منذ انطلاقته الأولى في تعزيز التواصل الثقافي العالمي، وإعادة تقديم الفلسفات بمختلف مدارسها وتياراتها في سياقها الدولي، وترسيخ الدور السعودي في دعم الإنتاج الفكري وبناء الجسور المعرفية بين الشرق والغرب، بما يخدم مسارات التنمية الثقافية والفكرية التي تشهدها المملكة.