لقد كانت مكابرات التَّاج الإمبراطوري المهيب فيما تبقى من سؤدده، وجبروته، وصولجانه، والمباركة الملكيَّة المباشرة التي أُسبِغت بسخاء منقطع النَّظير على الفيلم (لم تحضر الملكة شخصيَّا أي عرض افتتاحي لأي فيلم من قبل)، تعبيرا واضحا عن حنين سياسيٍّ للإمبراطوريَّة وأمجادها التَّليدة خاصة في ظل «غروب الشَّمس» في أمكنة أخرى تحت علامة التَّاج الملكي الماهر والممهور.

كما كانت تلك المباركة الغامرة متَّسقة بالكامل مع شعور رسمي وشعبي بالإجلال والتَّوقير لموضوع الفيلم الأسطوريِّ، ضابط الاستخبارات البريطانيَّة العتيد، الكولونيل تومَس إدوَرد لورَنس Thomas Edward Lawrence الذي، إضافة إلى اسمه الرَّسمي كما ورد في شهادة الميلاد، عُرِفَ أيضا بألقاب وكُنى تبجيليَّة من قبيل «أمير مكَّة»، و«مَلِك العرب غير المُتَوَّج»، و«الشَّيخ دينميت» (وذلك بسبب المتفجِّرات التي جلبها إلى المقاتلين العرب فاقترنت باسمه، خاصة لجهة نسف وصلات معيَّنة من خط سكِّة حديد الحجاز في لحظات حاسمة من الثَّورة العربيَّة ضد الأتراك العثمانيِّين)، و«لورَنس العَرَب»، بينما كان رفاقه في السِّلاح من البدو العَرَب ينادونه باسم عاطفي وتحبُّبِي مسبوق بأداة التعريف هو «إلأورَنْسْ». حقَّا، لقد كان اسم هذا الشَّخص /الأسطورة/ بطل الفيلم مرتبطا بصورة لا تنفصم عراها عن المشروع/ التجربة الكولونياليَّة والإمبرياليَّة البريطانيَّة في العالم العربيِّ، ولا يزال اسمه حاضرا إلى اليوم ليس فقط في الذَّاكرة الكولونياليَّة الغربيَّة (فهذا مفهوم إلى حدٍّ كبير) بل حتى في الذَّاكرة الشَّعبيَّة والإعلاميَّة العربيَّة ما بعد الكولونياليَّة (6). ما إن اسمه لا يزال يتأجَّج في العواقب الماكرة سابقا، والظَّاهرة للعيان الآن، لتفاهم «سايكس-بيكو» حيث «في نهاية الأمر، اعترف لورَنس بـ«عدم صِدقنا» ــ أي نحن الإنجليز ــ مع العَرَب، لكنه خَلُصَ إلى أنه خيرٌ لبريطانيا أن تنتصر ــ في الحرب العالميَّة الأولى ــ وأن تُخلِف بوعدها بدولة عربيَّة» (7).

ومما تجدر ملاحظته في هذا السِّياق أن صعود نجم المخرج ديفِد لين في الصِّناعة السينمائيَّة البريطانيَّة في مرحلة ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية كان متساوقا أصلا مع مشروع وطني معيَّن ورؤية سياسيَّة محدَّدة تخصُّ الصُّورة والسِّينما البريطانيَّتين، وخاصة بالنَّظر إلى انتصار الحلفاء في تلك الحرب، والدَّور الحاسم الذي لعبته بريطانيا في ذلك. وفي هذا السِّياق يشير جِرَلْد براتلي Gerald Pratley إلى أن لِين «قد بدأ التَّفكير بخصوص تقنيَّات، وشخصيَّات، وقصص جديدة من أجل الإسهام في إذكاء الرُّوح الجديدة للإبداعيَّة المُنتعِشَة في السِّينما البريطانيَّة التي زادتها الحرب ــ العالميَّة الثَّانية ــ زخما إضافيَّا. حالة الطَّوارئ الوطنيَّة هذه جعلت البريطانيِّين مدركين لحاجة البحث عن الوحدة، والتعرُّف إلى أنفسهم بوصفهم أمَّةً على الشَّاشة السِّينمائيَّة المؤثِّرة التي هيمنت عليها الأفلام الأمريكيَّة من قبل» (8).

وحقَّا فإنه من الملفت للانتباه أن البذخ الشَّديد الذي أنتجت به شركة أفلام هُرايزُن (Horizon Pictures) فيلم «لورَنس العرب»، جعله يوسم بأنه «أعظم أفلام» مخرجه (9). ولا يزال ذلك الفيلم يحتلُّ موقعه الأثير في قائمة أعظم عشرة أفلام أنتجتها السِّينما الأمريكيَّة طوال تاريخها (10). بيد أنه مما يهم في هذا الموضوع أن الفيلم لم يكن المقصود منه، كما صرَّح المنتج سام سبيغل Sam Spiegel نفسه، «حلُّ لغز لورَنس، بل إدامة الأسطورة، وإظهار لِمَ لا تزال تسكننا بعد كل هذه السَّنوات» (11). والحقيقة أن هذا التَّصريح يتساوق بصورة مثاليَّة مع خلفيَّة سبيغل الأيديولوجيَّة والسياسيَّة التي هي اليوم معلومات عامة متاحة للجميع عبر مختلف المصادر (12). وهكذا فإن تمرئي الإمبراطوريَّة بوصفها سرديَّة كولونياليَّة في الفيلم جليٌّ بما فيه الكفاية؛ فعلى سبيل المثال يحاجج إدوَرد سعيد Edward Said أن مشهد اجتماع المجلس الوطنيِّ العربيِّ في دمشق «الجالب للكآبة» هو «مردود الفيلم»؛ ذلك لأن المشهد يُرينا أن العرب «أطفال شبه بربريِّين، يتشاجرون حدَّ الإزعاج على سفاسف الأمور، غير قادرين تماماً على التَّفكير السَّويِّ، والنِّقاش، والسِّياسة»، وهذا تمثيل (representation) تَنْجُمُ منه أن الرِّسالة السِّياسيَّة للفيلم هي «أن الحُكم الجادَّ لم يُخلق أبدا لهكذا صنف من الكائنات الأدنى، بل للرَّجل الأبيض فقط» (13).

------------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقة السابقة:

(6): من أمثلة ذلك أن بعض الكتب والمنشورات الترويجيَّة السيِّاحيَّة العربيَّة تمسخ وتشوِّه تاريخ بلدانها وثقافتها بناء على زخم الأسطورة اللورنسيَّة، واستلهاما منها، واستجداء لها باعتبارها المصدر والأصل، وذلك كما ورد في كتاب سياحي عن الآثار التاريخيَّة في الأردن، حيث نقرأ شرحا لإحدى الصور هكذا: «جبل الأعمدة السَّبعة الذي استلهم منه لورنس العرب عنوان كتابه أعمدة الحكمة السَّبعة». والحقيقة هي أن لورَنس قد استلهم عنوان نصِّه من عبارة وردت في «كتاب الأمثال» في «العهد القديم»: «الحكمة بَنَت بيتها. نحتت أعمدتها السَّبعة»، ولا ذِكْر يَرِدُ لـ«جبل الأعمدة السَّبعة» في أيٍّ من الأدبيَّات اللورنسيَّة بالإنجليزيَّة. انظر: محسن عُلما الحسيني، «الأردن تاريخ، فنون، وآثار» (عمَّان: مكتبة العلماء، 2007)، 104. وانظر كذلك:

T. E. Lawrence, Seven Pillars of Wisdom: A Triumph (New York: Anchor Books, 1991), 17.

(7): فوَّاز طرابلسي، «سايكس-بيكو بلفور: ما وراء الخرائط « (بيروت: رياض الرَّيس للكتب والنشر، 2019)، 297-8.

(8): Gerald Pratley, The Cinema of David Lean (Cranbury, N. J.: A. S. Barnes, 1974), 25.

(9): Kevin Brownlow, David Lean (New York: Wyatt Books, 1996), 249.

(10): انظر في هذا الصَّدد القائمة السَّنويَّة المتجدِّدة لـ Sight and Sound المنشورة دوريَّاً في غير مكان ورقيٍّ وإليكتروني.

(11): Kevin Brownlow, David Lean (New York: Wyatt Books, 1996), 249.

(12): كان سبيغل (11 نوفمبر 1901 ـــ 1903، في رواية أخرى -31 ديسمبر 1985) بولندي المولد أمريكي الجنسيَّة. ومن المعلومات العامَّة المعروفة عنه أنه تحمَّس للحركة الصهيونيَّة منذ يفوعه حيث شارك في مشاريعها الاستيطانيَّة في فلسطين في عشرينيَّات القرن الماضي. وبعد تأسيس الدَّولة اليهوديَّة في فلسطين ارتبط بصداقات شخصيَّة وطيدة مع رموز صهيونيَّة ويمينيَّة مثل غولدا مائير Golda Meir، وأريل شارون Ariel Sharon، وتِدِي كولير Teddy Koller. هذا وقد أسهم سبيغل بسخاء مالي كبير في دعم العديد من المشروعات الصهيونيَّة، وقد كرَّمه الكيان الغاصب بإطلاق اسمه على أحد أزقَّة مدينة القدس العربيَّة.

(13): إدوَرد سعيد، «لورَنس لا يُزجي للعَرَب أي جميل»، في: عبدالله حبيب، «مساءلات سينمائيَّة» (بيروت: دار الانتشار العربي، 2009)، 252.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی هذا ة التی

إقرأ أيضاً:

مشروع إبراهام !!؟

 

بدأت الأمور تتضح و تتجلى الحقيقة من خلال التصريحات المتبادلة بين الرئيس الأمريكي ترامب ورئيس الكيان الصهيوني النتن ياهو، فالأول قال بالحرف الواحد « أن عدد من الدول كانت على وشك الانضمام إلى مشروع إبرهام لمن لا يعرف هذا المشروع هو اختصار لما يسمى بالديانة الإبراهيمية .

نعود إلى كلام ترامب حيث قال، أن إيران وقفت حائلاً أمام ذلك، فأوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن العدوان الهمجي السافر على إيران لم يكن سببه كما يُشاع السلاح النووي، وإنما كان الهدف كسر شوكة هذه الدولة التي لا تزال تحتفظ بمبدأ الدعم والإسناد لقضية العرب والمسلمين الأولى قضية الشعب الفلسطيني، بعد أن حاول الأمريكان والصهاينة محوها حتى من ذاكرة بعض القادة العرب وانحراف البوصلة باتجاه العدو المزعوم إيران، كما هو حال إعلام الخليج وبعض الدول العربية كلها تتحدث عن إيران باعتبارها مصدر الخطر على العرب والمسلمين أكثر مما تتحدث عن العدو الصهيوني، بل إنها تجعل للعدو الصهيوني مكانه خاصة وتعتبره المنقذ، وهو ما يكشف عن حالة الانحطاط الذي وصلت إليه الأمة، ما جعل إيران هدفاً مباشراً للعرب والصهاينة والأمريكان، خاصة إذا ما علمنا أن التمويل الأساسي للضربات الغادرة نحو إيران كان مصدره السعودية والإمارات وقطر، فهم من يتحدثون عن العروبة والقضية العربية بالمساء ويرسلون الشيكات في النهار إلى من يهدم هذا المبدأ ويحوّله إلى مجرد شعار ترفي لا يُقدم ولا يؤخر، هذا حال ترامب .

أما النتن ياهو فالرجل لا يتوقف في حديثه عن التغيير وإقامة منطقة الشرق الأوسط الجديد، وكأنه أعاد إلى الواجهة ذلك المشروع الذي أسقطه خالد الذكر الشهيد العظيم حسن نصر الله «طيب الله ثراه» عام2006م بعد الهزيمة الماحقة التي ألحقها بدولة الكيان الصهيوني، وهُنا نُدرك مدى أهمية هذا الزعيم العظيم الذي اعتبره رئيس وزراء الكيان الصهيوني جبهة بذاته .

أي أن النتن ياهو وترامب يتحدثان عن نفس النهج والغايات التي تم وضعها في زمن مبكر، ولم يأت العدوان الأخير إلا ليُنفذ ما سبق الاتفاق عليه بعد أن استخدم الصهاينة أسلوب المكر والخداع عبر الغزو الاستخباراتي الذي نخر في لبنان وإيران وسوريا، حتى أسقط النظام الأخير وجاء بنظام عميل جاهز للتطبيع، بل وعلى استعداد لأن يتنازل عن نصف الدولة السورية مقابل بقائه في السلطة، وهو – للأسف – صاحب لحية طويلة وسبق أن سفك دماء المسلمين بدعوى النصر للإسلام، وهاهو يحول اللحية إلى ما يُشبه الزنانير ويترك سوريا الحبيبة نهباً لتطلعات الصهاينة والأمريكان، وهو في هذه الحالة على استعداد لأن يُقدم التنازلات تلو التنازلات، بل وكما قال ترامب، أن سوريا على مشارف الانضمام إلى مشروع إبراهام .

مما سبق يتضح جلياً لكل ذي بصيرة أن العدوان على غزة وإيران واليمن هدفهما واحد وواضح، وهو استكمال خارطة القيادات الهزيلة التي تُسبح بحمد أمريكا وتصبح على استعداد لأن تُقدم التنازلات تلو التنازلات بما يُحقق الرغبات الأمريكية والصهيونية الخبيثة .

يبدو أن العالم كله فهم هذه المغازي وبدأ يتحرك من منطلق الحفاظ على الذات لا من أجل العرب والمسلمين وهم الطرف الوحيد الذي لم يستوعب هذه المغازي هم الساسة الغاصبين للحكم في عدد من الدول العربية والإسلامية، لأنهم لا يزالون على غيّهم يسبّحون بحمد أمريكا ويعتبرونها المُنقد ويتداعون لاجتماعات لا تُقدم ولا تؤخر بدعوى السعي لإيقاف النار في غزة وإيجاد حلول سلمية .

تخيّلوا لو أن إيران لم تمتلك القدرة الكبيرة للردع وإيقاف دولة الكيان الصهيوني عند حدها، كيف كان سيكون حالنا نحن العرب والمسلمين؟! لاشك أن خارطة الدولة الصهيوني من الفرات إلى النيل كانت ستكتمل «لا سمح الله»، لولا وجود المقاومة الباسلة في فلسطين واليمن ولبنان والعراق وإيران .

لذلك نجد التوجه الآن صوب تصفيه المقاومة في لبنان وبداية مناوشة العراق من أجل القضاء على قوات الحشد الشعبي الباسلة التي أظهرت شجاعة غير عادية في البداية، إلى أن تدخلت أمريكا وحالت بينها وبين الإسهام في مساندة الشعب الفلسطيني، وهُنا نتساءل بمرارة، هل استوعب العرب والمسلمون الدرس؟! بالذات حُكام الخليج الذين يجب أن يشكروا إيران على ما قامت به، ويعتبرونها حاجز الصد الوحيد لنزوات الكيان الصهيوني، أما هم فلن يصمدوا أمام غطرسة هذا الكيان سوى ليلة أو نصف ليلة بالكثير، والحليم تكفيه الإشارة، والله من وراء القصد..

 

 

مقالات مشابهة

  • النائب العماوي يشارك في وفد نيابي لمجلس العموم البريطاني
  • نائب وزير الخارجية يستعرض العلاقات الثنائية مع وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
  • نائب وزير الخارجية يلتقي نائب مستشار الأمن القومي البريطاني
  • نائب وزير الخارجية يلتقي رئيس المكتب البريطاني لشؤون السودان
  • نائب وزير الخارجية يلتقي وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
  • مشروع إبراهام !!؟
  • العموم البريطاني يوافق على حظر فلسطين أكشن باعتبارها منظمة إرهابية
  • مسؤولة في البرلمان البريطاني تدعو إلى الاعتراف بفلسطين
  • عاجل| مراسلة الجزيرة: البرلمان البريطاني يحظر حركة بالستاين أكشن المؤيدة للحق الفلسطيني
  • مركز التحكيم التجاري الخليجي يُنظم الملتقى الخليجي البريطاني للتحكيم أواخر يوليو الجاري في لندن