لجريدة عمان:
2024-06-02@22:12:04 GMT

يون فوسه...ما بين الجنة والنار

تاريخ النشر: 10th, October 2023 GMT

يون فوسه...ما بين الجنة والنار

لم يكن يون فوسه -الذي راكم الأوسمة والتشريفات والنجاحات لأكثر من عقدين من الزمن، (وآخرها جائزة نوبل للآداب، الأسبوع الماضي)- كاتبا مسرحيا فقط (سبب شهرته العالمية). فلو نظرنا إلى مساراته المتعددة، لوجدنا أنه، في وقت مبكر، كتب الأغاني، والشعر وكتب الأطفال، مثلما كان عازفا موسيقيا، قبل أن يتبنى حمل القلم نهائيا.

ثمة فسحة حقيقية للقصة والرواية في حياة فوسه، بدأت في فترة ثمانينيات القرن الماضي (نشر العديد منها)، قبل أن تجبره ظروف مادية (مثلما كرر مرارا في حواراته الصحفية) على التوجه إلى المسرح أكثر، في منتصف التسعينيات، (من دون أن ينسى الرواية)، ليكتب لغاية اليوم نحو أربعين مسرحية، لدرجة أنه يشكل مع العظيم ابسن، أكثر مسرحيين نرويجيين تقدم أعمالهما على خشبات العالم.

في أي حال، ليس فوسه غريبا عن المكتبة العربية، إذ تُرجمت له روايتان، وصدرتا عن «دار الكرمة» في القاهرة هما «صباح ومساء» (2018)، و«ثلاثية» (2023)، نقلتهما إلى العربية، من النرويجية، كل من شيرين عبدالوهاب وأمل رواش.

***

كانت «صباح ومساء» قد صدرت في النرويج عام 2000. هي رواية قصيرة (أو نوفيلا) تتألف من قسمين، وتروي نهارين أو «لحظتين» من حياة شخص يدعى يوهانس. في اللحظة الأولى، نشهد ولادة يوهانس (ابن عائلة من الصيادين)، كما رآها وخبرها، بل كما تخيلها أولاي، والده، الذي، بين ذهاب وعودة القابلة وصرخات زوجته مارتا التي تصل إليه، يتخيل ولادة ابنه. يخدم أسلوب فوسه، الذي يتميز بالتكرار، وعلامات الترقيم التي لا يمكن التنبؤ بها، والتناوب البارع للمنظورات السردية، يخدم بشكل ملحوظ، هذا التساؤل حول اللحظات الأساسية في الوجود. إذ يجمع الكاتب هاتين اللحظتين الأساسيتين في الوجود الإنساني بأكمله بينما يتجنب كل ما يمكن أن يشكل جسد هذا الوجود. هذه هي المفارقة الأولى في هذه الرواية، لذا نسأل أنفسنا لماذا اختار هذا الشكل بدلا من الشكل المسرحي. السؤال الآخر؟ يرسم الكاتب بدقة الخطوط العريضة للحياة التي تتلاشى. لذا هل هي حقًا رسم تخطيطي لحياة بأكملها بينما ليس لدينا هنا سوى آثار قليلة جدًا: بعض الذكريات الطفيفة، كما لو كانت حياة يوهانس، هي «الشخصية» الرئيسية، الفريدة من نوعها إذا جاز التعبير، تُختصر بالعمل، بينما التطور الأساسي في زمان ومكان آخرين؟

يبدأ الجزء الثاني من الرواية (اللحظة الثانية التي تأتي بعد ثمانين عاما)، بيوم عادي في حياة يوهانس الذي أصبح عجوزا. إنه يوم آخر، انشغل فيه يوهانس، بأشيائه اليومية التي اعتاد القيام بها بعد أن تقاعد عن العمل. كل شيء يبدو طبيعيا، ولكن بطريقة مختلفة. إذ يرى على الشاطئ صديقه بيتر الذي توفي قبل سنوات، ليركب معه القارب، وعندها يبدأ بإعادة النظر في نوع من التلخيص، لما كانت عليه حياته. والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف حدث أن التقى بصديقه بيتر الذي مات منذ سنوات؟ هل «أن الضباب الذهبي هو الذي يغطي الأشياء»؟ هل يظهر له الموتى والأحياء في جولة لا نهائية مليئة باللفتات اليومية؟ الجواب الوحيد: لقد بدأت الرحلة النهائية، كان بيتر، في العمق، يستعد لترك هذا العالم. مشهد يذكرنا برواية الكاتب النيذرلاندي سيس نوتبوم، «القصة التالية»، وإن كانت تأتي بنغمة أخرى، وفي بيئة مغايرة، لكن «هذا السحر» في الروايتين هو نفسه. بيد أن المشاعر المتناقضة في رواية فوسه تنبثق بنوع من الامتلاء الصبور، والخضوع شبه الممتن والودي لنظام الأشياء، الذي يتدفق بنفس الإيقاع البطيء مثل إيقاع الكتابة، أو حركة البحر الرتيبة أو التكرار غير المفاجئ. إنه مسار حياة يوهانس. ويمكن أن نضيف إن جمال هذه القصة الكئيب يعود أيضًا إلى قدرتها الغريبة على خلق علاقة حميمة مع القارئ وجعل القراءة إطارًا لتجربة فريدة للآخر.

يمكن أن تبدو قصة يوهانس وكأنها «ممرات» وانتقالات في هذه الحياة؛ إذ إننا أمام نص عن اللحظات الرئيسية للولادة والموت. بالأحرى هي رواية عن هذه المنطقة الوسطى التي تبرز بين شواطئ الحياة وشواطئ الموت. كل شيء عبارة عن حركة سلسة بين الواقع والحلم، ذهابًا وإيابًا بين الأرض وأعالي البحار في قارب القدر.

يوهانس، مثل كل واحد منا في ساعة الحياة الأخيرة، لا ينتقل من الحياة إلى الموت. بينما لم يتغير شيء ولكن كل شيء يبدو مختلفًا، مع حركة جسد بطيئة شاذة شاعرية، فهي تعبر فقط الزمان والمكان والكائنات التي تمر أيضًا والتي قد مرت في حياته. إذا رست سفينة الصياد للحظة على الضفة الأخرى بصحبة صديقه بيتر، أثناء التجميع الأخير لسِلال السرطانات البحرية، فهذا ليس عبورا للنزول إلى الجحيم. بل للعودة إلى ضفاف حياته الأولى، إلى الأصل، إلى فجر الحياة، لكي يطمس صورة التمزق الذي يمكن أن يرمز إليه الموت.

***

في عبارة غنيّة بالتفاصيل تشبه خيطًا طويلًا هشًا ينكشف بدقة على الصفحة، وتنشر، عبر كلمات يومية، أفكارًا تتطور بطريقة بيضاوية لتشكل في النهاية تيارًا من الوعي غير قابل للكسر، يأخذنا نثر يون فوسه، الذي يتسم بالبساطة والأناقة المرحة، على طريق يصعب الانفصال عنه.

من خلال بضع كلمات، ينجح المؤلف في خلق جو ومناخ، وتصوير سياق وبيئة، ونقل أساسيات الحياة، في حين تسلط القصة الضوء على أهمية وجودنا الإنساني المتواضعة. هي قصة بسيطة، وبشدة، من حيث الجوهر، إلا أنها بين أصالة الأسلوب وقوة الكتابة المثيرة للذكريات، نجدها تُظهر إتقانًا كبيرًا للفن الكتابي.

***

قلت في بداية كلامي: إن علامات الترقيم، في نص فوسيه لا يمكن التنبؤ بها، كما أن هناك تناوبا بارعا للمنظورات السردية. فبدلا من النقاط (وخاصة علامات الاستفهام، التي يتجنبها بشكل خاص)، يقوم المؤلف بمضاعفة التكرارات، من دون التخلي عن الفواصل (حتى لو كانت نادرة). كتاباته، التي يقال: إنها قطعية، تعطي الحوارات طابعًا مألوفًا والكلمات اليومية طابع الغرابة. من هنا، لو جاز القول، إن غياب علامات الترقيم يؤدي إلى تعثر التصريفات والتنغيمات المتوقعة. بمعنى آخر، نحن نتعامل مع كتابة مفرغة من محتواها الإعلامي لدرجة أنها تصبح مجردة تقريبا، والتي بدلا من تحديد الشخصيات أو المعنى، تفتحها إلى أقصى الحدود، وتبقيها في حالة من الانفتاح أو الحد الأقصى من التوفر. لذا نحن أمام كتابة تعليقية، لكنها كتابة لا نهاية لها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: یمکن أن

إقرأ أيضاً:

الإنسانية والتعوّد والفولاذ

عاش نيكولاي أوستروفسكي (1904 -1936) حياة قصيرة حين أقعده المرض في السرير وهو شاب في العشرين من عمره بعد الجراح الممضة وفقدان البصر التي أصيب بها في جبهات الحرب الأهلية، وكانت صحته تتردى يومًا بعد يوم، في تلك الفترة بدأ يكتب رواية «كيف سقينا الفولاذ» الصادرة عام 1934 التي تعد من عيون الأدب السوفييتي، الرواية التي تحدث بها عن الشباب والحب والكفاح في سبيل الحياة وفيها يقول: «الحياة أعز شيء للإنسان إنها توهب له مرة واحدة، فيجب أن يعيشها عيشة لا يشعر معها بندم معذب على السنين التي عاشها ولا يلسعه العار على ماض رذل تافه، وليستطع أن يقول وهو يحتضر: كانت كل حياتي، كل قواي موهوبة لأروع شيء في العالم: النضال في سبيل تحرير الإنسانية».

كثيرا ما يحدث أن تفقدنا الألفة الدهشة، ويفقدنا التكرار لذة الانفعال الشعوري المصاحب للمرة الأولى، يحدث أن يقلّ تأثرنا ثم يختفي تدريجيا بتعودنا على أحداث كثيرة تمر علينا لتتحول من الندرة إلى الألفة، ومن الاستهجان إلى التعوّد، ومن التأثير إلى انتزاع الأثر؛ من هذه الفكرة تحديدا وعبرها تتم برمجتنا عصبيا ونفسيا بمعايشتنا لسنوات قائمةً من الأحداث والأخبار والمشاهد المرئية والمسموعة التي تتلقاها أجهزتنا العصبية وأرواحنا المتعبة لنختزنها في أعماقنا ما قد يحرك ردود أفعالنا ذات مرة أولى، وسلوكنا ذات صدمة للتلقي لا نلبث أن نتجاوزها بعد التكرار العاشر (أو ربما قبل ذلك؛ حسب قدرة كل منا على الخزن والتجاوز)، وقد يكون ذلك من الخير حين نتحدث عن مساحات السلام الداخلي وضرورة تخلص الإنسان من المخزون السلبي وطاقات الحزن والخوف والفزع، لكن لذلك مآلات نفسية سلوكية خطيرة قد تتجاوز فكرة التشرب والتأقلم والتجاوز إلى فكرة أخطر في استمراء الألم وتعود القهر وألفة غير المألوف.

لا يمكن إخفاء تأثرنا العظيم قبل سنوات من خبر صادم يتضمن مشهد إنسان يعاني ويلات الحروب أو المجاعة، طفل يتألم من طلقة طائشة، أو عجوز يصرخ بعد تهجير أو تجويع، كما لا يمكننا إخفاء أن أحداث العالم في العقد الأخير الذي نعايشه أمطرتنا بكثير من مشاهد أكثر وجعا، وصرخات أعلى دويا دون أن تترك الأثر ذاته، وليس ذلك أننا صرنا بلا شعور، بل هو اليقين بأن ثمة برمجة (سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة) قد حدثت لشعورنا لحظة التلقي، وسلوكنا أوان استيعاب الحدث، كما لا يمكن إنكار قدرة التكرار على تخدير الوجع وتعوّد الموجع كما لو أننا فعليا نسير إلى مرحلة فقدان التأثر وتجميد الانفعال.

ما يحدث اليوم من أحداث عالمية تهاجم أجهزتنا العصبية تحيل بعضنا إلى العزلة بغية الاستشفاء واستعادة ما بقي من قدرة على الشعور والتفاعل، هروبا من نمط التكرار وحال التعود ولو إلى حين، كما أنها أحالت بعضنا إلى آلية الاستقبال وبلاهة التلقي إذ يصل الإنسان في هذه المرحلة إلى تحييد مشاعره وتجميد انفعالاته ليمر على المآسي مرورًا وظيفيًا عابرًا دون أن يشعر بأنه في الحقيقة وقع ضحية لعصابة خفيّة إجرامية تسعى لسرقة محفزات جهازه العصبي وقدرته الإنسانية على التأثر المرتبطة كذلك بقدرته على التأثير، فيمضي لا شعوريا إلى مرحلة لاحقة من تحول إنسان هذا العصر إلى آلة يستنزفها الواقع، ويستهلكها نمط الحياة المادية البالية.

إن ما نمر به من أحداث يومية شخصية أو محلية أو عالمية يغبّش -مع كثرته- على قدرة عقولنا على الاستيعاب والتحليل، وقدرة أرواحنا على التأقلم والتعود، فهل تصدمنا بعد كل ذلك حقيقة أننا نسير إلى تشييء أرواحنا وقولبة ردود أفعالنا لنكرر ما كنا نستنكر من تحول بعضنا أفرادا أو مؤسسات إلى مجرد قوالب ناطقة مكررة كلمات مثل تنديد، استنكار، قلق، حذر، وغيرها من كلمات نحاول بها استنطاق الميت من مشاعرنا والمحنّط من ردود أفعالنا؟!إن خطورة ما يعايش شباب اليوم هو التركيز على المادة، واستنزاف طاقات كل من العقل والروح في سبيل الوصول إلى المادة التي سنكتشف جميعا بعد أمد طويل أنها ليست ما كنا نبغي، ولا هي غاية الساعي في استنزاف أيامه واستهلاك عمره كاملا دون تبني رأي، أو اعتناق عقيدة.

لعلّ بعض الأحداث السياسية الكبرى اليوم أسلمتنا إلى يقين عودة الحياة إلى آلة الجسد، وعودة التأثر إلى قالب الحياة الاستهلاكية البائسة، تلك الأحداث أحدثت ضجّةً هائلةً، وردات فعل جماهيرية مدهشة ليس لتضمنها وجعًا إنسانيًا عظيمًا وحسب، بل لقدرتها العميقة على بعث الميت من روحانيات الناس، والكامن المقولب من ردود أفعالهم ليمضوا في نصرتهم للموجوعين دون تلفت إلى خسارات كانوا يكبرونها بالأمس، أو تفكّر في ماديات استصغروها اليوم بعد احتفائهم الجماعي بإدراكهم أن إنسان هذا الكون المستنزف المتعب ما زال قادرًا على التوجع لأجل إنسانيته بعيدا عن كل ماديات العالم، وأن هذه القدرة وحدها هي من تضمن له ولغيره من البشر النجاة أوان تكامل الناس وتحلقهم حول أهداف إنسانية عليا تنتصر للحياة وتدرك مغبّة وقوع البشر ضحايا قسوة عجلات الوقت المادي الاستهلاكي.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية

مقالات مشابهة

  • الإنسانية والتعوّد والفولاذ
  • رئيسة حكومة مدريد: ريال مدريد يمنحك ذكريات مدى الحياة
  • تفجير مسجد دار الرئاسة في ذكراها الثالثة عشرة والجناة خارج السجن
  • مفاجآت جديدة بملف التيك توكرز!
  • مناضل الحرية.. مصر تبصر وجه فرعون لأول مرة منذ 3500 عام
  • والمخفي أعظم
  • سعد الصغير ناعيا والدة محمود الليثي: «في الجنة يا أمي» (صورة)
  • أسرار جديدة في حياة يونس شلبي بذكرى ميلاده
  • بايدن وترامب والهجرة.. سياسات مختلفة قد تؤثر على الأسواق
  • على حافة الغابة البدائية: الحلقة (11)