إعادة ضبط العلاقة الأميركية – الخليجية في نظام عالمي متغير
تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT
آخر تحديث: 5 نونبر 2023 - 9:54 صبقلم:نيكولاي إي ملادينوف تجد الولايات المتحدة نفسها، خلال عصر تحول الديناميكيات العالمية، تشق المياه المتقلبة الناتجة عن صعود الصين ومواجهتها الغزو الروسي لأوكرانيا. ويعمل قادة الخليج وخارجه على صياغة مساراتهم الخاصة، مع التركيز على الدبلوماسية الاقتصادية، والتهدئة السياسية، والتحالفات الإستراتيجية المتنوعة.
وتؤكد الدعوة التي وجهتها مجموعة بريكس في أواخر أغسطس لدمج ستة أعضاء جدد في الكتلة على التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة في تكيفها مع هذه التغيرات، وخاصة في الشرق الأوسط. ورغم أن بعض الدول لم تستجب للدعوة رسميا بعد، فمن المحتمل أن تنضم جميعها (الإمارات والسعودية وإيران ومصر وإثيوبيا والأرجنتين) إلى البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في بريكس خلال يناير 2024. وكان هدف تنويع السياسة الخارجية سبب جل عمليات إعادة التنظيم في الشرق الأوسط والخليج. ويمكن ربط هذه الرغبة الملحة إلى صعود الاقتصادات الآسيوية قبل عقدين، والأهم من ذلك، إلى “المحور الأميركي نحو آسيا” أثناء إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. وكان التصور المتزايد بأن الولايات المتحدة تبتعد أو تتذبذب في التزامها الأمني في المنطقة بسبب البحث عن أطر سياسية جديدة.
وبينما تشهد منطقة الخليج نموا اقتصاديا سريعا، تتباعد السياسات الوطنية عن المصالح الأميركية، حتى مع التحالفات المحسوبة بين المنطقتين على المستوى الأمني. كما لعب الانسحاب المفاجئ والفوضوي من أفغانستان في 2020 دورا حاسما في دفع دول الشرق الأوسط للبحث عن بديل لواشنطن. وشكّلت ثلاثة إجراءات أميركية أخرى النظرة الجديدة التي تبنتها المنطقة.
أولا، كانت العديد من دول الخليج والشرق الأوسط مترددة في دعم الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في 2003، وخشيت أن يتسبب ذلك في تغذية التوسع الإقليمي الإيراني في بغداد بعد صدام حسين. وتحققت هذه المخاوف، حيث مكّنت سنوات عدم الاستقرار التالية للغزو من ظهور الميليشيات والأحزاب المدعومة من طهران والمعادية لدول الخليج في العراق. ثانيا، بينما نصح البعض في المنطقة بعدم دعم واشنطن للإطاحة بحسني مبارك في مصر في 2011، لم تستمع الولايات المتحدة لمخاوفهم. وواجه الشرق الأوسط منذ ذلك الحين تداعيات السياسة الإسلامية المتطرفة. وأخيرا، ورغم المعارضة الإقليمية للاتفاق النووي مع إيران، وقّعت الولايات المتحدة على خطة العمل الشاملة المشتركة في 2015. وكان التراجع عنها لاحقا (ومساعي إعادة إحيائه التي لم تكتمل بعد) سببا في تشويش التصورات أكثر حول نوايا الولايات المتحدة في المنطقة. وقوّضت هذه الأحداث مصداقية الولايات المتحدة. وتولى اللاعبون الإقليميون زمام الأمور بأيديهم في اليمن نتيجة لذلك، مما زاد من توتر العلاقة التي تجمعهم بواشنطن. ومثّلت هجمات الحوثيين بالطائرات المسيّرة على السعودية والإمارات بين 2019 و2022 اختبارا إضافيا للشراكة الأميركية في المنطقة. ولم يتضح بعد مدى تأثير القتال بين إسرائيل وحماس على موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، خاصة إذا حدث تصعيد يجذب الميليشيات الأخرى من وكلاء إيران في المنطقة. وبعد أن أنفقت الولايات المتحدة 8 تريليونات دولار في حربي العراق وأفغانستان والحرب ضد الإرهاب، بلغت المساعدات التي قدّمتها لأوكرانيا في التصدي للعدوان الروسي نحو 75 مليار دولار، وهي تعد بتقديم دعم إضافي. وينتظر قسم كبير من الشرق الأوسط، الذي سعى للبقاء على الحياد في ما يتعلق بمسألة أوكرانيا، الوقت المناسب لتعزيز الفوائد التي قد تعود بها عملية إعادة التنظيم العالمية على القوى المتوسطة. وفي نفس الوقت، كانت الصين تستغل الفرص الاقتصادية في الشرق الأوسط بهدوء. وبلغت تعاملات الصين مع دول مجلس التعاون الخليجي الست 233 مليار دولار في 2021 بدعم الشراكات النشطة في مجالات الطاقة والتجارة والتكنولوجيا والاستثمار. وكانت هذه زيادة كبيرة من الـ134 مليار دولار المُسجلة قبل عقد. وعلى سبيل المقارنة، بلغت التجارة الأميركية مع دول مجلس التعاون الخليجي نحو 60 مليار دولار في 2019، مشكّلة انخفاضا من حوالي 100 مليار دولار في 2011. ويفوق حجم الطاقة والتجارة بين دول مجلس التعاون الخليجي ونظيرتها الآسيوية (الهند، وكوريا الجنوبية، واليابان، ومجموعة جنوب شرق آسيا) تعاملاتها مع الولايات المتحدة. وأثّرت هذه العلاقة بين كبار منتجي النفط ومستهلكيه في آسيا على السياسة الخارجية وإستراتيجيات الأمن الخاصة التي يتّبعها مجلس التعاون الخليجي. وتعدّ التجارة المؤشر الوحيد على تحول التحالفات. ويختلف منظور المنطقة الإستراتيجي عن المنظور الأميركي. وبينما تبقى العلاقات الدفاعية والأمنية مع الغرب حاسمة، تشير المساعي التي شهدها العالم خلال السنة الحالية لإصلاح العلاقات مع الخصوم الإقليميين (مثل إيران) إلى تحول في التركيز نحو إعطاء الأولوية للدبلوماسية الاقتصادية. ويعكس هذا النهج المتطور استقلال المنطقة الإستراتيجي المعزز.وتفتخر العديد من دول الشرق الأوسط اليوم باقتصادات أقوى وقدرات عسكرية أكبر مما كانت عليه في الماضي. ورغم أن المنطقة لا تزال بعيدة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل، إلا أنها تعمل تدريجيا على تنويع شراكاتها وفقا لشروطها الخاصة. وكلما اعترفت واشنطن بهذا التحرك نحو تقرير المصير الإستراتيجي، كلما كانت مواءمتها أفضل مع تطلعات المنطقة وأولوياتها.
ويسعى الخليج إلى أن يؤسس منطقة يتفوق فيها التعاون على المواجهة. ويتردد صدى هذه الرغبة في تفضيل القادة للحوار والدبلوماسية والتحالفات المتنوعة على التدخلات العسكرية والسياسات بالوكالة. ويؤكد عدم تجانس الإستراتيجيات داخل دول مجلس التعاون الخليجي على ضرورة إعادة تقييم الولايات المتحدة لنهجها. ويتطلب الطريق إلى تجديد الشراكة بين الولايات المتحدة والخليج والشرق الأوسط فهما دقيقا للنظرة العالمية إلى المنطقة. وليس الشرق الأوسط، وخاصة كتلة مجلس التعاون الخليجي، منطقة متجانسة. بل تتبنّى الدول الفردية إستراتيجيات متنوعة مبنية على تفسيرها الفريد للاستقلال الإستراتيجي. وتشمل الخطوات الأولية في تجديد علاقات المنطقة مع واشنطن استيعاب رؤية الشرق الأوسط للشؤون العالمية، وتوسيع المبادرات مثل اتفاقيات أبراهام، وتأييد أطر التعاون المتخصصة مثل مجموعة آي 2 يو 2 (الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة)، وتوسيع التحالفات من خلال دمج دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وأوروبا واليابان.يجب إذن أن يعيد صناع السياسة الأميركيون ضبط إستراتيجياتهم بما يتماشى مع المسارات الجديدة التي ترسمها دول الخليج في المشهد الجيوسياسي المتغير.المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: دول مجلس التعاون الخلیجی الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط ملیار دولار فی المنطقة دولار فی
إقرأ أيضاً:
ما هو «الشرق الأوسط الجديد»... الحقيقي هذه المرة؟!
لم يبقَ في عالمنا العربي إعلاميٌّ أو محلّلٌ سياسي، أو دخيلٌ على المهنتين، إلا وحاضر ودبّج مقالات على مرّ العقود الأخيرة عن «الشرق الأوسط الجديد». غير أنَّ الشرق الأوسط الذي نراه اليوم حالة مختلفة عما كنا نسمعه، مضموناً وظروفاً.
منطقتنا صارت، مثل حياتنا ومفاهيمنا السياسية - الاجتماعية، خارج الاعتبارات المألوفة. بل يجوز القول إنها باتت مفتوحة على كل الاحتمالات. وهنا لا أقصد البتة التقليل من شأن نُخبنا السياسية أو الوعي السياسي لشعوبنا، أو قدرة هذه الشعوب على التعلّم من أخطائها... والانطلاق - من ثم - نحو اختيار النهج الأفضل...
إطلاقاً!
اليوم، نحن وأرقى شعوب الأرض وأعلاها كعباً في الممارسة السياسية المؤسساتية في زورق واحد.
كلنا نواجه تعقيدات وتهديدات متشابهة. ولا ضمانات أن «تعابير» كالديمقراطية والحكم الرشيد في دول ذات تجارب ديمقراطية راسخة، كافية إذا ما أُفرغت من معانيها، لإنقاذ مجتمعات هذه الدول مما تعاني منه... وسنعاني منه نحن.
بالأمس، سمعت من أحد الخبراء أنَّ الاستخدام الواسع لتقنيات «الذكاء الاصطناعي» في مرافق أساسية يومية من حياة البشر ما عاد ينتظر سوى أشهر معدودة.
هذا على الصعيد التكنولوجي، ولكن على الصعيد السياسي، انضمت البرتغال قبل أيام إلى ركب العديد من جاراتها الأوروبيات في المراهنة عبر صناديق الاقتراع على اليمين العنصري المتطرف، مع احتلال حزب «شيغا» الشعبوي شبه الفاشي المرتبةَ الثانية في الانتخابات العامة الطارئة، خلف التحالف الديمقراطي (يمين الوسط)، وقبل الحزب الاشتراكي الحاكم سابقاً.
تقدُّم «شيغا» في البرتغال، يعزّز الآن حضور الشعبويين الفاشيين الذي تمثله في أوروبا الغربية قوى متطرفة ومعادية للمهاجرين مثل: «الجبهة الوطنية» في فرنسا، و«فوكس» في إسبانيا، و«إخوان إيطاليا» في إيطاليا، وحزب «الإصلاح» (الريفورم) في بريطانيا، وحزب «الحرية» في هولندا، وحزب «البديل» في ألمانيا.
ثم إنَّ هذه الظاهرة ليست محصورة بديمقراطيات أوروبا الغربية، بل موجودة في دول عدة في شرق أوروبا وشمالها، وعلى رأسها المجر. وبالطبع، ها هي ملء السمع والبصر في كبرى الديمقراطيات الغربية قاطبةً... الولايات المتحدة!
في الولايات المتحدة ثمّة تطوّر تاريخي قلّ نظيره، لا يهدد فقط الثنائية الحزبية التي استند إليها النظام السياسي الأميركي بشقه التمثيلي الانتخابي، بل يهدد أيضاً مبدأ الفصل بين السلطات.
هذا حاصل الآن بفعل استحواذ تيار سياسي شعبي وشعبوي واحد، في فترة زمنية واحدة، على سلطات الحكم الثلاث: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، يضاف إليها «السلطة الرابعة» - غير الرسمية - أي الإعلام.
ولئن كان الإعلام ظل عملياً خارج الهيمنة السياسية، فإنه غدا اليوم سلاحاً أساسياً في ترسانة التيار الحاكم بسبب هيمنة «الإعلام الجديد»، والمواقع الإلكترونية، و«الذكاء الاصطناعي»، و«أوليغارشي» ملّاك الصحف والشبكات التلفزيونية، ناهيك من وقف التمويل الحكومي لإعلام القطاع العام. وما لا شك فيه أن مؤسسات هؤلاء، بدءاً من رووبرت مردوخ (فوكس نيوز) وانتهاء بإيلون ماسك (إكس) ومارك زوكربرغ (ميتا) وجيف بيزوس (الواشنطن بوست)... هي التي تصنع راهناً «الثقافة السياسية» الأميركية الجديدة وربما المستقبلية، بدليل أن نحو 30 من وجوه إدارة الرئيس دونالد ترمب جاؤوا من بيئة «فوكس نيوز» ونجومها الإعلاميين.
في هذه الأثناء، يرصد العالم التحولات الضخمة في المشهد الأميركي بارتباك وحيرة.
الحروب الاقتصادية ليست مسألة بسيطة، وكذلك، لا تجوز الاستهانة بإسقاط سيد «البيت الأبيض» كل المعايير التي تحدد مَن هو «الحليف» ومَن هو «العدو»... ومَن هو «الشريك» ومن هو «المنافس»!
ولكن، في ضوء التطوّرات المتلاحقة، يصعب على أي دولة التأثير مباشرة في أكبر اقتصادات العالم وأقوى قواه العسكرية والسياسية. ولذا نرى الجميع يتابع ويأمل ويتحسّب ويحاول - بصمت، طبعاً - إما إيجاد البدائل وإما التقليل من حجم الأضرار الممكنة.
أما عن الشرق الأوسط والعالم العربي، بالذات، فإننا قد نكون أمام مشاكل أكبر من مشاكل غيرنا في موضوع اختلال معايير واشنطن في تحديد «الحليف» و«العدو».
ذلك أن الولايات المتحدة قوة كبرى ذات اهتمامات ومصالح عالمية. وبناءً عليه، لا مجال للمشاعر العاطفية الخاصة، وأيضاً لا وجود للمصالح الدائمة في عالم متغيّر الحسابات والتحديات.
في منطقتنا، لواشنطن علاقة استراتيجية راسخة مع إسرائيل التي تُعد «مركز النفوذ» الأهم داخل كواليس السلطة الأميركية ودهاليزها، والتي تموّل «مجموعات ضغطها» معظم قيادات الكونغرس ومحركي النفوذ.
ثم هناك تركيا، العضو المهم في حلف شمال الأطلسي «ناتو»، والقوة ذات الامتدادات الدينية والعرقية والجغرافية العميقة والمؤثرة في رسم السياسات الكبرى.
وأخيراً لا آخراً، لإيران أيضاً مكانة كبيرة تاريخياً في مراكز الأبحاث الأميركية كونها - مثل تركيا - «حلقة» في سلسلة كيانات الشرق الأوسط، ولقد أثبتت الأيام في كل الظروف أن غاية واشنطن «كسب» إيران لا ضربها.
في هذا المشهد، ووسط الغموض وتسارع التغيير، هل ما زلنا كعرب قادرين يا ترى على التأثير في المناخ الإقليمي وأولويات اللاعبين الكبار؟
الشرق الأوسط