فيلم Five Nights at Freddy’s.. لغز الشعبية الطاغية
تاريخ النشر: 10th, November 2023 GMT
متابعة بتجــرد: في عالم يزداد صعوبة على الفهم كل يوم، لم يعد الكبار (ممن تجاوزا الخمسين) يتعرفون عليه، فيُمكن لفيلم مثل Five Nights at Freddy’s أن يتصدر شباك التذاكر، ويحقق كل هذه الإيرادات (التي تجاوزت 200 مليون دولار حتى الآن).
هذا فيلم لعبة مأخوذ عن لعبة فيديو، صنعها شاب اسمه سكوت كوثون في 2013، بهدف التسلية وإبهاج الأطفال ففشلت، فحولها صاحبها إلى لعبة مرعبة فنجحت، فصنع منها سلسلة تحولت إلى ظاهرة، ثم إلى لعب أطفال، فسلسلة روايات، ففيلم يحقق أعلى الإيرادات (بالنسبة لفيلم رعب) من المتوقع أن يصبح بداية لسلسلة أفلام.
إذا كان لديك أطفال صغار، فلا بد أنك لاحظت هوسهم بألعاب الرعب، كان هناك لعبة اسمها Huggy Wuggy لدمية زرقاء ذات أسنان مرعبة، تحولت إلى ظاهرة، وأضيف إليها شخصيات أكثر قبحاً ورعباً، بعدها ظهرت لعبة لبني آدمين على هيئة تواليت اسمها Skibidi Toilet، تحولت لظاهرة وصُنع منها “تواليتات” أكثر قبحاً ودموية، وبالطبع تحولت شخصيات كل منهم إلى دمى وألعاب، والملايين من الدولارات تدخل جيوب مخترعوها كل يوم، وأشكالها المخيفة تدخل عقول ملايين الأطفال كل يوم.
ولا أحد يفهم ما يحدث، لكن الكثير يحلمون باستغلاله، ويتبارون في صُنع أشكال أكثر رعباً وإثارة للقرف، وبما أن المال هو المعيار الوحيد للنجاح، فلا أحد يتوقف ليتساءل عن معنى وجدوى وتأثير ما يحدث.
يستلهم Five Nights at Freddy’s الفكرة الأساسية للعبة التي تدور حول بعض الدمى الإلكترونية، لحيوانات منها الدب والثعلب والأرنب والدجاجة، تستخدم لتسلية الأطفال في مطعم بيتزا، تدب فيها الحياة ليلاً لتطارد حارس المكان (حيث يلعب الطفل غالباً دور الحارس الذي ينبغي عليه أن يقضي على هذه الدمى المرعبة، ويدور حول شاب يعاني من مشاكل نفسية بسبب اختطاف أخيه عندما كان صغيراً، يقرأ كتباً عن الأحلام، ويحاول البحث في أحلامه عن مفتاح يقوده إلى الخاطف، يضطر للعمل في الليل كحارس للمطعم المهجور الذي يخفي بين جوانبه سر ما حدث لأخيه، والحقيقة أن الفيلم نجح في تحويل الخط البسيط للعبة إلى عمل درامي يحوي العديد من المشاعر والمعاني.https://cdn.iframe.ly/6Q7a6x3
من الطريف أيضاً، أن Five Nights at Freddy’s أخرجته (والمشاركة في كتابته مع المؤلف الأصلي للعبة)، مخرجة شابة هي إيما تامي، ولعلها أول امرأة تُنفذ فيلم رعب تجارياً، ويبدو أنها كانت من الأطفال الذين أحبوا اللعبة صغاراً، وعلى ما يبدو أيضاً فهي التي بثت في سيناريو الفيلم روحاً ومعنى نسوياً من خلال شخصية ضابطة البوليس الشابة التي يتبين أن والدها هو المجرم الشرير، وتواجهه في النهاية في مشهد يبين طبيعة الأب القاتل والمغتصب لأبنائه وبناته، وبهذا الفيلم تكون إيما تامي ثاني امرأة تحقق نجاحاً مدوياً في 2023 بعد جريتا جيرويج صاحبة فيلم Barbie الذي حقق أعلى إيرادات العام.
على موقع Rotten Tomatoes المخصص لجمع المقالات النقدية عن الأفلام، ستجد أن Five Nights at Freddy’s لم يحظَ إلا بنسبة 29% من رضا النقاد، لكنه حظي بنسبة 88% من رضا الجمهور، أما على موقع metacritic فلم تختلف النسبة كثيراً، فكانت 33% من رضا النقاد، مقابل 80% من رضا الجمهور.
ما الذي يخبرنا به هذا الانقسام الحاد بين رأي الجمهور والنقاد؟ أشياء كثيرة ربما، لكن المؤكد منها أن هناك انقساماً حاداً في الذوق بين النقاد الذين تجاوز معظمهم الثلاثين، وجمهور الفيلم الذين لم يتجاوز معظمهم العشرين.
لقد حرص صُنّاع الفيلم على أن يصلح فيلمهم لأصغر سن ممكن رقابياً، وبالفعل نجحوا في تخفيض تصنيف الفيلم من فوق 15 إلى فوق 13 عاماً، وهو تصنيف نادراً ما يحصل عليه فيلم رعب، ولو أن “فريدي” صُنع منذ 20 أو 30 عاماً، فإن تصنيفه لم يكن سيقل عن فوق 15 عاماً بأية حال.
وبالفعل تم تصنيف الفيلم في بعض البلاد مثل مصر لفوق 16 عاماً، ومع ذلك لا تندهش إذا رأيت بعض الأطفال في سن الـ13 أو أقل يتعاملون معه باعتباره فيلماً كوميدياً.
من الغريب، كما ذكرت أن “فريدي” بدأت كلعبة عائلية تضم بعض الدمى الإلكترونية المضحكة، ولكن ردود كثير من الأطفال رأوا أن هذه الدمى مخيفة عوضاً عن أن تكون مضحكة، والنقاد المتخصصون في الفيديو جيم انتقدوا النموذج الأول للعبة، مما دفع مخترعها إلى تحويلها للعبة مرعبة بالفعل، وهنا لاقت اللعبة نجاحاً هائلاً، وهو ما يضعنا أمام موقف غريب للغاية: عندما كان الهدف من الدمى إضحاك الأطفال خافوا منها، وعندما أصبح الهدف منها إرعابهم أحبوها واختلطت صرخاتهم بالضحك، أين علماء النفس ليفسروا لنا هذه الظاهرة؟
على أي حال، كان مؤسس علم التحليل النفسي سيجموند فرويد هو من قال إن: دمى الحيوانات وكوابيس الأطفال التي تحتوي على حيوانات عملاقة إنما تشير إلى خوفهم من الآباء والأمهات، ويحمل غلاف كتاب “نظرية الأحلام” الذي يقرأه بطل الفيلم صورة متاهة، أما “لوجو” دار النشر، فعلى هيئة أرنب، والأرنب في الفيلم هو الهيئة التي يتنكر عليها القاتل، أما الأرنب في التراث الشعبي والأحلام، فعادة ما يكون رمزاً للخصوبة والجنس، وهو ما يشدد على المعنى الضمني المخفي لطبيعة الخوف الذي يعزف عليه الفيلم، وهو الخوف من الأب القاتل والمغتصب.
ربما يكون Five nights at Freddy’s متوسطاً أو متواضعاً فنياً، وقد يكون أبسط من أن يحمله الناقد على محمل الجد، ولكن الحقيقة أن نجاحه (ونجاح الفيديو جيم وتوابعه من كتب وألعاب بشكلٍ عام)، لا يمكن أن يكون صدفة أو شيئاً قادماً من الفراغ، فخلف هذه الشعبية، وخلف هذا الخوف، أسباب مهمة وذات دلالة بالتأكيد، من بين هذه الأسباب قد يكون التفسير الفرويدي لأحلام الحيوانات، وقد يكون علاقتنا بالصور التي يشير إليها الفيلم أكثر من مرة: فالأطفال قبل أن يتعلموا ويتقنوا اللغة يفهمون العالم، ويعبرون عنه من خلال الصور، وهم يعبرون عن فهمهم ومحاولاتهم هذه من خلال رسوماتهم التي قد تبدو ساذجة مثل الفيلم، ولكن حين نحللها قد نكتشف أشياء عميقة ومخيفة.
main 2023-11-10 Bitajarodالمصدر: بتجرد
كلمات دلالية: من رضا
إقرأ أيضاً:
لماذا لا يستطيع اليسار الوظيفي أن يكون ديمقراطيا؟
إن الحديث عن يسار وظيفي (وهو يسار متشكل من كيانات ماركسية وقومية ناصرية وبعثية) يعني منطقيا وجود يسار غير وظيفي، أي وجود يسار قد نختلف في توصيفه؛ فهو عند البعض يسار وطني وعند آخرين يسار ثوري أو يسار جديد، ولكننا لن نختلف في أنه لن يكون متذيلا للمنظومة الحاكمة ولا خادما لها بالمعنى التقليدي الذي تحدث عنه بول نيزان (كلاب الحراسة الذين كانوا يتشكلون زمن نشر الكتاب -سنة 1932- من الفلاسفة والمنظرين والمثقفين)، وبالمعنى الذي وضعه من بعده سيرج حليمي (كلاب الحراسة الجدد الذين يتشكلون من الإعلاميين والصحفيين والخبراء والمحللين).
فحراسة النظام والتقاطع الاستراتيجي مع نواته الصلبة ومع الخيارات التأسيسية للدولة-الأمة، ولو رافق ذلك أحيانا اتخاذ مسافة نقدية من الواجهة السياسية لمنظومة الاستعمار الداخلي أو التحرك ضدها في بعض القضايا الخلافية، تجعل من اليساري وظيفيا بالضرورة، أي فاعلا جماعيا يحدد مواقفه واقعيا ويتحرك في مختلف القطاعات -مهما كانت دعاويه نظريا- لخدمة تلك المنظومة ومنع أي مشروع ثوري/إصلاحي قد يُعرّض مصالحها المادية والرمزية لأي خطر وجودي. وهو أمر أكدته الثورات العربية بما فيها الثورة التونسية.
الديمقراطية لا تتعارض مع مصلحة النهضة، بل إن ما يتعارض مع مصلحتها هو الانقلاب عليها واختزالها في مقاربة أمنية قضائية، أما اليسار الوظيفي فإن الديمقراطية تجعله يواجه حقيقته: قوة نوعية "برجوازية" بلا أي عمق شعبي
ليس الهدف من هذا المقال شيطنة اليسار أو بطر حقه باعتباره حاملا لمشروع ثوري أساسه العدالة الاجتماعية وعنوانه الأكبر التحرر الوطني، وليس هدفنا أيضا أن نختزل اليسار في البعد "الوظيفي" الغالب على مكوناته وترذيل تلك الأصوات الفردية التي تتحرك ضد الاتجاه العام للفكر اليساري "المُتَونس" على أعين اليمين، ولكن هدفنا هو طرح بعض الأسئلة مشفوعة ببعض النقاط التي قد تصلح لتعميق النقاش العمومي فيها: لماذا تحوّلت أغلب مكونات اليسار إلى أجزاء وظيفية في منظومة الاستعمار غير المباشر/ منظومة الاستعمار الداخلي منذ عهد المخلوع واستمرت كذلك حتى بعد "الثورة"؟ لماذا ارتضت أغلب مكونات اليسار أن تكون "وكيلا مؤقتا" للمنظومة السابقة خلال المرحلة التأسيسية وطيلة ما يسمى بـ"عشرية الانتقال الديمقراطي" المجهضة؟ ما الذي دفع أغلب مكونات اليسار إلى إنضاج الشروط الفكرية والموضوعية لإنهاء "الفسحة الديمقراطية" والانقلاب عليها؟ ولماذا ساندوا "تصحيح المسار" رغم أنه ينهي الحاجة إلى "الديمقراطية التمثيلية" وإلى أجسامها الوسيطة في كل المجالات؟ هل يمكن لاستصحاب ثنائية التناقض الرئيس والتناقض الثانوي أن ينتج حقلا سياسيا طبيعيا يمكّن اليسار وغيره من الانعتاق -ولو بعد حين- من هيمنة النواة الصلبة لمنظومة الحكم بصرف النظر عن واجهتها السياسية؟
رغم دوران تعبير "الجمهورية الثانية" على ألسنة بعض النخب بعد الثورة، فإن مصيرها لم يختلف عن مصير الشخصية السياسية المعارضة التي ارتبطت بها، أي المرحوم طارق المكي؛ زعيم "حركة الجمهوية الثانية". فهذه الشخصية المعارضة لم تستطع أن تتموقع في الحقل السياسي الجديد، وكان مصيرها التهميش حتى بعد وفاتها. فقد غابت عن جنازته -بعد وفاته بـ"سكتة قلبية"- كل الوجوه السياسية والحقوقية والنقابية المعروفة، ولكنّ أغلب تلك الوجوه حضرت "جنازة" الجمهورية الثانية بإجماعها على إدارة الثورة بمنطق "استمرارية الدولة"، وهو منطق جعل الخروج من "الجمهورية الأولى" بلحظتيها الدستورية والتجمعية ضربا من أحلام اليقظة التي تشرعن نفسها وتتلبس بلبوس الحقيقة عبر شعار "الاستثناء التونسي".
ورغم أن اليسار الوظيفي لم يكن هو الطرف الأوحد الذي "طبّع" مع المنظومة القديمة ومع رموزها تحت غطاء "استمرارية الدولة"، فإن هذه المقولة كانت تسمح له بتحقيق مكسبين: أولا، منع أي إعادة تفاوض جذري على "المشترك الوطني"،أي الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة، وجعل تلك الأساطير خارج النقاش العمومي ورفعها إلى مستوى "المقدس الوطني" الذي يُخون كل مُطالبٍ بمراجعته؛ ثانيا، فتح مجال أمام ورثة المنظومة القديمة -باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية- لتقلد أهم مناصب الدولة في المرحلة التأسيسية، وذلك لمواجهة مشروع "أسلمة الدولة" الحقيقي أو المتخيل، وللاستقواء بهم ضد "العدو الوجودي" المتمثل في حركة النهضة ومجمل حركات الإسلام السياسي.
مهما كانت الأسباب التي دفعت بحركة النهضة إلى القبول بمنطق "استمرارية الدولة" -أي إدارة المرحلة التأسيسية بالرأسمال البشري التابع للمنظومة القديمة- فإنها قد حددت مسارها ووضعها الحالي منذ تلك البداية "التوافقية". ونحن هنا نتحدث عن خيار "استمرارية الدولة" باعتباره أصل كل سياسات التوافق اللاحقة، وذلك على الضد من كل الأطروحات التي تؤرخ للتوافق بالتحالف البراغماتي بين حركة نداء تونس وحركة النهضة بعد انتخابات 2014. فتوافق باريس بين "الشيخين" هو مجرد لحظة من لحظات إعادة التوازن للخيار التأسيسي: قبول النهضة بأن تتحول هي الأخرى إلى جسم وظيفي في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي، أي تحولها إلى جناح "محافظ" داخل تلك المنظومة بمنطق "الشريك"، والتخلي عن أي مشروع لهدم تلك المنظومة وإعادة بنائها بمنطق "البديل". وهكذا تحولت النهضة -بصرف النظر عن نواياها وتقديراتها السياسية تكتيكيا واستراتيجيا- إلى "وطد متدين"، أي إلى يمين وظيفي يعد بأن يقدم للمنظومة ما قدمه لها اليسار الوظيفي، خاصة الوطد" من موقع مختلف أساسه "القوة الشعبية" التي ترفد/تتجاوز القوة النوعية لليسار الوظيفي. ولكن هل يجعل هذا الخيار من حركة النهضة "عائقا" من عوائق بناء الجمهورية الثانية كما هو شأن اليسار الوظيفي؟
إن الإجابة الأقرب إلى الموضوعية عن هذا السؤال هي النفي. فالاختلاف الجذري بين النهضة "الوظيفية" واليسار الوظيفي ليس في الدور الذي يلعبانه الآن-وهنا في خدمة النواة الصلبة للمنظومة القديمة، بل في الدور الذي يمكن أن يلعبه وجودهما في المستوى الاستراتيجي. ذلك أن وجود النهضة في الحقل السياسي القانوني يكسر التجانس القسري الذي فرضته منظومة الاستعمار الداخلي بين المكونات المعترف بها داخل السلطة وداخل المعارضة القانونية زمن المخلوع. كما أنه يخلخل احتكار النخب "اللائكية" بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية للفضاء العمومي، وهو -فضلا عن ذلك- يدفع إلى إعادة التفكير في معنى "العائلة الديمقراطية" بعيدا عن ادعاءاتها الذاتية. فوجود حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية -حتى وإن كان هذا التعريف مجرد معطى نظري لا محصول تحته- يعيد هندسة الفضاء العام، ويعمل بمنطق التراكم على استئناف التفكير في معنى "المشترك الوطني" وفي سياسات التحديث الفوقي وفي منطق "التنوير" وفلسفته السياسية الكامنة. وهي معطيات يمكن في المستوى "الاستراتيجي" أن تخلخل الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة وأن تنتج الشروط الفكرية والموضوعية للتفكير "معا"، بعيدا عن إملاءات منظومة الاستعمار الداخلي وعن أدوار "الوكالة" التي ارتضى بها كل الوظيفيين يمينا ويسارا بعد الثورة.
إذا ما أردنا صياغة ما تقدم بصورة أكثر وضوحا فإننا سنقول بأن اليسار الوظيفي هو جوهريا ضد بناء الجمهورية الثانية، على خلاف النهضة التي تضادد تلك الجمهورية "سياقيا" أو نتيجة تقديرات سياسية خاطئة. فالديمقراطية لا تتعارض مع مصلحة النهضة، بل إن ما يتعارض مع مصلحتها هو الانقلاب عليها واختزالها في مقاربة أمنية قضائية، أما اليسار الوظيفي فإن الديمقراطية تجعله يواجه حقيقته: قوة نوعية "برجوازية" بلا أي عمق شعبي. ولذلك لا غرابة في أن يكون اليسار الوظيفي وراء كل الدعوات الانقلابية منذ المرحلة التأسيسية، الحديث عن يسار وظيفي هو في الحقيقة حديث عن الذراع الأيديولوجية للمنظومة القديمة قبل الثورة وبعدها، وهو أمر يؤكده استقراء مسار الانتقال الديمقراطي وما سبقه زمن المخلوع. فاليسار غير الوظيفي كان دائما مجرد هامش يمكن اختزاله في بعض الشخصيات الاعتبارية غير المتحزبة، أو بعض الكيانات الحزبية الهامشية وغير المتماهية مع "الخط العام" لليسارولا غرابة في أن يكون اليسار الوظيفي ذاته خادما لممثلي المنظومة القديمة في حركة نداء تونس وغيرها (وما الانتخاب المفيد للمرحوم الباجي قائد السبسي وشيطنة الرئيس منصف المروزقي ببعيد)، ولا غرابة أخيرا في أن يكون اليسار الوظيفي -بشقيه القومي والماركسي- هو من عفّن "الفسحة الديمقراطية" وأوجد الشروط الفكرية والموضوعية لـ"تصحيح المسار"؛ باعتباره نفيا للديمقراطية التمثيلية وعودة لما تسميه حنا أرنت بـ"الوحش البيروقراطي المسلّح"، ذلك الوحش الذي يلغي الحاجة لأنصاره "النقديين" قبل خصومه الراديكاليين.
ختاما، فإن الحديث عن يسار وظيفي هو في الحقيقة حديث عن الذراع الأيديولوجية للمنظومة القديمة قبل الثورة وبعدها، وهو أمر يؤكده استقراء مسار الانتقال الديمقراطي وما سبقه زمن المخلوع. فاليسار غير الوظيفي كان دائما مجرد هامش يمكن اختزاله في بعض الشخصيات الاعتبارية غير المتحزبة، أو بعض الكيانات الحزبية الهامشية وغير المتماهية مع "الخط العام" لليسار في المجتمع المدني وفي المركزية النقابية وفي "الخطوط التحريرية" الغالبة على الإعلام العمومي والخاص. أما "النهضة الوظيفية" فإنها تجربة تؤكد الحاجة إلى إدارة ملف التوافق بعيدا عن الانتهازية والحسابات الضيقة، ولكنها تجربة لا تلغي الحاجة إلى الأجسام السياسية المحافظة باعتبارها ممثلا لشرائح واسعة من المواطنين الذين لا يجدون أنفسهم في أطروحات اليسار، ولا في البورقيبية أو الأجسام التجمعية الجديدة.
ولا شك عندنا في أن ما تقدم يجعلنا أمام مسألة التمثيلية أو مصادر الشرعية وعلاقتها بالرأي العام، وهي مسألة ما زال اليسار الوظيفي يصر على إدارتها بالاستقواء بالدولة العميقة بعيدا عن أي حراك مجتمعي عفوي لا تحكمه "القوة النوعية" أو "القوة العارية" ومراكز النفوذ الداخلي والخارجي. ولا شك عندنا في أن هذا الوعي السياسي يجعل من الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع مجرد فاصلة في "الجمهورية الأولى"، بصرف النظر عن واجهاتها السياسية وعن السرديات السياسية الموظفة لحماية نواتها الصلبة وما يدور في فلكها من شبكات زبونية.
x.com/adel_arabi21