لجريدة عمان:
2025-07-03@23:24:30 GMT

موتوا فرجة و«حكي»

تاريخ النشر: 11th, November 2023 GMT

«تعب الحكي من الحكي»، تعبت الحناجر من الصراخ والاستغاثة، تعبت الشوارع من أقدام المتظاهرين، وتعبت المدن من المسيرات، تعبت الشعوب من التنديد، وتعبت من المطالبة بوقف المجازر، تعبت القاعات من الحكي، وتعبت العيون من الدموع والشاشات من اللون الأحمر القاني، تعبت الأيدي من الأعلام، تعب البكي من البكي، كل شيء تعب من كل شيء.

«يا حبيبي شو نفع البكي.. شو إله معنى بعد الحكي». كما قالت فيروز.

لكن ثمة فرجة، من أراد أن يتفرج فثمة مسارح مفتوحة كثيرة ومتعددة، لكن المسرح المفتوح على مصراعيه الذي لا يغلق أبدًا، هو مسرح غزة وما يحدث فيها، ويظل يذكرنا بدورنا في الفرجة. العالم المحسوس كله يتحول إلى عالم فرجة، فلا غرابة في ذلك، الكل يتفرج على ما تفعله آلة القتل الجهنمية التي لا تفرق بين قتل الأطفال أو النساء أو الشيوخ، قتل مجاني لا حدود له، مجازر ومذابح في كل مكان من غزة، أشلاء أطفال متطايرة وجثث متفحمة ومدفونة تحت الركام، مسرح مفتوح، تدمير وإبادة جماعية وتطهير عرقي. الكل متفرج ومتواطئ ومتخاذل. القنابل الأمريكية البريطانية تنهال على غزة ومدنيّها، كل شيء مباشر لحظة بلحظة، تتسارع الصور ووسائط التواصل الاجتماعي لنقل صور الضحايا والقتل والتدمير، الصور تتدفق والعالم يتفرج. إنه ببساطة عالم الفرجة، جوهر اللاواقعية كما وصفه الفرنسي جي ديبور مؤلف كتاب مجتمع الفرجة الصادر في عام 1976.

الكل يتفرج على الكل، تشعبت عوالم الفرجة وتداخلت، تعدد المتفرجون، متفرجون قاسون فاعلون لا تدخل الرحمة قلوبهم متعجرفون مبتذلون، ومتفرجون آخرون ليس لهم من الأمر حيلة، لكن ما هو المؤلم حقًا عندما تتفرج الضحية على الضحية، المظلوم على المظلوم، يتفرج المقموع على المقموع، فمنطق القوي يقول لنا بكل بساطة موتوا فرجة واكتموا غيضكم. إنه عالم القوي، فالغلبة دائما للأقوى كما يوحي بذلك ابن خلدون. منطق عالم الفرجة اللاواقعي يفرض علينا أن نبقى متفرجين، رغم أننا نصرخ بأننا شبعنا من الفرجة وأصابتنا التخمة لدرجة تداخلت علينا الألوان وتخمرت المشاعر والحواس، تفرجنا بما فيه الكفاية وضحكنا كثيرًا ولا ندري هل نحن نتفرج أو نضحك؟ وكأنها حالة هيستيرية تنتابنا تمتزج فيها الفرجة والضحك، ضحكنا فيها حتى الموت أو اشتد ضحكنا وفرجتنا ليتحول كالبكاء كما وصفه المتنبي. لكن ماذا لنا أن نفعل، مكتوب علينا أن نظل متفرجين، أخذنا في غفلة ولم نكن نعلم أن للفرجة قواعد تنظمها، قواعد صارمة يفرضها المخرج على الجمهور، فليس لهذا المتفرج إلا النظر، له أن يتفرج فقط وله أيضًا إن أراد أن يكتم مشاعره ولا يظهرها للعيان حتى لا تفسد المسرحية أو الفرجة، لكن ليس له أن ينطلق بكلمة أو حتى يرمش بأهداب عينه ولا يحرك جفونها بشيء، ليس له إلا المشاهدة والتفرج فقط.

هكذا نحن بكل بساطة نتحول إلى متفرجين، نحضر التفرج وما تظهره لنا الصورة. فالمنطق الذي تفرضه أمريكا والغرب بشكل عام لا يسمح لنا إلا أن نكون ضمن جوقة المتفرجين، كائنات متفرجة مقموعة تتكالب على قمعنا قوى مختلفة تعمل على تغذية عالم الفرجة من خلال ترسيخ عقدة النقص والدونية لدى المتفرج المقهور ولا يستطيع التخلص من ذلك. فالقواعد صارمة والتعليمات نافذة ولا يسمح بمناقشتها. فمنطق القوة يقول لأمريكا والغرب أن يقفوا مع المعتدي بكل شيء يملكونه، فهم وحدهم من يزوده بالأسلحة الفتاكة، ولا يسمح للمتفرجين أن يقفوا مع الضحية ولا حتى يتعاطفوا معها، فهذا المنطق هو الوحيد المسؤول عن توزيع الأدوار وهو الذي يفرض الهيمنة، يصف الضحية بالإرهاب ويصف الإرهابي الحقيقي بالبريء والضحية، كل شيء في منطق القوي مختلف ومعاكس، المغتصبة أرضه لا يحق له مقاومة المحتل، فهذا المنطق هو الوحيد القادر على تصنيف من تحتل أرضه ومن لا تحتل. لا يبقي عالم الفرجة إلا قليلين هم فقط أولئك الذين يتمردون على عالم الفرجة ويجدفون عكس التيار وعكس الهوى والمزاج السائد يخرجون عن القطيع ويغردون خارج السرب.

كم هو مؤلم أن نعيش عالم الفرجة، عالم يجعلنا متفرجين غير مشاركين ولا فاعلين، ليس لنا وجود إلا فقط لأغراض الفرجة. عالم الإلهاء والاستهلاك، الأخطر ما في عالم الفرجة بأنه يتحول تدريجيا إلى أسلوب حياة ويدخل في اللاوعي وكأنه مكون لنا وملتصق بكينونتنا والأدهى من ذلك عندما يتحول ذلك إلى تبلد في المشاعر والأحاسيس، فلا يولد لدينا أي غيرة أو نخوة «لا سمح الله» فيصبح كل شيء عاديا ويوميا ومستساغا وغير مربك، ننهض من النوع فنهرع للفرجة، نفطر فرجة، نتغدى فرجة، عشاؤنا فرجة، وأحلامنا فرجة، وكأننا نتناول وجبة دسمة أو نحتسي كوبا من القوة في مقهى أثيري. الفرجة تصبغ حياتنا. عالم الفرجة إنه ببساطة عالم الاستلاب والاغتراب، فيحولنا ذلك إلى كائنات هلامية سهلة الانقياد مطيعين مسالمين ودودين.

فلا غرابة عندما نشاهد مثلا على شاشات التلفزة مسؤولين عربا يتلعثمون في الكلام ولا يستطيعون النطق بالحقيقة التي تخامر عقولهم وقلوبهم، فتجدهم يتخفون خلف كلمات دبلوماسية توحي ولا تقترب، تلامس المعنى من بعيد، فلا يستطيعون البوح بما يريدون. في المقابل نشاهد العكس تمامًا فالمسؤولون الغربيون والأجانب الذين يتقاطرون على منطقتنا نشاهدهم أقوياء يخرجون الكلمة دون مواربة ولا نقصان ولا يلجأون للغة الدبلوماسية إلا نادرا. ببساطة هي السلطة والقوة والقمع، فالمواطن العربي على الصعيد الفردي لا يستطيع المواجهة والتعبير عن رأيه بشكل واضح وجلي؛ لأن سلطة القمع المتمثلة في الحكومات التي تمارس ضده وتقمع أي رأي لا تترك له المجال فتولد لديه ما يشبه المناعة من البوح بالرأي وإذا دعت الأمور واحتاجت الضرورة لذلك فأن يصبح التعبير عن الرأي بكلمات غير مفهومة وغير واضحة وتحوم حول الفكرة. يتولد لدى المقهور وهم يعيش في شرنقته ولا يستطيع التخلص منه، فكما الإنسان العربي البسيط يظل متفرجا، ويعيش عالم الفرجة يخاف من السلطة إن عارضها ووقف في وجهها، يتولد لديه هاجس الأمن وقوته وقوت عياله ومن ثم يفقده ذلك الإحساس بالقوة والمواجهة، فيظل حبيس الفرجة، فهكذا على صعيد السلطة العربية فهي قامعة للإنسان العربي ولشعوبها، وفي الوقت نفسه هي مقموعة متفرجة من طرف سلطة قوية خارجية تتمثل في أمريكا والغرب بشكل عام.

إلى متى يستمر عالم الفرجة هكذا، ألا شيء يوقف فرجته المخزية؟ أتكون غزة وحدها من يوقف هذه الفرجة المخزية؟ نزار قباني وكأنه يستشرف المستقبل البعيد، يخاطب تلاميذ غزة فيقول:

يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم

فنحن نسينا.. علمونا بأن نكون رجالًا

يا تلاميذ غزة لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا..

اضربوا اضربوا بكل قواكم

حررونا من عقدة الخوف فينا.. واغسلونا من قبحنا.

بدر الشيدي قاص وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کل شیء لیس له

إقرأ أيضاً:

عالم بالأوقاف يعلق على واقعة التنمر على الفنان المتوفي | فيديو

قال الشيخ محمود الأبيدي، من علماء وزارة الأوقاف، إن الضلع الثاني في مثلث التنمر هو "المتنمر عليه"، وهو الضحية الحقيقية، وقد يتعرض للإساءة دون ذنب اقترفه، مستشهدًا بما يحدث مؤخرًا من تنمر على فنانين توفاهم الله، قائلاً: "لسه النهارده بنعيش قصة مطرب توفي وهو رايح شغله، وبدأ البعض يتنمر عليه بعد وفاته، يتكلموا عن الجنة والنار، ويحكموا على مصيره، ويطالبوا بحذف أغانيه ،الأمر بقى بين يدي الله".

وأكد الأبيدي أن التنمر على المتوفى مؤلم مرتين: للمتوفى نفسه ولأهله، قائلاً: "خلونا نشغل نفسنا بالدعاء له، وبعمل صالح نهب ثوابه إليه، مش بالحكم عليه".

وتابع: "اللي بيشوف شاب من أصحاب متلازمة داون حاصل على ماجستير، لازم يضرب له تعظيم سلام، ده تحدى كل الظروف، ويستحق الدعم لا السخرية، وناس كتير بيجوا دار الإفتاء سايبين التعليم بسبب تنمر زملائهم، مش على الشكل بس، لأ، كمان على المجموع اللي جايبينه في الثانوية. كلمة واحدة ممكن تغتال إنسان معنويًا.. الكلمة تحيي... والكلمة تميت".

من جانبه قال أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، في تصريحات تلفزيونية  "ده بيحصل كمان مع المنتحر.. اللي انتحر خلاص، احنا مش عايزين نحاكمه، احنا عايزين نبحث عن العلاج، عن الحلول، مش عن إدانة الناس بعد رحيلهم".

وأشار إلى أن المتفرج، وهو الضلع الثالث في مثلث التنمر، يتحمل مسؤولية كبيرة، مضيفًا: "وجود شخص واحد يدافع عن الضحية يوقف التنمر بنسبة 70%، لكن البعض بدل ما يتدخل، يضحك أو يصور بالموبايل، مع إن النبي ﷺ قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه".

طباعة شارك الشيخ محمود الأبيدي التنمر وزارة الأوقاف

مقالات مشابهة

  • فضاء المعرفة المعاصر
  • السفر.. تجاوز الجغرافيا إلى عالم الروح
  • فاجعة تهز عالم كرة القدم.. وفاة نجم ليفربول والبرتغال ديوغو جوتا بحادث مروّع
  • تزوج قبل 11 يوما وترك 3 أطفال.. معلومات عن جوتا بعد وفاته في حادث مروع
  • قاتل زوجته هل يحق له أن يرثها ؟.. عالم بالأزهر يجيب
  • التفاصيل الكاملة لافتتاح مهرجان عمان السينمائي في نسخته السادسة
  • عالم بالأوقاف يعلق على واقعة التنمر على الفنان المتوفي | فيديو
  • أبطال «السوشيال ميديا» الوهميون
  • زمن السرعة
  • عالم جديد… عالم متوحش جدا