نقد.. السخرية السياسية في «طفولة حامضة» لخميس قلم
تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT
الشاعر العماني ليس بمنأى عن السياسة الخارجية وهو صوت الوطن الكبير، وضمير الناس، لذا نجد قضية فلسطين تشغل هاجسا في دواوينه وأشعاره، بل نجد السخرية حاضرة عند تناولها.
يتشكل الوجه الساخر للسياسة في مجموعة خميس قلم «طفولة حامضة» 2005م، منشورات وزارة التراث؛ بصورة أكثر اتزانًا، بل تقنية أكثر حبكة ونسجًا؛ ونص «فدائية» من النصوص التي تظهر فيه السخرية من خلال نبش الثقافة لدى القارئ ذاته، لكون الثقافة التي يحملها القارئ مهمة جدًا لبناء النظرة الناقدة لثقافة من حوله أو الأمة التي هو منها:
«يا حـــزنــنا وهــديرُ الأمسِ يعصِف بي
أسقيـكَ ذاكرتــي إن كنــــــتَ عـــطشانا
تفديكَ رعشة قلبي حـــــين أطـــــلقــها
من عمق لا شيء أو من حمق ما كانا
وحـــلٌ أنــا أشتــــهي شمسي تُبخّرني
كي أستـــــحيل سلاطيــــــنا وطـوفانا
غنّــــت على الجرح أصواتٌ مشردة
واستهـــلك البوح للأقصـــى نوايــــانا (1)»!
الأقصى الجريح هو المحرك الأقوى في الجانب السياسي للشاعر العماني مهما كانت القصائد موجهة لقضايا سياسية كثيرة يظل الأقصى هو المستقطب الأول والأكثر للشعراء، فالحزن الذي يبدأ به الشاعر وجعل عواطفه في مواجهة عاصفة من المشاعر المتدفقة اتجاه الأقصى، لقد كان الأقصى هو المحرك الأول للصراخ «فمثل هذه الصرخة كانت قمينة بتحريك النفوس السادرة في غواياتها وعماياتها، فضلًا عن همم الملوك والسلاطين الذين كانوا يدبرون شؤون العالم الإسلامي في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ الإسلام لينشطوا لتحرير المقدسات وتطهيرها من رجس الصليبيين الغزاة!»(2).
وتتكون السخرية هنا أيضًا من وضع صفات لجلد الذات (وحل أنا) حيث التماهي بالوحل يجعل الشاعر في تعادل مع المتخاذلين الذين صنعوا هذا الخذلان، والاعتماد على أصوات غريبة وغير غريبة من الشعراء والأدباء العالميين الذين جعلوا قضية الأقصى قضية إنسانية عامة لا تخص العرب وحدهم، (غنت على الجرح أصوات مشردة) وقد نال هذه الأصوات التقاطع في التشريد، والكل قد تغنى للأقصى ولكن النية هي المختلفة، إذ يسخر الشاعر من الذين يستغلون القضية لأجل مآربهم الشخصية، «كل التراتيل في الأسفار أذرعةٌ ونستعير يدًا، تحصي قضايانا»!
حيث جعل الشاعر القضايا العربية الخاصة بالعرب مباحة لغير العرب، بل لقد كثرت هذه القضايا وما عادت تحصى لكثرتها؛ فمن العجيب أن نبحث عن الغريب والأجنبي الذي لا علاقة له بنا كي يعبِّر عن غُصّتنا، «إن تخاذل المسلمين، وإفراطهم في الثقة في وعود المتحكمين في مصائر الناس، وشؤون العالم جرّأ هؤلاء الأقوياء على التلاعب بمشاعر المسلمين، وعواطفهم، والمراهنة على مستقبلهم»(3) ونحن من يجب أن يعبّر عن هذه القضايا ومن يطالب بحلها ويرجع الحقوق لأهلها. هذا النسق المضمر من الاستغاثة بالغريب وتمجيد الغرباء، ولكن لا نثق بمن هم يحملون هاجس الوطن وهم أبناء هذا الوطن.
نحن كسالى حتى في مطالبنا، نحن اتكاليون في كل شيء حتى في إرجاع الحقوق لذلك لم تعد الحقوق لنا، هذه اللفتة الساخرة من الذات وما عليه الأمة تأتي من خلال البحث عن مخرج ومخلص من كل هذا الحال السيئة:
«يلفنا ضجر الأشجار واقفة
ترنو إلى النجم إحباطا وتحنانا
الريح تعزف للأزهار أغنية
فيرقص الظل رغما عنه حيرانا
والرمل يفلق زحف النخل باسقة
وينزف القحط كثبانا فكثبانا
من نحن؟ ما نحن؟ ردوا ألف أسألكم
أطفال نفط تفشى في خلايانا(4)»!
تأتي السخرية في جملة وعبارة أطفال نفط، وامتعاض الشاعر من الاتكالية وتجهيل الشعوب الخليجية، النفط الذي يعيش عليه الخليجيون ما هو إلا وبال ومصيبة على الأجيال التي لم تتعلم المطالبة بالحرية. يحرك الشاعر بسخريته المطالبة بالحقوق والتحرر من الجهل واللجوء إلى الحرية السياسية في اختيار من يقوده، أما النفط الذي هو مصدر قوة السلطة وهو نفسه مصدر ضعف الشعب الذي لم ينل الكفاية من التعلم والعلم والبحث عن الكيفية المطالبة بحقوقه، يغرس الشاعر في ثقافة القارئ كل ما يمكنه أن ينتشله من الجهل والاتكالية على السلطة التي لا تريد ولا تقتنع بأن الشعب قد كبر وتعلم، وهذا ما يجعله يلح في سؤاله على الجواب من نحن؟ ردوا ألف أسألكم؟ الإصرار على الإجابة أهم من السؤال، حيث يجلب الشاعر ثقافة الآخر عن الشعب الذي يصدّر بلده النفط.
أبناء نفط ما هي إلا وصمة عار ورصاصة يسخر بها الشاعر على نفسه وأبناء جلدته:
«نحن الصحارى امتداد الأفق شهوتنا
صوت الفراغ رؤانا كيف ننسانا(5)»!
تتوالى الصفات التي يجلد بها الشاعر ذاته؛ حيث السخرية من تقديس الشهوة، وما من شيء يحبه العربي إلا تفريغ شهوته، وهذا نسق مضمر يعبّر عن شهوانية الرجل العربي، فالشهوة هي أهم من العلم والتكنولوجيا والمعرفة والعلوم، هذا الجلد الجماعي والمجتمعي لا يمكن تجاهله، فالشاعر يجعل السخرية محاولة للنجاة من الحال الصعب الذي يمر عليه هو وأبناء وطنه من حيث يملكون مصدر المال ولكنه هو نفسه يعريهم من الثقافة الصحيحة وهي محاولة الوصول إلى الإنجاز الحقيقي للإنسان وهو العلم والتنوير. «فالساخر من نفسه قد يلفت النظر إليها على عكس ما قد يتبادر إلينا من أن رغبته أن يغل الأنظار عنه»(6)!
أما ما يفعله الناس هنا هو امتداد وتلبية للشهوة، كما أن صوت الفراغ هي رؤى هؤلاء الناس، فهو يطلق عليهم بأنهم فارغون من الرؤيا والتفكير.
«نحن الخطايا اعتراف الجرح يفضحنا
لا يوقظ الوجع المكبوت إلانا(7)»!
وهذه تتمة لهذا الجلد الجماعي والذات، حيث يصف الشاعر الناس ونفسه بأنه خطايا، خطايا التاريخ والمال والثروة وخطايا ناتجة من الرفاهية ومن النفط بل من استغلال السياسة لإنسانية الشعوب وإهمال جانب التربية والتعليم وغرس فيهم قناعتهم بأنهم بحاجة للقائد وأنهم أي السياسيين أوصياء على الشعوب.
الملاحظ أن الشاعر يمتد امتدادًا كبيرًا في سخريته وجلده للذات فلا يحصرها على شعب وطنه الصغير، بل يجعلها ممتدة إلى الوطن العربي الكبير ويرى أن القضية المهمة التي جعلت ورفعت للعيان هذا التردي هي إهمال القضية الأم وهي فلسطين:
«من قال «إنا اشتعال الحرف «قل» عبثاً
الصمت يبعث في الأرواح أشجانا
«القدس صورتنا» «القدس سورتنا»
«باسم الفدائي» تنمو من شظايانا (8)»!
نعم يجعل الشاعر صمت العرب عن القدس هو انعكاس لكل هذا الخذلان المتتالي الذي يلاحق العرب، وكل هذا بسبب عدم اعتبار القدس القضية الأولى التي ينبغي أن يهتم بها العرب جميعًا؛ فالقدس كما عبّر عنها الشاعر صورة وانعكاس لأي خذلان حينما نبتعد عنها ولا ننصف القضية، تلك هي رؤيا إنسانية ولا رؤيا جامدة أو رومانسية تنبني على عواطف، بل هي مبنية على الأمل من جهة وعلى الإنسان الذي طمست هويته مع الزمن.
باسم الفدائي تنمو صورة المضحي بنفسه لأجل الآخرين، تبين مدى تشويه الروح الجماعية وذلك بعدما تحول الجهد من الفرد للجماعة، ونرى أن شظايانا هنا تحيل لمعنى تشويه الصورة، حيث تشظت الصورة إلى قالب جديد وصورة جديدة لا تعكس حقيقة ما يقدمه الفدائي لأجل الجماعة.
لذا يوجه الشاعر كل الغضب بسخرية مرة إلى الذين خذلوا القضية وينتصر الشاعر للفدائي الذي يستحق التفاخر به.
«آمنت بالموت ظلا لا يفارقني
يفنى بذاتي وأفنى فيه سكرانا(9)»!
فما الذي يجعل الشاعر في مقتبل العمر يتمنى الموت؟ بل يجعله خلاصًا وإيمانًا، الشاعر وهو يمدح الفدائي الذي يجعل من الموت فارقًا مهمًا للخلاص، بل يحقر كل شيء يكون أقل مستوى من الموت، لا قيمة ولا فخر للحياة، بل العزة في الموت.
«إياك أحسد» يا حبا تلبّسني
وصار من ثورة الأعماق أضغانا
إياك أحسد» يا جرحا جبلت على
تضميده واستحال الآن بركانا
نم هادئا، لا تنم، النوم سيرتنا
نم غاضبا وكفاك الصبح أحزانا(10)»!
تبلغ السخرية ذروتها في اللجوء إلى الموروث الثقافي؛ وخاصة الديني منه، فما من مسلم إلا ويعلم ويقرأ إياك نعبد، وهنا تشير إياك نحسد، استرجاع الماضي في قالب جديد من أجل رفع شأن الفدائي الذي يقدم ذاته للآخرين.
لكن ماذا يحسد الشاعر، هل الحب الذي تكون لهذا الفدائي الذي قدّم روحه لأجل الجماعة؟
هل هذا الحب صار من ثورة الأعماق منقلبا ومتغيرا؟
لقد كرّس الشاعر زمنًا من عمره محاولا تضميد جراح القدس، بل جراح الأمة، ولكن صار العلاج مستحيلا بعدما تحول الجرح لبركان عظيم.
أما صيغ الأمر والنهي فقد كونت فقد عملت فارقا في الحال الذي آل إليه الفدائي هل ينام مرتاحًا أم لا ينام لأن النوم قد كوّن صورة في المخيلة العربية وهي أن العرب نيام عن القضايا السياسية والتطور والمعرفة.
نم غاضبًا فهذا الأمر يكوّن صورة من السخرية على حال العرب ويستنهض الأمة بالغضب والتعبير عن الثورة.
يمتاز شعر خميس قلم بعدد من الإحالات الثقافية؛ يعبّر من خلالها عن ثورة ساخرة على الأنظمة، ويواري كل هذا بلغة تعبيرية ذات مجاز غير متأتٍ للجميع، بل لمن يتعمق في النص ويستخرجه من القراءات العديدة، ففي نص من سفر الوجع نقرأ هذه الثورات التعبيرية والصرخات على أذن القارئ العربي بأهمية الانتباه لحالنا التي وصلنا عليها وكيف يتناول جرح العرب الغائر:
«والسورْ
والبلد المسحورْ
وحصنه المهجورْ
يا أيها الإنسان لا تكابرْ (11)»!
نعم هذه الأبيات لا تحاكي القرآن بقدر ما تجلب انتباه القارئ إلى أمر غير ملتفت له، بل تنبه القارئ العربي تحديدًا إلى المخاطر التي تحدق به وكلها جوانب سياسية:
«كم من ذرى الأمجاد من مقابر
يرفّع التاريخ منها جسده
وينشر الزمان فيها مدده
يخاتل التراب جوقة المحاجر
وينبش الضمير ما يندس في
مزابل الصدور(12)»!
السياسة هي المصالح، ولكن الشاعر يرى أن الإنسانية هي المصالح، يرى أهمية الرجوع للإنسانية، هذا الإنسان قد دفن ضميره الحي، في مزابل الصدور، من الملاحظ أن الشعر يؤجج العاطفة ويعتمد على الثقافة العاطفية لدى الشعوب وما من عاطفة يتفق عليها العرب مثل القضية الفلسطينية، فهذا ما يستدرجه الشاعر من «عواطف في النص:
والجوعْ
والكاهل المخلوعْ
والقلق النابت بين غابة
الضلوع
إنا نذوب في انتظار شيخنا
المهدي كالشموع،
ونرهن الفأس لإسرائيل
والقلوعْ
فأي ذنب قد جنينا أيها الجموعْ
يوم تركنا الجسر يهذي خلفنا
يستنفر الرجوعْ
ما أسهل الدموغْ!
ما أسهل الدموع!(13) «!
يستفز هذا النص الحفيظة، ويشحذ ما في النفس من البكاء بضحكة مكبوتة بألم، كأن قسَم الشاعر بالجوع أمر عظيم جدًا، فقد أرهق الكاهل وأتعبه كثرة انتظار المخلص الذي ينقذ الشعب والناس من إسرائيل التي أصبحت واقعا، فهل ينفع أن تجتمع الجموع تحت الجسر وهو تلميح بربيع عربي وانتفاضة عربية كبرى، هازئًا من المهدي أو المخلص الذي هو يعبّر عن ضعف وعجز واقعي اتجاه القضايا الكبرى، وما من قضية تشغل العرب كالقضية الفلسطينية؛ برغم حدوث الثورات والربيع العربي، وحتى الانتفاضة، ولكن هذا لم يُفقد الشاعر بهاء السخرية، بل تعمق فيها أكثر نظرًا لأن الواقع هو ذاته لم يتغير وهذا خلاف لرؤية إحسان عباس بأن الثورة تضعف السخرية» ولعل ارتباط الشعر بالثورة هو الذي أفقد الشاعر الحديث قسطًا كبيرًا من ثورته على السخرية، لأن الغاضب الذي فيه حنق لا يستطيع أن يسخر، مع أن السخرية أداة فعالة في التشكيك بالمسلمات» (14) وهذا الاعتراض يؤكده الشاعر في السطور الآتية:
«والداءْ
والأمة الرعناءْ
والكلمة الخرساءْ
والوجع المكبوت في الأحشاءْ
لا شيء يروي هامة المجد الذي
أستبيح في نفوسنا
إلا الدماءْ»!
نلاحظ توالي القسم، ولكن هذا اليمين المقسم عليه هو بمثابة أداة مسلطة على رقاب المتخاذلين فما أقسى أن يقسم الشاعر بشيء هو استهزاء عليه وعلى أمته ويكون فيه تفكه وسخرية لاذعة على ما آلت إليه الأمة من وجع وذل ومهانة، يقسم بالداء والخرس والصمت والوجع، والنتيجة المحتومة لا مفر من الثورة والدماء حتى تستيقظ الأمة:
«يا ذلك المجد الذي استبيح ألف
مرة
واغتيل ألف مرة
إني أقيم اليوم للعروبة
المخصيّة العزاء
يؤسفني أن أرتدي عباءةً
وأنطوي منتحبًا
في جملة النساء(15)»!
تظهر الفكاهة والسخرية في اغتيال العروبة المخصيّة، كما وصفها الشاعر؛ فهي غير ولّادة، بسبب هذا الإقصاء برغم أن الخصاء لا يكون إلا للذكور، فقد استعملها الشاعر هنا للأنثى، حتى تظهر هذا الكم الكبير من الفكاهة والاستهزاء على الوضع الراهن للعرب، فقد أصبح الآن ضعيفا بل يستهان به من الجميع، ثم استخدام مخصية لكلمة مؤنثة تدل على سخرية لاذعة من الوضع فعملية الخصي لا تكون إلا للذكور، وهنا يكسب الشاعر العروبة ذكورية التصرف ولكنها غير فاعلة، يمكننا أن نعتبر هذا من قبيل النسق المضمر، حيث تتعالى أصوات الذكورية في الإنجازات العربية ولكن الشاعر يحطم هذه الإنجازات أمام ما يحدث للعرب سياسيا فأين الذكور وإنجازاتهم مقابل الاعتداءات المتتالية عليهم وعلى قضاياهم.
____________________________________
الهوامش:
1- طفولة حامضة، خميس قلم، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، الطبعة الأولى، ص11.
2- القدس في الأدب العربي القديم، دكتور خليل أبو ذباب، مجلة رابطة الأب الأدب الإسلامي العالمية، 19-1-2021م.
3- العرب واليهود في الميزان عند الأقوياء، عيون البصائر، نشر في جريدة البصائر الثانية، ع22، 29-02-1948م، ص493.
4- المصدر نفسه، ص12.
5- طفولة حامضة، 12.
6- السخرية في أدب المازني، ص 309.
7- طفولة حامضة، ص12.
8- المصدر نفسه، ص13.
9- طفولة حامضة، ص13.
10- المصدر نفسه، ص13.
11- المصدر نفسه، ص33.
12- طفولة حامضة، ص33.
13- المصدر نفسه، ص34.
14- اتجاهات الشعر العربي المعاصر، إحسان عباس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1978، ص206.
15- طفولة حامضة، ص35.
د. عبدالله بن أحمد الكعبي شاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المصدر نفسه الشاعر فی ا الشاعر کل هذا
إقرأ أيضاً:
نوبل للفيزياء 2025.. كيف تحمل ميكانيكا الكم في يديك؟
قال الفيزيائي اللامع ريتشارد فاينمان، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965، ذات مرة: "لا أحد يفهم ميكانيكا الكم"، كثيرا ما يستشهد طلاب الفيزياء بهذه العبارة ساخرين عندما يواجهون صعوبة في فهم مسائل الكم المعقدة، فها هو أحد كبار علماء الفيزياء نفسه يعترف بغموضها، فكيف بطالب لم يبلغ العشرين بعد؟
لكن ما قصده فاينمان لم يكن السخرية أو الاعتراف بالعجز بقدر ما كان إشارة إلى طبيعة العالم الكمي نفسه الذي يتحدى كل منطق مألوف.
لفهم الأمر، دعنا نتأمل واحدة من أغرب الظواهر التي يمكن أن تشهدها في ميكانيكا الكم، وهي ما يسمى بـ"النفق الكمومي"، وتعرف بأنها احتمال غير صفري يمكّن الجسيم دون الذري من المضي قدما في حالة محظورة في الميكانيكا الكلاسيكية.
هذا بالطبع كلام معقد، لكن لفهمه تخيل أن عليّا -مثلا- هو شاب اكتشف فجأة أنه قد ورث ثروة كبيرة من إحدى القريبات في الولايات المتحدة الأميركية، ويجب أن يسافر ليتسلمها، لكن هناك مشكلة، وهي أنه لا يمتلك نقودا لشراء تذاكر الطيران.
يحاول علي أن يقترض من أي صديق، لكنه لا يجد أحدا مستعدا للدفع، لكن أحدا من شركة الطيران أخبره أن الشركة يمكن أن تسمح له بالمرور إلى الولايات المتحدة من دون دفع، بشرط أن يدفع في خلال ساعة واحدة فقط من وصوله، وهنا يسعد صديقنا سعادة بالغة، فذلك بالضبط هو ما يطلبه، وسيحصل على النقود من المحامي في المطار ويدفع ديونه، ثم يستكمل إجراءاته.
الآن، تخيل أن هناك كرة تنس أرضي ما، تقوم بضربها في الجدار فترجع إليك من جديد، وهكذا تستمر في الأمر بلا توقف. وفي الفيزياء الكلاسيكية (الفيزياء قبل ميكانيكا الكم) هناك احتمال قدره صفر أن تمر تلك الكرة من الجدار إلى الجهة الأخرى، لأنها ببساطة لا تمتلك قدر الطاقة اللازم لاختراقه.
إعلانأما لو كانت تلك الكرة تخضع لقوانين ميكانيكا الكم، فإن هناك احتمالا ضئيلا جدا، لكنه ليس صفرا، أن تقترض تلك الكرة قدرا من الطاقة لوهلة زمنية قصيرة جدا يسمح بها ما يسمى "مبدأ عدم اليقين" لـ"هايزنبرغ"، كي تمر من الجدار، ثم تعيد هذه الطاقة مرة أخرى كما في حالة صديقنا علي.
وفي الواقع، فإن هناك احتمالا قائما بالفعل أن تتمكن أنت من المرور عبر جدار حجرتك، إذا قررت المحاولة كل ثانية، مثلما فعل "هاري بوتر" ورفاقه عندما مروا إلى رصيف القطار عبر اختراق الجدار، لكنه مع الأسف احتمال صغير جدا، لدرجة أنه يجب عليك أن تحاول لمدة أطول من عمر الكون نفسه.
طوال أكثر من قرن، لم تُشاهد ظاهرة "النفق الكمي" وغيره من التأثيرات الغريبة لميكانيكا الكم إلا في أنظمة بالغة الصغر مثل ذرات مفردة أو جسيمات دون ذرية. لكن جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2025 أظهرت أن هذه التأثيرات لا تقتصر على العالم المجهري غير المرئي، بل يمكنك تحقيقها في شيء كبير بما يكفي لحمله بيدك، هذا ما حققه ثلاثي نوبل هذا العام، وهم: جون كلارك، وميشيل ديفوريت، وجون م. مارتينيس، وثلاثتهم من جامعة كاليفورنيا الأميركية.
تتعامل ميكانيكا الكم عادة مع أصغر وحدات بناء الطبيعة: الجسيمات، والذرات، والجزيئات. على هذا المقياس، تتصرف الجسيمات بشكل غير مألوف لنا، كأنها موجات؛ إذ يمكن أن تكون في مكانين في آن واحد، أو تظهر فجأة في مكان لا يحق لها أن تكون فيه.
ولكن عند النظر إلى الأشياء اليومية -ككرة تنس أو سيارة أو يديك- تتلاشى هذه التأثيرات، فتبدو الأشياء متوقعة، وصلبة، وطبيعية، لا تسلك هذا السلوك الغريب جدا.
ولطالما تساءل الفيزيائيون: أين ينتهي العالم الكمي بالضبط ويبدأ العالم الكروي الخاص بنا؟ وما الحجم الذي يمكن أن يصل إليه جسم كمي قبل أن يتوقف عن التصرف كجسم كمي؟
قدم لنا الفائزون بجائزة هذا العام إجابة مذهلة عن هذا السؤال، وهي أنه يمكن للعالم الكمي أن يصل إلى دائرة كهربائية صغيرة بناها الإنسان.
في عامي 1984 1985، في جامعة كاليفورنيا بيركلي، بنى العلماء الثلاثة جهازا إلكترونيا دقيقا من الموصلات الفائقة، وهي مواد غريبة نوعا ما، لأنها تتصرف بطريقة تخالف ما نراه في الأشياء العادية، فهي قادرة على نقل التيار الكهربائي من دون أي مقاومة عند تبريدها إلى ما يقارب الصفر المطلق.
في الوضع الطبيعي، عندما يمرّ تيار كهربائي في سلك نحاسي مثلا، فإن جزءا من الطاقة يضيع على شكل حرارة بسبب المقاومة الكهربائية، مثلما تسخن الأسلاك أو الأجهزة عند استخدامها مدة طويلة.
لكن في الموصلات الفائقة، تختفي هذه المقاومة تماما، فيصبح التيار قادرا على المرور إلى ما لا نهاية من دون أن يفقد أي طاقة أو يولّد حرارة.
يحدث هذا فقط عند درجات حرارة منخفضة جدا (قريبة من الصفر المطلق، أي نحو 273 درجة مئوية تحت الصفر)، وعندما تبرد المادة إلى تلك الدرجة تتصرف الإلكترونات فيها بشكل جماعي ومنظَّم، كأنها فريق منسجم تماما، فيتحرك التيار بسلاسة تامة من دون أي عوائق.
إعلانولأن جميع الإلكترونات تتصرف كوحدة واحدة، يمكن للفيزيائيين وصف الموصل الفائق بأكمله بمعادلة واحدة فقط (تسمى الدالة الموجية) تعد القلب النابض لميكانيكا الكم، نحن الآن نتعامل مع أفراد كثيرين، لكن سلوكهم منتظم جدا، كأنهم شخص واحد فقط.
يشبه ذلك، لغرض التقريب، أن تتعاون قطعان من النمل الأبيض لبناء تلة ترابية كبيرة، فكأن كل هذا النمل كائن واحد ذكي قادر على أن يهندس مبنى عملاقا.
في تجاربهم، وضع العلماء بين موصلين فائقين طبقة عازلة رقيقة جدا، بسمك بضع ذرات فقط، يُسمى هذا الهيكل "وصلة جوزيفسون"، نسبة إلى الفيزيائي برايان جوزيفسون (الحائز جائزة نوبل عام 1973).
في العادة، يحجب هذا الحاجز الرقيق التيار الكهربائي تماما من المرور، كأنك قطعت سلكا يمر فيه التيار الكهربي، لكن في عالم فيزياء الكم الغريب يمكن للشحنات الكهربائية أن تخترقه، هذه هي ظاهرة "النفق الكمي"، إلا أنها الآن لا تحدث هنا لجسيم واحد، بل لمليارات الإلكترونات التي تتحرك معا.
في التجربة، كان النظام الكهربائي الفائق التوصيل في حالة هادئة ومستقرة، فالتيار الكهربائي كان يمر فيها بسلاسة، من دون أي فرق في الجهد (صفر فولت).
يمكن أن تتخيل الأمر مثل كرة صغيرة مستقرة في قاع طبق، لا تمتلك طاقة كافية لتصعد فوق الحافة. بحسب قوانين الفيزياء العادية، الكرة ستظل في مكانها إلى الأبد، لكن في لحظة حدث شيء غريب جدا، فالكرة خرجت فجأة من الطبق، من غير أي دفعة خارجية، كأنها اخترقت الحافة بدل أن تتسلقها.
هذا هو ما حدث في الدائرة الفائقة التوصيل، فقد ظهر جهد كهربائي (فولتية) في الدائرة عند الحاجز، وذلك يعني أن النظام انتقل من حالة إلى حالة مختلفة، قفز من العالم الكلاسيكي إلى عالم الكم. هذه كانت أول مرة يتمكن العلماء من رصد ظاهرة كمومية حقيقية تحدث في نظام كبير يمكن أن تمسكه بيدك، دائرة كهربية تجري بها مليارات الإلكترونات وليس إلكترونا واحدا فقط.
هنا ظهرت مفاجأة ثانية، فقد اكتشف العلماء أن الدائرة التي صمموها لا تمتص أو تطلق الطاقة بشكل متواصل مثل أي دائرة عادية، لكنها تفعل ذلك على شكل جرعات محددة جدا من "كمّات" الطاقة، وهذا يؤكد أننا أمام نظام كبير، يحتوي على موصل وعدد هائل من الإلكترونات، لكنه يسلك سلوكا كموميا، فكمات الطاقة تلك سمة أساسية لعالم الكم.
للتأكد من ذلك، وجه العلماء موجات مايكروويف (مثل الموجات التي يستخدمها المايكروويف المنزلي) على الدائرة الفائقة التوصيل، المفاجأة أن الدائرة تأثرت، لكن ليس عبر كل الموجات، بل في ترددات معينة جدا دفعت النظام إلى التأثر، وهذا بالضبط ما تقوله النظرية الكمومية: الطاقة لا تتغير بحرية، بل في قفزات منفصلة، كأنها تتحرك على سلالم وليست منحدرات.
لاحظ أن الأمر ليس سهلا بالمرة، فالحالة الكمومية هشة جدا. ولذلك، لإجراء هذه القياسات الدقيقة، اضطر الفريق إلى عزل النظام عن جميع أنواع الضوضاء، مثل الاهتزازات والحرارة والتداخل الكهرومغناطيسي، وبرّدوا الدائرة إلى جزء من الدرجة فوق الصفر المطلق (273.15 درجة مئوية تحت الصفر)، لأنه حتى أضعف اضطراب كان قادرا على تدمير الحالة الكمومية الهشة.
وأثمرت دقتهم حيث تمكنوا من مراقبة النفق الكمي، وقياس مدة بقائه في هذه الحالة، ورسم خريطة لمستويات طاقته. في جوهرها، كانت هذه التجربة مثل بناء مختبر كمي على شريحة.
غيّرت هذه التجربة فهمنا لفيزياء الكم؛ فلأول مرة لم ينشأ تأثير كمي من الجسيمات المجهرية فحسب، بل كان يحدث داخل نظام عياني كامل، ومن ثم سد هذا الاكتشاف الفجوة بين العالم الكمي والعالم الكلاسيكي، وأثبت أن قوانين الأجسام الصغيرة جدا يمكن أن تحكم أنظمة كبيرة بما يكفي للرصد والقياس.
قبل عقود، ابتكر الفيزيائي إروين شرودنجر تجربة فكرية حول قطة حية وميتة في آن واحد.
إعلانتقول القصة إن هناك صندوقا مغلقا فيه قطة، وكان مع القطة كمية ضئيلة من مادة مشعة يحتمل أن تتحلل ذرة واحدة منها خلال ساعة، وكان معهما "عداد غايغر" الذي يقيس التحلل الإشعاعي لدى حدوثه، والعداد مربوط بمطرقة، فإذا تحللت الذرة فإن عداد غايغر سوف يتحرك فيترك المطرقة لتقع، ولكنها لو وقعت ستكسر زجاجة تحتوي على غاز قاتل موجودة أسفلها، وتموت القطة.
والآن تقف أنت أمام الصندوق المغلق وتسأل: هل القطة حية أم ميتة؟
في حياتنا العادية نستخدم أدوات لغوية تفصل بين حدثين يمكن فقط أن يحدث واحد منهما مثل "أو"، فالقطة بعد ساعة ستكون حية "أو" ميتة، هذا بديهي لك، لكن من وجهة نظر ميكانيكا الكم فإن القطة توجد بعد مرور ساعة في حالة مركّبة من الحياة والموت، أي إنها تكون حية وميتة في الوقت نفسه.
هذه التجربة ليست إلا تمثيلا فكريا لتجربة فيزيائية تسمى "الشق المزدوج"، فيها يظهر الجسيم المادي كالإلكترون كموجة في بعض الأحيان وكجسيم في أحيان أخرى، ومن سمات الموجة أنها يمكن أن تمر من بابين مختلفين في الوقت نفسه، لكن هل يعني ذلك أن الإلكترون (الإلكترون ذاته) يمكن أن يمر خلال بابين مفتوحين في الوقت نفسه؟
تعرف "حالة التراكب الكمي" بأنها حالة يوجد فيها الجسيم في كل الاحتمالات الممكنة معا في الوقت ذاته. يعني ذلك أن الذرة الموجودة داخل المادة المشعة في صندوق "شرودنغر" قد تحللت ولم تتحلل في الوقت نفسه، وبالتبعية فإن عداد "غايغر" قد أسقط المطرقة ولم يسقطها في الوقت نفسه، ويلي ذلك استنتاج شرودنغر أن القطة كانت ميتة وحية في الوقت نفسه.
من أهمية تجارب هذا الثلاثي أن أنتوني ليجيت (الحائز جائزة نوبل عام 2003) جادل بأن كلارك وديفوريت ومارتينيس قد ابتكروا شيئا يُشبه النسخة الواقعية من تلك المفارقة، فدائرتهم الكمومية تتصرف كما لو كانت جسما كميا واحدا موحدا؛ حيا في حالة، وميتا في حالة أخرى، وقادرا على الانتقال بينهما.
لا يزال النظام الجديد أصغر بكثير من قطة صغيرة، ولكن لأن التجربة تقيس الخصائص الميكانيكية الكمومية التي تنطبق على النظام ككل، فإنه بالنسبة لفيزيائي الكم يشبه إلى حد كبير قطة شرودنجر الخيالية.
تطبيقات عملية ومستقبل العلمتتجاوز آثار هذا العمل حدود المختبر، حيث تُشكل المبادئ نفسها المستخدمة في تجربتهم الآن أساس تقنية الكم الحديثة:
الحواسيب الكمومية: حيث تحتفظ دوائر مثل هذه الدائرة التي صممها علماء نوبل بالمعلومات على شكل "كيوبتات"، موجودة في صورة 0 و1 في آن واحد. المستشعرات الكمومية: أجهزة فائقة الحساسية تكتشف المجالات المغناطيسية الدقيقة أو موجات الجاذبية. التشفير الكمي: استخدام الحالات الكمومية لإنشاء اتصالات آمنة تماما، إذ استخدم جون مارتينيس لاحقا هذه الدوائر الفائقة التوصيل لإنشاء أحد أوائل معالجات الكم العاملة في غوغل.في الواقع، عندما وُلدت ميكانيكا الكم في عشرينيات القرن الماضي لم يكن أحد ليتخيل أنها ستُستخدم يوما ما لبناء أجهزة الكمبيوتر، أو الكشف عن نشاط الدماغ، أو وصف الكون نفسه. وحتى بعد مرور 100 عام، لا تزال تُفاجئنا، أو كما قال أولي إريكسون، رئيس لجنة نوبل، عند إعلانه عن الجائزة: "من الرائع أن نحتفل بمدى تقديم ميكانيكا الكم التي يعود تاريخها إلى قرن من الزمان لمفاجآت جديدة باستمرار".
والآن، بفضل كلارك وديفوريت ومارتينيس نعرف شيئا أعمق، وهو أن الحدود بين الكمّ والحياة اليومية أرقّ مما كنا نعتقد، فلم تعد بحاجة إلى النظر عبر المجهر لرؤية ميكانيكا الكمّ، بل يمكنك حملها بين يديك.