جريدة الرؤية العمانية:
2025-12-13@14:28:08 GMT

نزوى الرائعة

تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT

نزوى الرائعة

 

 

د. صالح الفهدي

ما كادت خُطانا تُلامسُ الزِّقاقَ المنحدرة من قلعة الشهباء وسوق نزوى العريق إلى العمقِ في محلَّة "العقر"، حتى ابتهجت صدورنا ونحنُ نخطو في تلك الزِّقاق والسِّكك الضيِّقة التي كان الظلامُ المُرعبُ يحشوها في الماضي، فضلاً عن أنَّ ثغور البيوت القديمة، وفتحاتها الموحشة تثيرُ لوحدها الخوفَ وتبعثُ على انثيال الخيالات المفزعة، لكنَّها بدت لنا وكأنَّها تنتمي إلى مكانٍ آخر، فالإِضاءات المبهجة التي تملأُ أنوارها تلك الدروب طردت عنها أطياف الوحشة، وأزاحت أشباح الخوف، وأحلَّت محلَّها أُنساً لا يكادُ يتوفَّر إلا في هذه الدروب النزوانيَّة التي تقودنا نحو أَنزال -جمعُ نُزُل- ومقاهٍ تراثيةِ الطراز والمعمار، عصريَّةُ المسمِّيات والخدمات، تنتظمُ في عقود أشبه بعقودٍ ذهبيَّة لو نظرتَ إليها من الأَعلى في المساء، في حين يبدو السور الذي رُمِّمَ جزءٌ منه مشكلاً جِسراً أَنيقاً بإضاءاته الموزَّعةِ بعنايةٍ هندسية رائعة بين ضواحي النخيل.

منذ عِقدٍ من الزَّمان، تقدَّم شابٌ طموحٌ بفكرةٍ تحويل أحد البيوت الطينية المهجورةِ في هذه المنطقة إلى "نُزُل"، وكانت هذه المبادرة هي أوَّلُ شمعةٍ توقدُ في الظلام لتلك الحارة الموحشة التي كان مُلاَّك بيوتها المهجورة يريدون التخلُّص منها بأبخس الأَثمان في ذلك الوقت، حتى بدأت الشموع تتكاثرُ في ظُلماتها، بمبادرةٍ أوسع وأشمل تمثَّلت بتأسيس أبناء ولاية نزوى لشركة "بوارق نزوى الدولية للإستثمار"؛ حيث أخذت على كاهلها فكرة إعادة الحياة إلى تلك البيوت التي تخلَّلها الضعف والهشاشة والوهن بإعادة ترميمها وتحويلها إلى أنزالٍ ومقاهٍ تقدِّم للسائح من الزائرين أو أبناءِ الوطن تجربةً فريدةً من نوعها.

لفتتنا هذه التجربة الحميمية التي عايشناها في عدد من البلدان التي زرناها، والتي استثمرت هذه المناطق القديمة فأعادت إليها الحياة؛ إذ جمعت فيها الأصالة والمعاصرة، وجعلت مجرَّد المشي في دروبها تجربةً ذات إحساسٍ شيِّق.

نزوى المشحونة بعراقةِ التاريخ، وعمق الأصالة، وزخم الأحداث المتلاحقة باعتبارها قطباً مهمًّا في تاريخ عُمان، يقدِّمُ أهلها أُنموذجاً في تقديرهم للعمل الذي يزاولونه بأنفسهم حيث تجد أهل الولاية وهم يقفون على جميع أعمالهم في سوق نزوى ابتداءً من محلَّات الذَّهب إلى سوق الخضار مروراً بمصانع الحلوى العُمانية، وها هم اليوم يقدِّمون الأنموذج الفريد في مبادرتهم الشيِّقة التي أشعلوا بفضلها الشموع في ظلمات الحارات الموحشة، والضواحي الداكنة الظلمة ليقدِّموا دروساً غير مصطنعة ولا متكلِّفة في إنماء فكرة السياحة، التي لا تحتاجُ إلا إلى فكرةٍ عمليةٍ ذات مردودٍ اقتصادي بوسيلة جاذبةٍ للسائح.

أَبهرتني نزوى في زيارتي الأُسرية الأخيرة، وأوَّل الإبهار هو الروح الرائعة لأهالي ولاية نزوى الذين قدَّموا لوطنهم قبل السائحين تجربةً فريدة ذات مغزىً ومعنى. خلال هذه الزيارة التقيتُ قدراً بالأخ العزيز عبدالله بن زهران العوفي وهو أحد أعضاء شركة بوارق نزوى الدولية للاستثمار، وقد كان يشرفُ بنفسه على بعض أعمال الشركة في ساعةٍ متأخرةٍ من المساء فحدَّثنا عن الفكرةِ والطموح، وفسَّرَ لنا كيف يمكن للدروب أن تتحوَّل إلى عقودٍ من الذهب، وكيف للحارات القديمة أن تنتشي بالحياةِ والحركة وتصبح أليفة وصديقة حين يرتقي الإنسان بطموحاته، ويعتلي بأفكاره، وتصوُّراته.

وقبل أن أختم هذه المقالة أُقدِّم بعض الأفكار التي أراها ذات قيمة من وجهة نظري للجهات المعنية والشركة المسؤولة:

أولاً: أرى أن يكون لمحافظة الداخلية مركزاً عصرياً مسؤولاً عن السياحة، كما يطلقُ عليها في الخارج "Tourist Information Center"  ويُرمز له بالحرف (i)؛ حتى يقوم بمهمته في مساعدة السائحين في التعرُّف على المرافق السياحية في ولايات الداخلية؛ حيث تفتقد الفنادق في هذه الولايات لمنشورات سياحية نراها في البلدان الأُخرى لتسهِّل على السائح وضع برنامجه السياحي.

ثانياً: أرى أهميَّة تعميق التجربة الثقافية/السياحية لولايةٍ مثل نزوى التي تمورُ بالأحداث التاريخية، وتثقل بالكنوز العلمية والفكرية، والقصص المختلفة؛ ذلك لأن إضافة العمق في التجربة يتطابق مع الصورة التي تتخايل في ذاكرة السائح الغربي بسحر الشرق، وليالي ألف ليلةٍ وليلة، وذلك عبر الفعاليات، والمناسبات الفنية، والدراما، ومشاهدة الأفلام الخاصَّة بنزوى وتاريخها ورموزها وأحداثها، تطويعاً لكل ما يمكن تطويعهُ في تعميق الأثر الثقافي لنزوى عاصمة الثقافة، وحاضرة التاريخ.

ثالثاً: لا بد من المحافظة في هذا المسعى التطويري على الهُوية العمانية العربية للمكان؛ حيث إن بعض المسمِّيات للمقاهي أو المحلَّات أجنبية، وهذا يتنافى مع الثيم العام، علاوةً على الإِضرار بالخصوصية المرتبطةِ بالمكان، وهذه ملاحظةٌ أُبديها دون تحفُّظ لأي مسؤول تذكيراً للحفاظ على الهوية الوطنية.

وختاماً.. فإنَّ ما رأيته في زيارتي الأخيرة لنزوى قد أسرَّ نفسي؛ حيث بدأ البرنامج السياحي بزيارة التحفة العصرية الأصيلة "متحف عمان عبر الزَّمان"، الذي كان مخطَّطاً له أن يُشغل نصف يومٍ للزائر، ثم استكملنا بعدها اليوم في ربوع نزوى الرائعة التي قلتُ فيها قصيدة محبَّة ذات صباح بعنوان "إليكِ نزوى".

وبعد أن أضاءت نزوى مصابيح النور لهذه الأماكن التي تتلألأ بعبق الماضي الزكي، فإن نور فكرتها قد امتدَّ إلى ولايات أُخرى حولها وبعيداً عنها.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ما قصة تماثيل عين غزال الأردنية التي احتفل بها غوغل؟

احتفى محرّك البحث العالمي "غوغل" بتماثيل "عين غزال" الأردنية، مسلطًا الضوء على واحدة من أقدم الشواهد الفنية في تاريخ البشرية.

هذا الاحتفاء أعاد هذه التماثيل إلى الواجهة، حيث تعتبر تماثيل عين غزال، نافذة على بدايات التفكير الرمزي والديني لدى الإنسان في العصر الحجري الحديث.

تماثيل عين غزال تعد شاهدة على مجتمع استقر قبل نحو تسعة آلاف عام على أطراف عمّان الحالية، وترك خلفه إرثًا فنيًا وروحيًا ما زال يثير أسئلة العلماء والمؤرخين حتى اليوم.

موقع عين غزال
يقع موقع عين غزال الأثري في الجزء الشرقي من العاصمة الأردنية عمّان، قرب مجرى سيل الزرقاء، في منطقة كانت تُعدّ من أكبر المستوطنات البشرية في العصر الحجري الحديث قبل الفخاري.

وتشير الدراسات الأثرية إلى أن الموقع كان مأهولًا بشكل متواصل تقريبًا بين عامي 7200 و5000 قبل الميلاد، أي في مرحلة مفصلية من تاريخ البشرية شهدت الانتقال من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة والاستقرار.

ما يميّز عين غزال عن غيره من المواقع المماثلة في المنطقة، هو ضخامته نسبيًا؛ إذ قُدّر عدد سكانه في ذروة ازدهاره بالآلاف، وهو رقم كبير جدًا بمقاييس تلك الفترة. هذا الاستقرار السكاني الكثيف أتاح نشوء أنماط اجتماعية ودينية معقدة، انعكست لاحقًا في طقوس الدفن والعمارة والفنون، وعلى رأسها تماثيل الجص الشهيرة.

اكتشاف تماثيل عين غزال عام 1983
بدأت قصة الاكتشاف في عام 1983، عندما كانت أعمال توسعة عمرانية تجري في المنطقة. وخلال حفريات إنقاذية، عثر فريق من علماء الآثار على مجموعة غير متوقعة من التماثيل المدفونة بعناية تحت أرضية أحد المباني السكنية القديمة. لاحقًا، كشفت حملات تنقيب إضافية عن مجموعتين رئيسيتين من التماثيل، يعود تاريخ دفنهما إلى نحو 6500 قبل الميلاد.

شكّل هذا الاكتشاف صدمة علمية حقيقية، إذ لم يكن معروفًا آنذاك وجود تماثيل بشرية كاملة الحجم تقريبًا تعود إلى هذا الزمن السحيق. ومنذ ذلك الحين، أصبح اسم «تماثيل عين غزال» حاضرًا في أبرز المراجع الأكاديمية، وغالبًا ما يُشار إليها بوصفها من أقدم التماثيل البشرية في العالم.

تماثيل من الجص
صُنعت تماثيل عين غزال من مادة الجص (الجبس الجيري)، وهي مادة كانت تُحضّر عبر حرق الحجر الجيري ثم خلطه بالماء لتكوين عجينة قابلة للتشكيل. وقد بُنيت التماثيل حول هيكل داخلي من القصب أو الأغصان، ثم جرى تغليفها بطبقات من الجص المصقول بعناية.

تتراوح أطوال التماثيل بين نصف متر ومتر تقريبًا، وبعضها تماثيل كاملة، فيما صُنعت أخرى على شكل أنصاف تماثيل (بوست). اللافت للنظر هو التركيز الشديد على ملامح الوجه، ولا سيما العيون الكبيرة المصنوعة غالبًا من القار أو الصدف، والتي تمنح التماثيل نظرة حادة ومقلقة، كأنها تحدّق في المشاهد عبر آلاف السنين.

ملامح بلا أفواه
من أكثر ما يثير الجدل العلمي حول تماثيل عين غزال، هو غياب الفم في معظمها، مقابل إبراز واضح للعيون والرؤوس. هذا الاختيار الفني المتكرر دفع الباحثين إلى طرح تفسيرات متعددة، من بينها أن التماثيل لم تكن تمثّل أفرادًا بعينهم، بل كائنات رمزية أو أسلافًا مقدسين، أو ربما آلهة مرتبطة بالخصوبة والحياة والموت.

كما يرى بعض العلماء أن غياب الفم قد يرمز إلى الصمت الطقسي، أو إلى عالم روحي لا يحتاج إلى الكلام، فيما تبقى العيون وسيلة الاتصال بين العالم المرئي والعالم غير المرئي.

لماذا دُفنت تحت الأرض؟
لم تُترك التماثيل معروضة أو مهجورة، بل دُفنت بعناية فائقة داخل حفر خاصة تحت أرضيات المنازل، وهو ما يفتح بابًا واسعًا للتأويل. فالبعض يرى أن الدفن كان جزءًا من طقس ديني دوري، حيث تُصنع التماثيل وتُستخدم في شعائر معينة ثم تُوارى الأرض بعد انتهاء دورها الرمزي.

ويذهب رأي آخر إلى أن هذه التماثيل كانت مرتبطة بطقوس حماية المنزل أو الجماعة، وأن دفنها تحت الأرضية يهدف إلى ضمان البركة أو الحماية الروحية لسكان المكان.

وعُثر في موقع عين غزال على ما يقارب 32 تمثالًا وتمثالًا نصفيًا، وهو عدد كبير قياسًا بالفترة الزمنية التي تعود إليها.

أين توجد تماثيل عين غزال اليوم؟
تتوزع تماثيل عين غزال اليوم بين عدد من المتاحف العالمية، أبرزها متحف الأردن في عمّان، الذي يضم مجموعة مهمة تُعدّ من أثمن معروضاته الدائمة.

كما توجد تماثيل أخرى في متاحف عالمية مثل المتحف البريطاني في لندن، ومتحف اللوفر في باريس، ضمن سياق التعاون العلمي الذي رافق عمليات التنقيب والدراسة.

ويُنظر إلى عرض هذه التماثيل في متحف الأردن على وجه الخصوص بوصفه استعادة رمزية للإرث الحضاري المحلي، وربطًا بين سكان عمّان المعاصرين وأحد أقدم فصول تاريخ مدينتهم.

مقالات مشابهة

  • ما قصة تماثيل عين غزال الأردنية التي احتفل بها غوغل؟
  • توطين 7 مشروعات في مدينة نزوى الصناعية بقيمة 12 مليون ريال
  • نزوى والعامرات يبلغان نهائي دوري ناشئي السلة
  • رقم كبير.. النجف تكشف كمية الأمطار التي تم تصريفها من شوارع المحافظة
  • انطلاق النسخة الثالثة من مسابقة إحسان صديقة للبيئة بالداخلية
  • مغامرو «نقتفي أثر أسلافنا» يختتمون مسيرًا بريًا تراثيًا في ولايات الداخلية
  • جنيفر لورنس خسرت لقب الفتاة الرائعة لتفوز بلقبٍ آخر غير متوقّع!
  • متابعة تطبيق اللغة الصينية بمدرستين في نزوى
  • 160 باحثًا من 16 دولة في مؤتمر جامعة نزوى للدراسات العليا
  • وفد صيني يطلع على البرامج الصفية والأنشطة اللغوية في مدرستين بالداخلية