مؤلف أذكر الفلوجة فرات العاني: الهوية شجرة متفرعة والأدب تدوين للذاكرة
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
باريس – فاز الروائي العراقي الفرنسي فرات العاني في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بجائزة الأدب العربي لعام 2023، من مؤسسة جان لوك لاغاردير ومعهد العالم العربي بباريس، عن روايته "أتذكر الفلوجة".
وتخوض رواية "أتذكر الفلوجة" في قضية الهوية من خلال حوار مونودرامي بين أب وابنه، عبر لعبة الذاكرة وتقنية سردية مموهة ومخاتلة تمزج بين الماضي والحاضر، وبين القص التخييلي والسيرة الذاتية.
وفي شبه ترجمة قصصية لمقولة الشاعر الفرنسي روني شار "نحن لا نسكن إلا الأماكن التي نغادرها"، يحفر الكاتب فرات العاني في ذاكرة الأمكنة وتاريخ العراق في سبعينيات القرن الماضي، من خلال بطله أحمد رامي الذي بقي يحن لمدينته الأولى الفلوجة، ويبحث عن أصوله وهويته رغم العقود الثلاث التي عاشها في المنفى الفرنسي، بينما يجسد ابنه حالة اغتراب الأجيال العربية الجديدة المولودة في المنافي.
ولد الكاتب والصحفي فرات العاني في باريس عام 1980 لأبوين عراقيين، ورواية "أتذكر الفلوجة" هي الثانية في رصيده بعد روايته الأولى "عطر العراق" التي فازت بجائزة ألبرت لوندري العام 2019.
في هذا الحوار مع الجزيرة نت تحدث العاني عن حيثياث فوزه بجائزة الأدب العربي، وغاص في تفاصيل كتابته لرواية "أتذكر الفلوجة" التي قال إنها "تذهب أبعد من الخيال"، وأوضح أسباب هوسه الخاص بالذاكرة في كتاباته ونبشه الدائم في تاريخ العراق، كما بيّن أسباب تأثره الكبير بكتاب "هويات قاتلة" لأمين معلوف، وكشف عن موضوع ومناخات روايته القادمة التي تدور أحداثها بين العراق والاتحاد السوفياتي السابق. فإلى الحوار:
كيف تقبلت فوز روايتك "أتذكر الفلوجة" بجائزة الأدب العربي لعام 2023، من مؤسسة جان لوك لاغاردير ومعهد العالم العربي بباريس؟فرحت كثيرا عندما علمت أنني فزت بهذه الجائزة المرموقة لعدة أسباب. أولا لأنها تمثل تكريسا أدبيا جميلا، وثانيا لأن والدي أخذني لأول مرة إلى معهد العالم العربي عندما كنت مراهقا واحتفظت بذكريات رائعة عن اكتشاف الثقافة الأدبية العربية.
إن حصولي على هذه الجائزة في هذا المكان حركني وجعلني أفكر في المرة الأولى التي وطأت فيها قدمي معهد العالم العربي بباريس.
ما إضافة مثل هذه الجوائز الفرنسية المرموقة ومساهمتها في تشجيع نشر الأدب العربي باللّغة الفرنسية؟تسلط هذه الجائزة الضوء على أعمال الكتاب من العالم العربي أو الذين يكتبون ويعالجون قضايا ومواضيع عن الدول العربية. إنها طريقة رائعة لتعريف القراء بالثقافة الغنية للعالم العربي، ولكنها أيضا عرض لهذا الأدب الواسع. ومن المهم للغاية، مثل أي ثقافة أخرى، إدراج العالم العربي في مجموعة الكتابات المعاصرة.
تخوض رواية "أتذكر الفلوجة" في قضية الهوية من خلال حوار مونودرامي بين أب وابنه، عبر لعبة الذاكرة وتقنية سردية مموهة تمزج بين الماضي والحاضر، فهل الموضوع هو الذي فرض هذا البناء الفني المخاتل، أم العكس صحيح؟كلاهما. لأن أحدهما يتغذى على الآخر. بالنسبة لي، كان استخدام هذه البنية الفنية واضحا لأنني أتعامل مع الذاكرة والماضي.
للقيام بذلك، بدا لي منطقيا أن أجمع ماضي الشخصيتين الرئيسيتين معا، مثل مرآة مشوهة لحقيقتين قريبتين وبعيدتين في نفس الوقت. نقاش بين شخص فاقد للذاكرة وآخر يشعر بالحنين للماضي، هي طريقة لإعادة بناء واقع أحلامك، من خلال السؤال الكبير عن الهوية.
في هذه الرواية يحاول أحمد رامي إعادة التواصل مع ماضيه من خلال ابنه، وهو ما جعل هذا الابن يبحث عن نفسه ويطرح الأسئلة. لكن رامي يجد صعوبة في الحديث عن هذا الماضي بسبب الصدمات المرتبطة بطفولته وأيضا بسبب الصعوبة التي واجهها هناك في العراق كناشط سياسي يواجه نظاما استبداديا يطارد المعارضين.
المنفيون يأخذون كل شيء معهم، الأفراح والمصائب، ولذلك يصبح من الصعب على الجيل المولود في المنفى أن يبني نفسه بدون إعادة الاتصال بأصوله. يتم تحرير الاغتراب من خلال البحث عن الذات، وهذا يمر عبر الهوية في رأيي.
المنفيون يأخذون كل شيء معهم، الأفراح والمصائب، ولذلك يصبح من الصعب على الجيل المولود في المنفى أن يبني نفسه بدون إعادة الاتصال بأصوله. من جهتي، ليس للعراق أي ماضي استعماري مع فرنسا، لذا كان الأمر أكثر صعوبة. لم يكن لدي أي نقاط مرجعية. جاء المهاجرون الآخرون من حولي من أماكن أخرى ويمكنهم على الأقل أن يتشاركوا في تاريخ مشترك. بالنسبة للعراقيين في فرنسا، كان الأمر شبه مستحيل.
يتم تحرير الاغتراب من خلال البحث عن الذات، وهذا يمر عبر الهوية في رأيي. ولهذا أصررت على هذا الموضوع بالذات في روايتي "أتذكر الفلوجة".
كيف تعرف الهوية وكيف تعيشها أنت المولود في المنفى الفرنسي لأبوين عراقيين؟الهوية ليست اسما، ولا بلد المنشأ، ولا بلد الميلاد، إنها كل هذه الأشياء، وهي ما نصنعه ونعيشه لاحقا. يستحضر الراوي هذه "الحقيبة غير المرئية" الشهيرة التي يحملها كل مسافر، بالنسبة لي هذه هي الهوية. نحن نمضي قدما بفتح حقيبتنا، وإغلاقها، وملئها، وإفراغها.
الهوية متحركة وليست ثابتة. يمكننا أن نقرر ماذا سنكون بينما نشعر بالفضول بشأن أصولنا، يمكننا أيضا الاستغناء عنها. إنها حالة خاصة. من جهتي، أعتقد أن الجذور مهمة لبناء المستقبل، لأن الهوية شجرة متعددة الفروع.
إنها (الهوية) متحركة وليست ثابتة. يمكننا أن نقرر ماذا سنكون بينما نشعر بالفضول بشأن أصولنا، يمكننا أيضا الاستغناء عنها. إنها حالة خاصة. من جهتي، أعتقد أن الجذور مهمة لبناء المستقبل، لأن الهوية شجرة متعددة الفروع.
هل تعتبر روايتك "أتذكر الفلوجة"ترجمة سردية لكتاب أمين معلوف الفكري "الهويات القاتلة"، الذي ينظر لصراع الهويات المتعددة الذي تفرضه العولمة والمجتمع، ومحاولة إعادة توطينها من خلال السرد التخييلي ولعبة الذاكرة ؟ أين تبدأ الهوية الفردية وأين تنتهي الهوية الجماعية الإنسانية؟من المضحك أن كتاب "هويات قاتلة" لأمين معلوف هو كتاب مؤسس في بحثي عن الهوية. لقد ترك هذا الكتاب بصماته علي وساعدني على فهم أشياء كثيرة. بداية الثقافة المزدوجة ليست 50% للأولى و50% للثانية، إنها أعقد من ذلك بكثير لأن المسألة ليست مسألة أرقام أو مسألة توزيع الدم والانتماء، إنها قبل كل شيء تجربة. لم أكتب هذه الرواية كتفسير لذلك الكتاب المرجع، لكن من الواضح أنه أعطاني نقطة انطلاق لفهم الهوية في حياتي الخاصة. الهوية ليس لها تعريف خاص بها. إنها أمر فريد بالنسبة للجميع، وأنا مقتنع بذلك اليوم.
تلخص روايتك "أتذكر الفلوجة"، المقولة الجميلة للشاعر الفرنسي روني شار "نحن لا نسكن إلا الأماكن التي نغادرها"، فكيف تتعامل مع ذاكرة الأمكنة في كتاباتك السردية؟ وإلى أي مدى تعتبر هذه الذاكرة محفزا للكتابة والإبداع؟ هل لديك أماكن ومدن أكثر من غيرها تستفزك للكتابة؟هذا سؤال ممتاز. أعطي أهمية كبيرة للأماكن في كتاباتي وحياتي. أشعر بالحنين إلى الأماكن لدرجة أنني أحيانا أقوم برحلة حج للحنين، وأعود إلى أماكن من طفولتي، وهذا يلهمني كثيرا ويساعدني في إعادة كتابة الأشياء.
كصحفي وكاتب، لا أستطيع أن أتخيل الكتابة عن مكان معروف أو غير معروف بدون الذهاب والعودة إليه، تحفيزا للإلهام. المكان المادي الحقيقي لا يقل أهمية عن المكان الخيالي للرواية، لا أستطع الكتابة من دون وقع المكان وتأثيره.
بالنسبة لعلاقة المكان بالكتابة، نعم، لدي مدن وبلدان بعينها تلهمني أكثر من غيرها، في فرنسا وأماكن أخرى من العالم. أحيانا أنعزل وأحتاج للصمت التام في هذه الأماكن لأكتب. وأحيانا أخرى أحتاج إلى أمكنة صاخبة وضاجة بالحياة مثل المقاهي، أعتقد أن الأمر يعتمد على النوايا والمواضيع التي أفكر في كتابتها.
كتبت رواية وتخيلت الأماكن واخترعت الأسماء، ولكن من الواضح أنني احتفظت بالكثير من الواقع في "أتذكر الفلوجة". الخيال دائما مستوحى من الواقع.
جسدت شخصية السارد ابن البطل أحمد رامي، في مزاوجة فنية مباشرة ومتعمدة بين السرد التخييلي والسرد السير- ذاتي، فما أسباب هذا التوجه الفني؟ وأين يبدأ الموضوعي وأين ينتهي الذاتي في روايتك "أتذكر الفلوجة؟ وإلى أي مدى يستطيع الكاتب والمبدع عموما أن يتخلص من شخصيته وذاته وتفاصيل حياته في كتاباته وأعماله الإبداعية؟لقد كتبت رواية وتخيلت الأماكن واخترعت الأسماء، ولكن من الواضح أنني احتفظت بالكثير من الواقع في "أتذكر الفلوجة". الخيال دائما مستوحى من الواقع. من ناحيتي أعتقد أن هناك إلهاما للسيرة الذاتية ولكن هناك أيضا جزء كبير من الخيال الذي لا أريد بالضرورة الكشف عنه، لأن أحدهما يتغذى على الآخر.
وقد كان الهدف أيضا في هذه الرواية الإجابة عن الأسئلة التي لم يكن لدي إجابات عنها. عندما توفي والدي، شعرت بالحاجة الملحة لاستكشاف هذا الخيال، لتكريمه ولكن أيضا لتلبية طلبات ورغبات الطفل التي لم يتم حلها بعد، وخاصة أن أكون في سلام مع قصتي.
يحضر تاريخ العراق بكثافة في روايتيك "أتذكر الفلوجة" و"عطر العراق"، بل ويتحول العراق والفلوجة ومدن أخرى إلى شخصيات بحد ذاتها في الرواية، فما رسائلك المضمونية والفنية من خلال توظيفك لهذه الحيلة الفنية؟هذا صحيح، لأن شخصياتي ليست مجرد شخصيات بشرية، ولأنني أتخيل كل شيء كشخصيات. بغداد، الفلوجة، العراق، كلها شخصيات، ولكن أيضا فقدان الذاكرة والعار والغضب والصمت هي شخصيات روائية. أحب أن آخذ القراء على متن طائرة الخيال وأمسك بأيديهم وأدخلهم إلى أعماق نفسي، لأنني أؤمن أن كل شيء يمر عبر الأحاسيس، الروائح والتفاصيل ولون السماء وموقف الشخصيات.. إلخ.
في الحقيقة أريد أن أكون أقرب ما يمكن إلى دقة المواقف، ولكن بدون تقديم الكثير من التفاصيل دائما. في بعض الأحيان، كل ما يتطلبه الأمر هو جملة بسيطة لإثارة شيء معقد.
تقوم روايتك الأولى "عطر العراق" على لعبة التذكر والذاكرة، والحفر في تاريخ العراق قصصيا مثل رواية "أتذكر الفلوجة"، فما أسباب هذا التوجه الفني، وهل ستواصله في روايتك القادمة؟نعم، لدي هوس خاص بالذاكرة. لن أعمل بالضرورة على هذا الموضوع فحسب، لكنه قريب من قلبي. الذاكرة هي الذكريات والماضي والتاريخ والسفر والعلاقة بين الوالدين والطفل، كل هذا يهمني بشكل كبير. ويصادف أن لدي ذاكرة جيدة وأتذكر كل التفاصيل. وهنا ولدت روايتي المصورة "عطر العراق"، وهي ليست رواية بالمعنى الكلاسيكي وإنما تسلسل زمني بسيط لذكرياتي في العراق منذ الطفولة، أما رواية "أتذكر الفلوجة" فهي تذهب إلى أبعد من الخيال.
لقد بدأت بكتابة روايتي القادمة. سيكون العراق حاضرا بالتأكيد ولكن ليس ذلك فحسب، حيث ستنتقل القصة أيضا الى الاتحاد السوفياتي السابق، إنه تحقيق عائلي آخر، ولكن أكثر من جانب الأم.
ترتكز القصة الرئيسية على شخصية عراقية مهمة، تتمثل في طيار عراقي من أفضل طياري الطائرات المقاتلة في الستينيات، يتم إرساله إلى روسيا ليتدرب على متن طائرة سوفياتية، إنها قصة يكتنفها الغموض والسرية أيضا. ستسافر بنا أولا الى العراق في الستينيات، ثم الى الاتحاد السوفياتي السابق، وستمتد الأحداث حتى يومنا هذا. لا أريد أن أكشف أكثر تفاصيل هذه القصة، ولكنني مهتم كثيرا بقصص الأساطير العائلية.
هل هناك مشروع لترجمة رواية "أتذكر الفلوجة" من الفرنسية إلى لغة الضاد وتوطينها في ثقافتها العربية الأصلية الرئيسية التي كانت موضوع أحداثها؟لدي وكيل أدبي يتولى الحقوق الأجنبية. في الوقت الحالي، وقعنا على ترجمة الرواية إلى اللغة الإنجليزية، وآمل أن يفتح هذا المجال أمام ترجمات أخرى، وخاصة العربية. سأكون سعيدا برؤية هذه الرواية التي كتبها شاب عراقي فرنسي تترجم في العالم العربي.
الأدب بالنسبة لي هو إطالة عمر الكلمات والذاكرة، من خلال لعبتي الكتابة والقراءة.
يقول فرناندو بيسوا "الأدب هو الدليل على أن الحياة لا تكفي"، فكيف تعرف الأدب والكتابة وكيف تعيشهما؟هذه مقولة جميلة جدا أجد نفسي فيها. لكنني أعتقد أيضا أن الأدب يعمل على تدوين الذاكرة في الوقت المناسب.
الأدب يتيح لنا أن نقول ما لم نقله قط. في بعض الأحيان لا نستطيع التحدث عن كل شيء، على سبيل المثال التعبير من خلال أصواتنا عن الأشياء الصعبة أو حتى الأشياء الجميلة. الكتابة تساعد على إنشاء هذا الجسر.
الأدب بالنسبة لي هو إطالة عمر الكلمات والذاكرة، من خلال لعبتي الكتابة والقراءة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: العالم العربی الأدب العربی تاریخ العراق هذه الروایة بالنسبة لی أحمد رامی فی المنفى من الواقع أعتقد أن من خلال کل شیء
إقرأ أيضاً:
لماذا غابت الفيديوهات التي توثق ما يجري في الأقصى؟
مع دخول المسجد الأقصى المبارك في موسم الاقتحامات الأطول والأعتى خلال العام، والذي بدأ برأس السنة العبرية، مرورا بيوم الغفران وانتهاء بالموسم الأخطر، وهو عيد العُرش (المظال)، كان لا بد من بسط قضية التغطية الإعلامية لما يجري في المسجد على طاولة البحث والدراسة.
فالمتابع لأحوال المسجد الأقصى لا يخفى عليه التراجع الشديد مؤخرا لعدد الصور والفيديوهات التي توثق الاقتحامات، وما يقوم به أفراد جماعات المعبد المتطرفة داخل المسجد يوميا.
حتى وصل الأمر إلى أن جميع الصور والفيديوهات التي وثقت اقتحامات رأس السنة العبرية في 23 من سبتمبر/أيلول الماضي واقتحامات يوم الغفران مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي، كانت من خارج المسجد، بل من خارج البلدة القديمة كلها.
وكان عدد لا بأس به من الصور التي بثتها صفحات إخبارية ووسائل إعلام عربية لتغطية الحدث قد التقطت من فوق جبل الزيتون الذي يبعد مسافة حوالي 500 متر هوائي عن أسوار المسجد الأقصى الشرقية.
وهذه الزاوية بدورها لا تغطي إلا مساحة صغيرة من المسجد الأقصى أمام الجامع القبلي، ولا يمكن منها مراقبة ما كان يجري خلال تجمع المستوطنين في المنطقة الشرقية للمسجد، أو خلال أدائهم طقوسهم الدينية في الجهة الشمالية أو الغربية من المسجد الأقصى.
أما الصور والفيديوهات التي أظهرت أفعال هذه الجماعات فكان مصدرها للأسف هو صفحات هذه الجماعات نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بعد نشرها صورا وفيديوهات تبين ما فعله أفرادها في المسجد من باب التفاخر بإنجازاتها خلال الاقتحامات.
ولعل أحد أهم النماذج التي بينت خطورة ما يجري هو مسألة نفخ بوق رأس السنة العبري داخل المسجد، حيث غاب هذا الحدث عن التغطيات بشكل كامل، حتى ادعت جماعة "بيدينو" المتطرفة أن المستوطنين نفخوا البوق داخل المسجد خمس مرات في ذلك اليوم، بينما أظهرت شهادات المقدسيين الذين تمكنوا من الوصول إلى الأقصى في تلك الفترة سماعَ صوت البوق مرة أو مرتين خلال اليوم دون تصوير.
إعلانولم يكن بالإمكان تأكيد ذلك أو نفيه، إلى أن نشرت نفس الجماعة المتطرفة فيديو لأحد المستوطنين ينفخ البوق داخل المسجد قبل أن يتم إخراجه من المسجد على يد شرطة الاحتلال.
فيما يحتفي الحاخام المتطرف يهودا غليك عراب اقتحامات المسجد الأقصى المبارك بهذه العملية، ويسوقها كـ"انتصار رمزي" في معركة السيطرة الدينية على المكان.
خلال العام الأخير، شددت قوات الاحتلال قبضتها على المسجد الأقصى المبارك بشكل غير مسبوق، حيث وصل الأمر إلى تدخلها في كل صغيرة وكبيرة داخل المسجد، وحتى التدخل في عمل دائرة الأوقاف الإسلامية كمنع ذكر غزة في خطب الجمعة، أو حتى الإشارة إليها وإن من بعيد، تحت طائلة الإبعاد عن المسجد دون النظر إلى طبيعة شخصية الخطيب ومركزه الديني والاجتماعي والرسمي، كما فعلت مع الشيخ محمد سرندح خطيب المسجد الأقصى، والشيخ عكرمة صبري خطيب الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا، والشيخ محمد حسين مفتي القدس والديار الفلسطينية، وغيرهم.
وقد ترافق ذلك مع تضييق ممنهج على الصحفيين المقدسيين والمصورين الذين يشكلون عين الناس على ما يجري داخل المسجد، إذ أصبح كثير منهم عرضة للاستدعاء، أو الإبعاد، أو مصادرة الهواتف والكاميرات عند محاولتهم توثيق أي حدث، بل وبلغ الأمر بشرطة الاحتلال، تفتيش هواتف المصلين المسلمين أثناء وجودهم داخل المسجد الأقصى؛ للتأكد من أنهم لم يلتقطوا صورا أو فيديوهات للمستوطنين خلال الاقتحامات، الأمر الذي جعل من عملية نقل الصورة من داخل المسجد شبه مستحيلة في كثير من الأوقات.
وتشير شهادات عدد من الصحفيين والناشطين المحليين، إلى أن قوات الاحتلال لم تكتفِ بإغلاق الأبواب في وجوههم، بل قامت في أحيان كثيرة بإخراجهم من باحات المسجد قبل بدء الاقتحامات بدقائق، أو منعهم من دخول المسجد أصلا تحت ادعاءات مختلفة؛ ليبقى الميدان خاليا إلا من المستوطنين والشرطة.
وهذا الإخلاء المسبق للمكان من الإعلاميين والمرابطين يأتي ضمن خطة واضحة لتغييب الصورة الحقيقية لما يحدث، بحيث لا تصل الصورة إلا بعد انتهاء الحدث عبر الرواية الإسرائيلية الجاهزة التي تُقدَم بصفاقة على أنها "صلاة محدودة" أو "زيارة جماعية منظمة" لباحات عامة مفتوحة حسب التعريف الإسرائيلي للمسجد الأقصى.
ومع غياب العدسة الميدانية، تضعف قدرة الرأي العام العربي والإسلامي على متابعة ما يجري في المسجد، لتتحول القدس إلى مجرد عنوان عابر في نشرات الأخبار، بينما تتواصل في داخلها عمليات فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بهدوء وصمت تام.
فالمشهد الذي كان قبل سنوات يملأ الشاشات بأصوات التكبير والاحتجاج، أصبح اليوم صامتا إلا من بيانات مقتضبة تصدر عن دائرة الأوقاف الإسلامية، أو وزارة الخارجية الأردنية، أو عن بعض المؤسسات المختصة والمهتمة.
إن ما يجري ليس مجرد صدفة ظرفية، بل هو نتاج سياسة طويلة المدى تهدف إلى سلخ المسجد الأقصى عن حضوره الإعلامي، وهو جزء من هندسة الوعي العام بإلغاء المسجد منه.
فالمعركة على المسجد ليست معركة حجارة ومبانٍ فقط، بل معركة رواية وصورة وذاكرة، إذ إن المشهد المرئي هو واحد من أبرز أدوات تحفيز الوعي القادرة على خلق التعاطف لدى الناس، ومن يمتلكُ القدرة على نقل الصورة، يملك القدرة على تشكيل الرواية، ومن يحتكرُ الرواية، يستطيع أن يبرر الفعل ويطمس الحقيقة.
إعلانولأن الاحتلال أدرك مبكرا أن صورة الجندي وهو يقتحم المسجد أو صورة المستوطن وهو يرفع علمه في باحات الأقصى كفيلة بإشعال غضب عالمي واسع، فقد قرر أن يمنع الكاميرات من الدخول، وأن يفتح المجال بالمقابل لعدسات إسرائيلية مختارة تلتقط المشهد بالطريقة التي يريدها هو، ثم تُوزع لاحقا في وسائل التواصل الاجتماعي لجماعات المعبد المتطرفة مصحوبة برؤيتها وتبريراتها للحدث.
ما يزيد خطورة المشهد أن منصات التواصل الاجتماعي التي شكلت على الدوام أداة مهمة لنشر ما يجري في الأقصى، ومقاومة التعتيم الإسرائيلي، أصبحت هي الأخرى ساحة للرقابة الصامتة.
فبمجرد أن تنتشر مقاطع توثق أي اقتحامات، أو اعتداءات على المسجد الأقصى أو المصلين فيه، تُحجب أو تُخفض درجة ظهورها؛ بحجة "مخالفة معايير المجتمع"، وهو ما يجعل التعتيم اليوم أكثر إحكاما وتطورا، إذ لم يعد بحاجة إلى جنود يمنعون الكاميرات عند الأبواب بالضرورة، بل يكفي أن تعمل خوارزميات الشركات الكبرى لحجب الصورة في لحظة.
بالمقابل، فإن المرابطين والناشطين المقدسيين الذين يوثقون لحظات الاقتحام والاعتداء، ولو من بعيد وينشرونها بسرعة قبل أن يقبض عليهم الاحتلال، أصبحوا اليوم خط الدفاع الأول عن الذاكرة البصرية للمسجد، ولولاهم لانقطعت الصلة بين العالم وبين ما يجري فعلا في باحاته. لكن هذه الجهود الفردية، مهما بلغت شجاعتها، تفتقد اليوم إلى منظومة دعم إعلامي ومؤسسي تحميها للأسف.
إذن، فالتعتيم الإعلامي لم يعد مجرد عَرَض جانبي للصراع على المسجد الأقصى، بل أصبح أداة رئيسة في إدارة المشهد. فحين لا تُرى الانتهاكات، لا يُحاسَب أحد، وحين تغيب الصورة، يغيب معها الإحساس بخطورة ما يجري. ولهذا يبدو الاحتلال أكثر حرصا على إغلاق العدسات من حرصه على إغلاق الأبواب.
هذا يفتح الباب للسؤال عن كيفية التعامل مع ما يجري، وهنا لا بد من الإشارة مباشرة إلى الجهات الرسمية في المسجد الأقصى، وتحديدا دائرة الأوقاف الإسلامية التي تتبع وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الأردنية، التي بات الاحتلال يتعامل معها باعتبارها تدير الوجود الإسلامي داخل المسجد الأقصى فقط، ولا تدير المسجد نفسه، وهذا الأمر ينبغي عدم السكوت عنه وعدم التهاون معه.
إن المطلوب من الأردن الرسمي أن يمارس حقه القانوني والسياسي الكامل في إدارة شؤون المسجد الأقصى المبارك حتى لو أدى ذلك إلى تأزيم الموقف مع إسرائيل، فالتأزيم وإن كان يبدو سلبيا للوهلة الأولى إلا أن نتائجه على المستويين؛ المتوسط والبعيد إيجابية، فالاحتلال الذي يحاول أن يظهر اليوم قويا بإطلاق جنونه في غزة والضفة الغربية في الحقيقة لا يمكنه في هذا الوقت المغامرة بفتح جبهات أكثر من اللازم.
ومغامرة التصعيد والتأزيم مع بلد مثل الأردن، ستعمق الشرخ في المجتمع السياسي الإسرائيلي المنقسم على نفسه أصلا، خاصة بالنظر إلى أن الأردن يقع على أطول خط حدود برية مع إسرائيل.
ملف المسجد الأقصى بالنسبة للأردن يعتبر مسألة وجودية لا يمكن ولا يجوز التهاون فيها مهما كانت النتائج. ولذلك، فإن أقل ما يمكن للأردن أن يفعله هو ممارسة حقه المكفول بموجب القانون الدولي باعتباره يمثل السلطة الدينية صاحبة الحق الحصري في إدارة الأقصى وصيانته وإعماره بما في ذلك مراقبة كافة أرجاء المسجد الأقصى ونشر حراسه فيها لتوثيق ونشر ما يحدث فيه من عدوان لا يمكن السكوت عنه؛ وإلا فإن هذا التعتيم المقصود يمكن أن يكون مدخلا لطمس هوية الأقصى والتأسيس للمعبد معنويا وماديا تحت ستار الحصار والتعتيم، وعند ذلك لن ينفع الندم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline