التعليم المستدام (1- 2)
تاريخ النشر: 10th, January 2024 GMT
د. عبدالله بن سليمان المفرجي
سؤال حول التعليم في مُقدمة هواجسه ووعوده وتطوره، إلى متى سيبقى التعليم مركزًا على المعرفة، ومُقللًا من قيمة المهارة؟ متى سنُحيل التلقين إلى التقاعد؟! متى سوف نستغني في مؤسستنا التربوية عن التعليم البنكي أو التعليم المُعلب أو "تعليم المقهورين" كما أطلق عليه المفكر البرازيلي التربوي باولو فريري في كتابه "تعليم المقهورين"؟
النهوض بالتعليم العالي في بلاد لها فلسفة تعليمية واضحة، يحتاج إلى وضع الأنظمة الأكاديمية المُحكمَة، التي ترفع من كفاءة العمل الأكاديمي، وتعمل بجدية لإعادة النظر في بعض الجوانب التي تخص التعليم بما يُحقق تعزيز المهارة عند المعلم والمتعلم، فـ"التعليم زينة في الرخاء، وملاذ في الشدة" كما قال أرسطو، و"التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم" بحسب نيلسون مانديلا.
فما أجمل أن يُعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، ثم يرسم خطط الإصلاح وإعادة البناء؛ فالعقول التي تملأها شعلة التنافس لا تشيب أبدًا والأفكار الجديدة بحاجة إلى من يغرسها في العقول. يقول الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو إن "وحده الشغف، الشغف بالأمور العظيمة، يستطيع أن يسمو بالروح إلى مقامات عالية جدا"، كما إنَّ إصلاح منظومة التعليم سيُخرج أجيالًا قادرة على حل المشكلات ومواصلة التعليم ذاتيًا من المهد إلى اللحد وبعقول مفكرة وباحثة تبني كل يوم صرحًا شامخًا. ولا نبالغ إذا قلنا إن هناك "مُعلّبات تعليمية" أفقدها الزمن والتطور المتسارع صلاحيتها، فتعرضت لما يتعرّض له الغذاء المحفوظ الذي يُصبح سامًا وضارًا بالصحة.
ولا شك أنَّ إعادة صياغة منظومة التعليم العالي بجامعاته وكلياته ومعاهده لتطوير قطاع التعليم والتعلم، ينهض على استراتيجيات مُحكمَة لبناء خارطة الطريق المستقبلية لتعليم مستدام ومعزز للمهارات وهي كالتالي:
موافقة وملاءمة البرامج التعليمية المطروحة وحاجات سوق العمل والتنمية الاجتماعية للبلاد والتطورات التقنية المتسارعة. فلابد من ملاءمة ومواءمة مخرجات التعليم العالي والتقني والمهني لاحتياجات سوق العمل، والواقع يفرض التوسع في التخصصات المهنية والتقنية والعمل على تطويرها بما يتفق والحاجة الفعلية والتطور المتسارع. تنويع أساليب التدريس والتقويم الفعالة بما ينسجم مع نتاجات التعلم الوجدانية أو الانفعالية أو المهارية أو النفس حركية ويتفق وأنماط المتعلمين. هذا النوع من التطور يؤدي إلى إعادة تعريف التعليم من زرع معلومات في عقول خاوية، ثم طلب استعادتها في الاختبارات، ولنقرب الصورة أقرب كالمعلم الذي يحاول إدخال المعلومات (العملة المعدنية)، في رأس تلاميذه (ماكينة البيع)، ويخرج من تلك الآلة قالباً من الحلوى (نتيجة الاختبار)، طبعا هذا النموذج منتج آخر من مخلفات العصر الصناعي، ويشبه البعض ذلك بنظام الشحن والتفريغ، المعلم يشحن المعارف والمعلومات المجردة من روحها على الطالب والطالب يحفظها ويصبها ويفرغها في ورقة الاختبار وينساها بعد ذلك. فلابد من شحذ الهمم ورصد مكافآت مجزية للمتميزين في التدريس، ونشر محاضراتهم بين الأقران ليتم الاستفادة منها، ومن طرق التدريس الحديثة المعززة بالتكنولوجيا، كما تمَّ تطبيقه في كندا في فترة من الفترات، في بعض المدارس فآتى ثمارًا يانعة.فقد تدرب المعلمون الآخرون على أساليب التدريس الفاعلة واستفاد الطالب بأن استطاع فهم المُقرر بأيسر طريقة، فمؤسستنا التربوية اليوم تخرج حفظة وحملة معلومات ومعارف في الأعم الأغلب ولا تخرج علماء، تخرج نقلة يمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يسمون بالعقل ويربون بالتفكير.
وهُنا تَكونُ الخَطِيئة الكُبرى فكيف سوف يستطيع طلابنا في ظل هذا الوضع الراهن أن يحجزوا مكانهم في مقدمة السِّرب المحلِّق. وإلى متى هذا الوضع الذي غابت فيه بذور الإبداع وهدرت طاقات الأجيال متى نصل بالمتعلم أن يعرف ما يُريد وكيف يحقق ما يريد بنفسه أو كيف يكون اليد العليا في تحقيق ما يريد فينطلق بكل حماسٍ ممتشقًا عَقله ومتقلِّدًا قَلَمهُ يبحث ويستَزيد مما سَرده المُعلِّم. فمن المعيب أن نجد طالبًا جامعيًا يتلقى المعلومات بشكل تلقيني (الخطيب). فيا مَعاشَر المُعلِّمين ارسموا طَريق النَّجاح لطلابكم "أجيال الديجيتال" ودَعوهم يَمضون بثبات وثقة في رحلتهم التعليمية الممتعة والمشوقة بوسائلهم فإن الزمان زَمانهم فقد تجاوزوا الأمسَ بكل تَفاصيله، فقد يكون ذلك قد يكون سباحة عكس التيار ومغامرة وانتحارا لمنظومة التعليم بنظر البعض، غير أنها قد تكون وصول نحو ضفة الأمان في الوقت الذي يقود فيه التيار الآخرين نحو المجهول.
تطوير المحتويات التدريسية بما ينسجم والتطورات العلمية في العالم الخارجي والواقع العملي المعيش. مع ضرورة ربط المقررات الدراسية بالحياة العمليّة وبالبحث العلمي والابتكار لا بالتلقين والحفظ الأصم للمعلومات وبعدها تصبح في طي النسيان فلا بد من خطوة جادة لردم الهوة السحيقة بين ما نتعلمه وما نعايشه. نحن بحاجة إلى التعليم المرتبط بالواقع والذي يعنى بربط المواقف التعليميّة بالمواقف الحياتيّة فالواقع اليوميّ المعاش لا يقلّ أهمّية عن المعلّم وأدواته الصفية. صقل مهارات التفكير والاتصال والنقد لدى الطلبة ليكونوا جاهزين لسوق العمل بكفاءة واقتدار. كيف يتمرن طلابنا على العمل الجماعي والخدمة الاجتماعية والقيادة والإدارة، إذا لم يُشجَّع أبناؤنا على التعليم بالاشتراك، والذي يعني "ربط الموارد الثرية في الجامعات بالمشاكل الأخلاقية والأكثر إلحاحا اجتماعيا، وبأطفالنا، بمدارسنا، بمعلمينا، بمدننا. عمَّا نحتاج له على المستوى الأكثر عمقاً يتجاوز مجرد زيادة البرامج.إنَّنا نحتاج إلى هدف أكبر، وإلى شعور أكبر بالرسالة، وضوح أكبر لتوجه حياة الأمة، طلابنا بحاجة إلى "المهارات الناعمة"؛ مثل: مهارة التعلم الذاتي، ومهارات التفكير الإبداعي، ومهارة التواصل مع الآخرين والإقناع، ومهارات الاستذكار والنجاح الدراسي، ومهارات المحافظة على الصحة الجسدية، ومهارة البحث العلمي، ومهارات ذاتية أخرى؛ مثل: مهارة حل المشكلات، ضبط الذات، تنظيم الوقت، التعامل مع الحزن والفرح. طلابنا بحاجة لتعلم مهارات التفكير الإبداعي "التفكير خارج الصندوق"، والتفكير النقدي "التفكير العقلاني غير المُتحيِّز"، والتفكير التحليلي؛ إذ إن "الشهادة ورقة تثبت أنك متعلم، لكنها لا تثبت أنك تفهم" كما قال نيلسون مانديلا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الرحمة قبل التعليم
من المواقف التي لم أستطع تجاوزها أو نسيانها، موقف واجهته أثناء عملي في الإشراف التربوي في التعليم العام. ففي إحدى زياراتي المعتادة لمدرسة ابتدائية في قرية نائية، وكان من عادتي عند دخولي أي مدرسة في بداية اليوم الدراسي البدء بزيارة الفصول الدراسية مباشرة، قبل الذهاب إلى مكتب مدير المدرسة لاحتساء القهوة أو الشاي، فطلبت من مدير المدرسة أن أرافقه في جولة على الفصول، فبدأنا بالصف الأول الابتدائي، ولفت انتباهي نظافة سبورة الفصل من أي كتابة للمعلم أو الطلاب، فضلا عن هندام وهيئة المعلم، حيث كان شابًا يبدو جديدا على المهنة، أو ربما كانت المهنة لا تزال جديدة عليه، وهذا ما دعاني أن استأذن منه لحضور ما تبقى من الحصة، وطلبت من مدير المدرسة أن يتركني في الفصل مع المعلم وطلابه، ثم أخذت كرسيًّا وجلست في آخر الفصل حيث أستطيع أن أرى ما لا يُرى من المقدمة.
كان المعلم يقف عند السبورة بثوب أبيض جديد وشماغ وعقال في غاية الأناقة، وعطر يفوح في أرجاء الفصل، ولكن بدأت تظهر عليه علامات الارتباك، فخشيت أن يكون وجودي يشكل عبئًا عليه، فقلت له بهدوء : “استمر، أنا هنا لأتعلم منك ومن طلابك”.
وبينما كان يكتب على السبورة كلمة “باب”، كنت أتصفح كراسات الأطفال الذين بجانبي، أبحث في تفاصيل واجباتهم عن أثر يد تربوية، أو عبارات تشجيعية تحفزهم أو تعزز بداياتهم، ولكنني فوجئت بشيء آخر، ففي إحدى صفحات كتاب طفل هزيل الجسد، ثيابه رثة، وجسمه نحيل، وبالكاد يرفع عينيه، وجدت رسالة كتبتها أمه بيد مرتجفة، وقلب مكسور، قالت فيها: “أرجوك يا أستاذ، لا تضرب ولدي فهو كل ما أملك أنا وأختاه، وهو أملنا الوحيد بعد الله تعالى، منذ أن اختطف الموت والده من بيننا. لقد بات يخاف من الليل، يصرخ في نومه، ويتبول على نفسه من شدة الخوف. أناشدك أن ترأف بحاله، فقد أنهكته الحياة بما يكفي، ولم يعد يحتمل قسوة فوق قسوة اليُتم”.
رفعت نظري إلى المعلم، ونهضت من مكاني، فاقتربت منه عند السبورة بهدوء، ثم فتحت الكتاب وأريته الرسالة، وسألته: “هل قرأت هذه الرسالة ؟!”. تفاجأ، وبدا عليه الذهول، وأكد أنه لم يرها من قبل، ثم ساد الفصل صمت ثقيل، ومع ذلك لم أُعنّفه أو ألقي عليه محاضرة، بل اتجهت إلى الطلاب ثم بدأت أسألهم وأطلب منهم الكتابة على السبورة، وتعمّدت أن أسأل بعضهم قبل أن أوجه سؤالي إلى هذا الطفل، وأطلب منه أن يكتب اسمه على السبورة؛ كي أطلب من الطلاب تحيته والتصفيق له، علّي أبعث في نفسه الثقة من جديد.
وعندئذ شعرت أنني لم أعد مشرفا تربويًا فحسب، بل يجب عليّ أن أكون أبًا، وقطعت على نفسي عهدا أن أكون الأب الذي يحتاجه هذا الطفل، حتى تستقيم له الحياة من جديد.
ثم خرجت من الفصل والكتاب في يدي، ولكن قد لا تسمح هذه المساحة لسرد ما تبقى من هذه القصة أو حتى بقية التفاصيل، لكنني أطمئنكم أنه وبفضل الله تعالى، فإنّ نظام وزارة التعليم لدينا يكفل لهذا الطفل ولغيره تعليم آمن مستقر، وأنه بمجرد تطبيق الدليل الإجرائي لقضايا شاغلي الوظائف التعليمية على أي حالة مثل هذه الحالة، فستنام هذه الأم قريرة العين آمنة مطمئنة، وهذا يحسب لوزارة التعليم، وهو ما جعل كثيرا من وزارت التعليم في دول كثيرة تراقب اتجاه بوصلة تعليمنا في مجالات عدة، ومن بينها مجال حفظ حقوق الطلاب والطالبات الإنسانية لتقتدي بها وتتجه معها أينما اتجهت، لكنني أردت أن أقول: إن هذا الموقف ترك في قلبي ألمًا ما يزال يتكرر كلما استحضرت ذاكرتي هذا الموقف، وأعاد إليّ يقيني أن التعليم ليس وظيفة، بل رسالة إنسانية سامية.
ومن هنا، أشيد بقرار وزارة التعليم في إسناد مهمة تدريس الصفوف المبكرة إلى المعلمات، فصبرهن، وفطرتهن الرحيمة هي ما يحتاجه الأطفال في بداياتهم؛ لأن التعليم ليس مجرد كتابة وقراءة الحروف والأرقام فحسب، بل هو أول شعور بالأمان في مدرسة الحياة، التي تتطلب منا أن تكون الرحمة قبل التربية والتعليم.
al_mosaily @