لجريدة عمان:
2025-05-28@16:29:56 GMT

نوافذ: المعنى يُضيء من جراحهم

تاريخ النشر: 21st, January 2024 GMT

طاروا بواسطة «كابلات» كهربائية، حلّقوا لثوانٍ ضاحكين في الهواء رافعين حزنهم وأجسادهم الجائعة والباردة لوقت ضئيل من عمر الكارثة المُحدقة بهم من كل صوب، قطفوا بهجة صغيرة من سماء مفتوحة على النيران والأنين.

شاهدتُ ذلك الفيديو لأطفال فلسطينيين سُعداء في ظل ظروف قاسية حدّ الموت، فاعتمل في قلبي السؤال حول لغز الطبيعة البشرية المُعقدة! فما الذي يدفعُ الإنسان في مكان معدوم الصلاحية أن يعثر على بهجة ما؟ هل وجد الفلسطينيون معنىً لصلابتهم المتينة، معنىً للأرض التي لم ييأسوا من استعادتها يوما بإيمان قلّ نظيره؟

لطالما انشغلنا بتحسين أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية، كأنّ ذلك سيعني لا محالة أنّ كل شيء على ما يرام.

لكن في حقيقة الأمر، عندما انحسر صراع الإنسان مع الطبيعة من أجل البقاء، ظهر سؤال جديد: البقاء من أجل ماذا؟ إذ تتوفر اليوم وسائل الرفاهية في حدودها القصوى قياسا بتجربة البشرية على وجه البسيطة، لكن ما المعنى الذي نعيشُ من أجله! هذا ما يتناوله كتاب: «صرخة من أجل المعنى» للكاتب فيكتور إميل فرانكل، ت: عبدالمقصود عبدالكريم.

يجد فرانكل أنّ انهيار التقاليد عامل رئيسي في تفسير الفراغ الوجودي الذي يُكابده إنسان اليوم المنزوع من روابطه الأشد عمقا ومتانة، فما بالك بانهيار قيم الأخلاق التي تُوقعنا في هوة سحيقة من الابتذال؟

يُدهشني الفلسطينيون كل يوم وهم يتخطون حدود الفانتازيا، ويعبرون آلامهم وأنهار دموعهم في وداع أحبتهم وذكرياتهم، بل يبتكرون أساليب تعينهم على العيش وعلى التشبث بالحياة، الأمر الذي يؤكد أنّ الرفاهية ليست وحدها ما يحدد «معنى» وجودنا وجدواه، الأمر الذي يُذكرنا بما قاله ألبير كامو بأنّ مشاكل الإنسان تعود إلى حكمنا على الحياة إن كانت تستحق أن تُعاش أم لا!

يقول جيري ماندل: «لقد حرمتنا التكنولوجيا من الحاجة إلى استخدام مهاراتنا التي تتعلق بالبقاء على قيد الحياة»، لكننا وفي ظل انعدام الرفاه شاهدنا الفلسطينيين يُعيدون ابتكار وسائل العيش من الصفر الكبير، المأوى والملبس والطعام. «يُضيئون من جراحهم» كما قرأتُ مرّة لابن عربي، ويتآزرون فيما بينهم، توحدهم الكارثة والموت والخسارة اللامحدودة.

يُخرجُ الإنسان الذي يمتلكُ معنىً للعيش أفضل ما لديه، وإلا فسوف ينجرف ويتدهور كما يقول فرانكل. لكن علينا ألا نخلط بين الدوافع العابرة كالرغبات السطحية التي ما إن تُلبى تخفت، وبين المعاني الأشد رسوخا وعمقا. «فالغايات» الكبرى، كمشروع تحرير وطن مُغتصب لعقود طويلة، نضال توارثه الأبناء عن الأجداد الذين تركوا مفاتيح بيوتهم في عهدة جيل جديد، رغم محاولات العالم لمحو هذا «المعنى» وتشويهه في الصميم. ولعلي أسأل ها هنا بحدّة وحرقة عن الآخر الهمجي الدموي والمغتصب إن كان يمتلكُ «معنى» ما لوجوده على أرض ليست له؟ أظنه سيكون «المعنى» الأكثر زيفا وتلفيقا لتبرير التوحش الآثم. نحن معتادون على اكتشاف المعنى في ابتكار عمل جديد أو تجربة مغايرة، ولكن يجب ألا ننسى -بحسب فرانكل- أننا يمكن أن نجد المعنى ونحن نواجه موقفا ميؤوسا منه أو حين يواجه الضحية مصيرا لا يمكن تغييره.. هكذا تتحول المأساة الشخصية إلى إنجاز إنساني. ألم تقل إليزابيث كبلر روس: «الموت هو المرحلة الأخيرة من النمو الإنساني»؟ مما يعني أننا في رحلة نمو مستمرة نحو الفهم والإدراك. هكذا تستثمرُ قيمة «المعنى» حتى في المعاناة والموت.

ولقد رأيتُ صورة شديدة الوضوح لهذا في استقبال أمهات الشهداء لخبر استشهاد الأبناء. في البداية ظننتُ أنّ المجتمعات تدفعهن لتمثل هذه الصورة، تدفعهن لادخار أوجاعهن لخلوة شخصية كيلا تُنتزع «صورة الشهادة» من مضامينها ومن مركزيتها الفاتنة، ولكن وكما يبدو لم أكن على صواب تماما في جنوحي لهذا الرأي، فالإيمان العميق بالحياة الأخرى الأكثر رفعة في المكان الأسمى، هو الذي أعطى القيمة لهذا الموت وهذه الخسارة.

على الرغم من أنّه لو قُدر لأحدنا أن يختار لما اختار حياة مُرعبة كهذه، لكنهم أمام الحتمية يُظهرون معدنهم، يُضيئون من جراحهم العميقة، بكل ما في جوهرهم من معنى.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذی ی

إقرأ أيضاً:

هل يتلبّس الجِنيُّ بجسد الإنسان؟

 

بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
سُئل سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام لسلطنة عُمان، عن قضيّة تلبس الجن بالإنس فأجاب في مقطع مرئي منشور على "يوتيوب" بأنّ "هذه القضية العلماء وقفوا منها موقفيْن: منهم من قال بدخول الجن في جسم الإنس لأن أجسامهم أجسام لطيفة، أي هم أقرب إلى الروحانيّة، فلذلك يتمكنون من الدخول. ومنهم من قال بعدم دخولهم لأنهم ولو كانت أجسامهم لطيفة، إلا أنهم أجسام، فلا يتلبس جسم بجسم. ولكن مع ذلك هناك تأثير من حيث الإيحاء، فقد يتكلم الإنسان كلامًا يوحيه إليه الجني الذي تلبس به بطاقته الروحانيّة، لا بدخوله إلى جسمه حسبما يبدو، وإنما يؤثر عليه تأثيرا حتى يتحدث بما يتحدث به..".
منذ فجر التاريخ، لم تنفكّ البشرية عن رواية القصص الغريبة التي تنسب حالات استثنائية من السلوك البشري إلى قوى خفية غير مرئية. وعلى الرغم من اختلاف الأديان والثقافات، ظلّ الاعتقاد بإمكانية "تلبّس الجن" بجسد الإنسان واحدًا من أكثر المعتقدات رسوخًا في الخيال الجمعي البشري. لكن أمام تطوّر العلوم الطبية والنفسية، برز سؤال جوهري: هل نحن فعلًا أمام كائن غيبي يقتحم الجسد، أم أمام اضطرابات عقلية نُسقط عليها تفسيرات غير مادية؟
في المنظور الإسلامي، يُعدّ الإيمان بالجن جزءًا من العقيدة، وقد خُصصت لهم سورة كاملة في القرآن. كما يُستشهد بآيات مثل قوله تعالى "الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ" لتأكيد فكرة التلبُّس. وقد تباينت آراء العلماء في هذه الفكرة، فابن تيمية وابن القيم يَرَيَان التلبُّس أمرًا ثابتًا شرعًا وواقعًا. أما الإمام الشافعي، وبعض المفكرين المعاصرين، فيرون أن تلك الحالات أقرب إلى الأمراض النفسية، وأن الشيطان يؤثِّر بالوسوسة لا بالدخول الحرفي إلى الجسد.
وفي المسيحية، تروي الأناجيل قصصًا عديدة عن قيام المسيح بطرد الأرواح الشريرة من أجساد المرضى، كما هو الحال في قصة المجنون الجرجسي أو الصبي المصروع. الكنيسة الكاثوليكية ما زالت تمارس طقوس "الإكسورسيزم" رسميًا، بينما تختلف المذاهب الأخرى في التفسير، بين تأويلات روحية وأخرى نفسية. وفي اليهودية، يظهر مفهوم "الديبوك"، ويعني روح الميت التي تسكن جسد الحي، بينما نجد في الديانات الهندوسية والبوذية والأفريقية طقوسًا يُنظر فيها إلى "تلبّس الروح" لا كشرّ؛ بل كوسيلة للتواصل مع المقدّس.
لكن العلم الحديث، بما فيه من تقدم في مجالات الطب النفسي وعلم الأعصاب، يقدّم تفسيرات مختلفة تمامًا؛ فحالات الفصام، مثلًا، قد تفسّر هلوسات الأصوات والتغيرات في الشخصية. بينما يشرح "اضطراب الهوية الانشقاقي" تعدُّد الشخصيات التي قد يتحدث بعضها بلغات مختلفة. كذلك نوبات الصرع، خاصةً تلك المرتبطة بالفص الصدغي، يُمكن أن تولِّد سلوكًا غريبًا أو تشنُّجات عنيفة تبدو للعين المُجرَّدة كتلبُّسٍ. وتبرُز أيضًا مُتلازمة "توريت"، التي تُنتج ألفاظًا لا إرادية وأفعالًا حادة قد تُفسّر شعبيًا كتصرّف شيطاني.
ما يهُم في الطرح العلمي هو أن التجربة التي يمر بها الشخص المتلبّس ليست محل إنكار، وإنما تختلف حولها التأويلات. ففي دراسة نُشرت في مجلة علم النفس عام 2021، تبيّن أن كثيرًا من مرضى الفصام الذين يؤمنون بأنهم "مسكونون" قد تأخروا في تلقّي العلاج الطبي بسبب تفسيرهم الروحي للحالة. ولهذا، يدعو الأطباء إلى اعتماد نهج متكامل يحترم المعتقدات الثقافية للمريض، دون أن يغفل الحاجة إلى العلاج الدوائي والنفسي.
وهذا ما أكد عليه سماحة الشيخ الخليلي عندما قال إنّ "هذه القضيّة لا ننكر وقوعها، إلّا أن ذلك قد رُوِّج له ترويجًا عجيبًا عند الناس، وهذا الذي جعل الناس يتأثرون تأثرًا نفسيًا عجيبًا وتترادف عليهم الأمراض النفسيّة، وتكثر عندهم الأوهام، وتشيع عندهم الخيالات، حتى يتحدث الإنسان بأنه رأى كذا ورأى كذا، وأنه يحس بكذا في حالة نومه أو في حالة انفراده أو في غير ذلك من أنواع الحالات. هذا إنما هو غالبًا ناشئ عن حالات نفسيّة، وقد كان الواجب أن تكافح هذه الأمور نفسيا بحيث يعوُّد الناس على التصلّب". 
أما الفلسفة فتتعمّق بدورها في طرح أسئلة حول هذه الظاهرة، وإن كانت من زوايا أكثر تجريدية: هل هناك ذات واحدة أم ذوات متعددة داخل الإنسان؟ وهل يمكن لكيان غير مادي أن يحلّ محلّ الوعي الإنساني؟ تحدث ديكارت في فلسفته حول "ثنائية العقل والجسد"، وفي ضوء هذه الفلسفة، يمكن تخيّل التلبّس أنه نوع من حلول وعي آخر في الجسد. لكن المدارس المادية ترفض هذا تمامًا، وترى أن الوعي لا يمكن فصله عن الدماغ المادي. بينما ترى الفلسفات المعاصرة أن الذات قد تكون مرنة ومتغيرة، وأن ما نسميه "تلبُّسًا" ربما يكون فقط تعبيرًا رمزيًا عن تشظي النفس بفعل الصدمة أو الكبت أو الانفصال عن الواقع.
الشهادات الواقعية تحكي قصصا عن شباب وفتيات تغيرت أصواتهم، وتحدثوا بلغات لم يعرفوها من قبل، ثم "شُفوا" بعد الرقية الشرعية في العالم الإسلامي أو بعد التراتيل الإنجيليّة في العالم المسيحي. لكن الأطباء يحذرون من الخلط بين تحسُّن نفسي مؤقت ناتج عن الدعم الروحي، وبين شفاء حقيقي يحتاج إلى علاج مهني.
لا يمكن للعلم أن يلغي الغيب، كما لا يجوز أن يحتكر الدينُ تأويلَ كل ما هو غامض. وتبقى الظاهرة قائمة، تعكس ما هو أعمق من مجرد تفسير؛ بل تمتد إلى ما يشبه الخريطة الوجدانية للعقل البشري. وبين من يراها تجليًا للروح، ومن يفسّرها بانهيار كيميائي في الدماغ، تظلّ الحقيقة رهينة الحوار بين العقول، والإنصات إلى التجربة، والاعتراف بأن بعض الأسئلة لا تحتاج إلى إجابة نهائية؛ بل إلى فهم أعمق لما نجهله.
 

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • هل يتلبّس الجِنيُّ بجسد الإنسان؟
  • ظاهرة غريبة بالصويرة.. الرمال تزحف على المجال الحضري ومطالب بتدخل العامل الجديد (صور)
  • تعرف على السلطان الأحمر الذي أسس الدولة البوليسية في سوريا
  • هل على نتنياهو أن يخشى من جيل الأطفال الذي شهد الإبادة؟
  • ما سر الجسم المجنح الذي ظهر أعلى الشمس في صور ناسا؟
  • صمت العقل
  • هل تعرف ما الذي يخبئه لك برجك؟.. حظك اليوم الثلاثاء 27 مايو
  • أحمد المعشني .. التطواف حيث يكون للشعر معنى مختلف
  • قرش الحوت.. العملاق الودود الذي يواجه خطر الانقراض
  • ما وراء الخبر.. ما الذي يقوله الهجوم الروسي الواسع على أوكرانيا؟