لجريدة عمان:
2025-10-25@22:29:23 GMT

نوافذ: المعنى يُضيء من جراحهم

تاريخ النشر: 21st, January 2024 GMT

طاروا بواسطة «كابلات» كهربائية، حلّقوا لثوانٍ ضاحكين في الهواء رافعين حزنهم وأجسادهم الجائعة والباردة لوقت ضئيل من عمر الكارثة المُحدقة بهم من كل صوب، قطفوا بهجة صغيرة من سماء مفتوحة على النيران والأنين.

شاهدتُ ذلك الفيديو لأطفال فلسطينيين سُعداء في ظل ظروف قاسية حدّ الموت، فاعتمل في قلبي السؤال حول لغز الطبيعة البشرية المُعقدة! فما الذي يدفعُ الإنسان في مكان معدوم الصلاحية أن يعثر على بهجة ما؟ هل وجد الفلسطينيون معنىً لصلابتهم المتينة، معنىً للأرض التي لم ييأسوا من استعادتها يوما بإيمان قلّ نظيره؟

لطالما انشغلنا بتحسين أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية، كأنّ ذلك سيعني لا محالة أنّ كل شيء على ما يرام.

لكن في حقيقة الأمر، عندما انحسر صراع الإنسان مع الطبيعة من أجل البقاء، ظهر سؤال جديد: البقاء من أجل ماذا؟ إذ تتوفر اليوم وسائل الرفاهية في حدودها القصوى قياسا بتجربة البشرية على وجه البسيطة، لكن ما المعنى الذي نعيشُ من أجله! هذا ما يتناوله كتاب: «صرخة من أجل المعنى» للكاتب فيكتور إميل فرانكل، ت: عبدالمقصود عبدالكريم.

يجد فرانكل أنّ انهيار التقاليد عامل رئيسي في تفسير الفراغ الوجودي الذي يُكابده إنسان اليوم المنزوع من روابطه الأشد عمقا ومتانة، فما بالك بانهيار قيم الأخلاق التي تُوقعنا في هوة سحيقة من الابتذال؟

يُدهشني الفلسطينيون كل يوم وهم يتخطون حدود الفانتازيا، ويعبرون آلامهم وأنهار دموعهم في وداع أحبتهم وذكرياتهم، بل يبتكرون أساليب تعينهم على العيش وعلى التشبث بالحياة، الأمر الذي يؤكد أنّ الرفاهية ليست وحدها ما يحدد «معنى» وجودنا وجدواه، الأمر الذي يُذكرنا بما قاله ألبير كامو بأنّ مشاكل الإنسان تعود إلى حكمنا على الحياة إن كانت تستحق أن تُعاش أم لا!

يقول جيري ماندل: «لقد حرمتنا التكنولوجيا من الحاجة إلى استخدام مهاراتنا التي تتعلق بالبقاء على قيد الحياة»، لكننا وفي ظل انعدام الرفاه شاهدنا الفلسطينيين يُعيدون ابتكار وسائل العيش من الصفر الكبير، المأوى والملبس والطعام. «يُضيئون من جراحهم» كما قرأتُ مرّة لابن عربي، ويتآزرون فيما بينهم، توحدهم الكارثة والموت والخسارة اللامحدودة.

يُخرجُ الإنسان الذي يمتلكُ معنىً للعيش أفضل ما لديه، وإلا فسوف ينجرف ويتدهور كما يقول فرانكل. لكن علينا ألا نخلط بين الدوافع العابرة كالرغبات السطحية التي ما إن تُلبى تخفت، وبين المعاني الأشد رسوخا وعمقا. «فالغايات» الكبرى، كمشروع تحرير وطن مُغتصب لعقود طويلة، نضال توارثه الأبناء عن الأجداد الذين تركوا مفاتيح بيوتهم في عهدة جيل جديد، رغم محاولات العالم لمحو هذا «المعنى» وتشويهه في الصميم. ولعلي أسأل ها هنا بحدّة وحرقة عن الآخر الهمجي الدموي والمغتصب إن كان يمتلكُ «معنى» ما لوجوده على أرض ليست له؟ أظنه سيكون «المعنى» الأكثر زيفا وتلفيقا لتبرير التوحش الآثم. نحن معتادون على اكتشاف المعنى في ابتكار عمل جديد أو تجربة مغايرة، ولكن يجب ألا ننسى -بحسب فرانكل- أننا يمكن أن نجد المعنى ونحن نواجه موقفا ميؤوسا منه أو حين يواجه الضحية مصيرا لا يمكن تغييره.. هكذا تتحول المأساة الشخصية إلى إنجاز إنساني. ألم تقل إليزابيث كبلر روس: «الموت هو المرحلة الأخيرة من النمو الإنساني»؟ مما يعني أننا في رحلة نمو مستمرة نحو الفهم والإدراك. هكذا تستثمرُ قيمة «المعنى» حتى في المعاناة والموت.

ولقد رأيتُ صورة شديدة الوضوح لهذا في استقبال أمهات الشهداء لخبر استشهاد الأبناء. في البداية ظننتُ أنّ المجتمعات تدفعهن لتمثل هذه الصورة، تدفعهن لادخار أوجاعهن لخلوة شخصية كيلا تُنتزع «صورة الشهادة» من مضامينها ومن مركزيتها الفاتنة، ولكن وكما يبدو لم أكن على صواب تماما في جنوحي لهذا الرأي، فالإيمان العميق بالحياة الأخرى الأكثر رفعة في المكان الأسمى، هو الذي أعطى القيمة لهذا الموت وهذه الخسارة.

على الرغم من أنّه لو قُدر لأحدنا أن يختار لما اختار حياة مُرعبة كهذه، لكنهم أمام الحتمية يُظهرون معدنهم، يُضيئون من جراحهم العميقة، بكل ما في جوهرهم من معنى.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذی ی

إقرأ أيضاً:

شلقم في مذكراته.. المثقف الذي أفْلَتَ من الموظف

لن تطالع المذكرات التي صدرت للوزير عبد الرحمن شلقم في العاصمة طرابلس، إلا وستتذكر مذكرات أخرى صدرت للوزير أمين هويدي في القاهرة.

كان الوزير هويدي قد أصدر مذكراته «خمسون عاماً من العواصف… ما رأيته قُلته». وما أذكره الآن أن الشق الثاني من العنوان قد استوقفني يوم صدورها، بأكثر مما استوقفني الشق الأول فيه، وكان السبب أن الرجل قد عاهد القارئ منذ الغلاف الأول للكتاب، أن ما سوف يطالعه من الغلاف إلى الغلاف، هو ما رآه الكاتب بعينيه وعايشه بنفسه، لا ما سمع عنه، ولا ما تناقله واحد عن واحد وصولاً إليه.

وهذا تقريباً هو ما سوف تجده في مذكرات عبد الرحمن شلقم، وبغير أن يذكر ذلك في عنوان مذكراته. فعنوانها من كلمة واحدة هي «سنواتي» وصدورها كان عن دار الفرجاني، وصفحاتها تقترب من 500 من القطع الكبير، ولو شاء صاحبها لجعلها ضعف هذا الرقم، بل وأضعافه، ولكنه اكتفى برؤوس عناوين تفتح لك بعضاً مما عاش يستغلق عليك في بلد العقيد القذافي.

سوف ترى أن صاحب المذكرات يحكي ما رآه، ويروي ما كان طرفاً فيه، ويقول ما سمعه بأُذنيه، وما عدا ذلك يتركه للذين كانوا طرفاً فيه يوم وقع. وسوف يأخذك في رحلة أدبية سياسية من سبها عاصمة إقليم فزان، حيث نشأ في إحدى قراها في الجنوب الليبي، إلى أعلى ذروة بلغها في العمل السياسي متنقلاً بين طرابلس نفسها، عندما بدأ عمله في إعلام مجلس قيادة الثورة، إلى روما، حيث صار سفيراً لبلاده لإحدى عشرة سنة، إلى طرابلس من جديد، حيث أصبح على رأس وزارة الخارجية لتسع سنوات، إلى الأمم المتحدة في نيويورك حين استقر به المُقام مندوباً لبلاده ورئيساً لوفدها في المنظمة الدولية. ما بين قرية الغريفة في سبها، وبين العمل في إعلام قيادة الثورة، كان قد درس الصحافة في جامعة القاهرة، وكان قد رأى كيف أن المجتمع الثقافي المصري ممتلئ بالحيوية، رغم أن الأجواء وقت دراسته كانت أجواء هزيمة في 1967. ولكن الذي رآه وعاشه في قاهرة المعز طوال سنوات الدراسة، كان يقول له إن هذا مجتمع يستعصي على الهزيمة، وإنه سرعان ما سوف يرفع عارها عن هامته. وقد جرى هذا سريعاً في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، عندما انتفض الجيش المصري على طول جبهة القتال الممتدة ما امتدت القناة، ومع الجيش انتفض كل مصري، ومعه كل عربي أبى إلا أن يشارك في معركة العبور.

أعود لأقول إن متعة القارئ في هذه المذكرات مضمونة، وإنه سيطالع نصاً أدبياً بقدر ما سوف يطالع مذكرات سياسية مروية، وإن صاحب المذكرات كان مشدوداً طول الوقت إلى دواوين المتنبي وأبو تمام وشوقي، وكان يتذوق الكلمة ويعرف أسرار التعبير بها، وكان كلما ضاقت به الحياة، أو ضاق هو بها على رأي طه حسين، عاد إلى مكتبته التي جمع فيها ثروة من الكتب عاش يراها أعلى من ثروة المال. سوف تكتشف أنه بجوار الغرام الذي يجمعه بالقراءة، والمتعة التي يجدها في القراءة لأجل القراءة في حد ذاتها، فإنه محقق لبعض المخطوطات، وشاعر أصدر ديوانين، وعازف على آلة العود، وفوق ذلك فهو محب للحياة.

ربطته علاقة من نوع خاص بالعقيد منذ البداية، وكان بينهما طول الوقت ما يشبه شعرة معاوية، وأعطاه القذافي مساحة يتحرك فيها بالقرب منه، لم يمنحها لآخرين كثيرين مما كانوا قريبين منه أيضاً ثم صاروا أبعد الناس. كان شلقم يعرف متى يخاطب العقيد في أمر ما، وكيف يختار المدخل المناسب في المخاطبة، ولو اختار المحيطون بالقذافي المداخل نفسها، لربما تغير تاريخ ليبيا في الإجمال.

كثيرون حول العالم سمعوا بالقذافي أو قرأوا عنه، وقد جاء عليه وقت ملأ فيه الدنيا وشغل الناس، وكان ذلك عن طريق كتابه الأخضر مرة، أو من خلال نظريته الثالثة التي طرحها في الكتاب مرةً ثانية، أو يوم آمن بالوحدة العربية كفكرة عاش يحب أن يراها حية أمامه مرةً ثالثة، لا كفكرة نظرية هائمة في فضاء الكون، ثم عندما استدار إلى الاتحاد الأفريقي بديلاً عن الوحدة العربية مرةً رابعة. ولا أظن أن الوزير شلقم قد بالغ كثيراً وهو يتأمل القذافي كحالة، ثم يتمثل بيت الشعر الذي أطلقه أبو الطيب فقال:

وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ

المشكلة لدى القذافي لم تكن في أفكاره، ولكنها كانت في طريقته، وفي أسلوبه، وفي مفرداته، ولقد صح منه العزم في كل حالاته ولكن الدهر أبى، ولو صادف ناصحاً أميناً من نوع عبد الرحمن شلقم بالقرب منه، لكانت الدنيا معه غير الدنيا.

عرف شلقم القذافي فكتب يقول: الأخ العقيد كان قطعة خاصة من الزمن. سنة فيها كل الفصول ببردها، وحرارتها، وتقلبات أجوائها، لكن كل الفصول قد تتداخل مناخاتها في يوم واحد، بل أحياناً في أقل من ساعة واحدة. وعرف عمر البشير فكتب يقول: لكل زمن في السودان مهدي، وأزهري، وعبود، ونميري، وبشير، وترابي، وبرهان أيضاً. ظلت السلطة هي المبتغى، والدبابة هي السلم، والإسلام السياسي هو وقودها. الديمقراطية فترة استراحة قصيرة بين أشواط التدافع الانقلابي. وعرف الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز فكتب يقول: فنزويلا تمتلك في باطن أرضها أكبر مخزون نفط، وفوق الأرض أكبر مخزون من التعساء.

لو لم يكن صاحب المذكرات سياسياً لكان أديباً، ولا بد أن غرامه بالشعر مرة، وبالموسيقى مرةً أخرى، كان علامة على أن الأدب ظل يزاحم السياسة فيه، ولكنه حاول أن يعدُل بينهما كما يحاول الرجل أن يعدل بين زوجتين.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

مقالات مشابهة

  • إصابات وتحطيم نوافذ وحرق مركبة في هجوم للمستوطنين على صوريف
  • منال الشرقاوي تكتب: فيلم «الحجر/ STONE» بيت بلا نوافذ وزمن لا يتقدم
  • الشهادة حياة
  • معاناة غزة .. حكاية إنسانية تُجسد معنى الصبر والإصرار في وجه الحصار
  • تعرف على معنى ربا النسيئة وحكمه
  • "وطن السلام" مبادرة فنية تجمع نجوم الفن المصري في فيلم وثائقي واحتفالية غنائية عن معنى السلام
  • معنى الوسيلة ومواضع ذكرها في القرآن الكريم والسُنة
  • شلقم في مذكراته.. المثقف الذي أفْلَتَ من الموظف
  • ياسر شوري: الإخوان لا يعرفون معنى الوطن ويعملون ضد مصالح مصر
  • أستاذة الأنثروبولوجيا باربرا كينغ للجزيرة نت: الحيوانات تدرك معنى الحزن والفقد