منال الشرقاوي تكتب: فيلم «الحجر/ STONE» بيت بلا نوافذ وزمن لا يتقدم
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
في فيلمه «الحجر/ STONE» يقدم المخرج التونسي كريم برهومة حكاية امرأة تحاصرها نفسها كما يحاصرها المكان. حيث تدور القصة حول ليلى التي تعيش عزلة قاسية، ترافقها صديقتها سلمى وتحاول إنقاذها بمساعدة صديق قديم هو أكرم، طبيب نفسي. ومع تقدم الجلسات، يتكشف «السر» الذي يكثف هذا الصمت.
الفيلم من كتابة وإخراج كريم برهومة، تصوير أمين الذوادي، مونتاج دوريد بنزرتي، موسيقى إسحاق حدور، إنتاج نجلاء الباروني ومجدي الحسيني.
من الحجر كجِرم إلى الحجر كحالة
العنوان ثنائي اللغة يحمل دلالتين متداخلتين. كلمة «الحجر» بالعربية تستدعي معنى المنع والعجز عن الفعل، كما تستدعي في الوقت نفسه الثقل والجمود والصمت. أما «Stone» فتشير إلى المادة البكماء التي لا تفصح بسهولة. هذا التعدد يفتح مجال القراءة، فالفيلم يحرك حجارة ثلاثية المعنى، حجر في الذاكرة يثقلها، وحجر في الجسد يشل الإرادة، وحجر في المكان يحول البيت إلى صخرة يسكن داخلها كائن بشري.
الفضاء الحميمي بوصفه سجنًا
البيت في «STONE» يعمل كجهاز نفسي يترجم اضطراب البطلة. يستعيد المخرج تصور جاستون باشلار للبيت بوصفه "قوقعة الوجود"، لكنه يعيد تشكيله كقوقعة خانقة تنغلق على ساكنها. هنا تتجلى دراماتورجيا المكان، حيث يستخدم الفضاء كعنصر فاعل في تكوين الأحداث الدرامي والنفسي.
يتعاون كريم برهومة مع مدير التصوير أمين الذوادي على استخدام تضييق العمق البؤري وزوايا الكاميرا المغلقة ليجعل المشاهد يعيش الانفصال نفسه الذي تعانيه البطلة. أما الصمت الممدود وأصوات التنفس والخطوات فيعملان كنبض داخلي يعيد تذكيرنا بأن الزمن النفسي لليلى لا يسير إلى الأمام لكنه يدور حول جرح لم يغلق بعد.
يعمل فريق الديكور على بناء فضاء قائم على وحدات مربعة متكررة، أرضيات متقاطعة، فيشعر المشاهد أن كل شيء محسوب هندسيًا لإغلاق الأفق. النوافذ محجوبة بستائر سميكة تعزل ليلى عن الشارع، فلا تراه ولا تسمح للنور بالدخول. هذا الاختناق البصري يترجم حالتها النفسية، ويجعل الداخل مرآة للعزلة التي تسكنها.
الإضاءة المائلة إلى الظل تترك مناطق غير مرئية في الكادر، فتبدو الحقيقة دائمًا خارج الإطار. المونتير دوريد بنزرتي يضيف بإيقاعه البطيء بعدًا زمانيًا لهذا الاختناق، بينما تصميم الصوت يعيد ارتداد الأنفاس داخل الغرفة المغلقة.
بهذه العناصر يتشكل المكان ككائن درامي مستقل، نبضه يتطابق مع اضطراب البطلة، وفضاؤه يتحول إلى استعارة حسية للاكتئاب، بيت مألوف في مظهره، لكنه متاهة مغلقة.
الصوت بوصفه ذاكرة ثانية
يوظف «STONE» الصوت كامتداد للذاكرة، مساحة سمعية تتحرك بين التهديد والملاذ. الصمت هنا له حضور مكثف في صورته الخفية؛ صمت يلتف حول الجسد ويكشف خوفه الداخلي. الأصوات القريبة من الواقع اليومي -صرير الباب، وقع الخطوات، تنفس متقطع- تضخم أو تعزل عن محيطها لتقريب المسافة بين المتفرج والعالم النفسي للبطلة. يدخل الصوت في علاقة عضوية مع الصورة، فيحمل ما تعجز الصورة عن قوله. الموسيقى التي وضعها إسحاق حدور تأتي باقتصاد واضح، تعمل كقيد رقيق يضبط الانهيار ويؤطر الانفعال من دون أن تفسره. بهذه المعالجة يتحول المجال السمعي إلى ذاكرة ثانية تحفظ آثار الألم وتمنح الصمت شكله السردي داخل البناء النفسي للفيلم، ليصبح الصوت جزءًا من إيقاع الأثر نفسه، امتدادًا زمنيًا لما لا يقال وما يظل عالقًا بين الصمت والاعتراف.
الشخصيات: رعاية على الحافة
تقدم ميساء ساسي في دور ليلى أداء يعتمد على الصمت أكثر من الكلام، وعلى الجسد أكثر من اللغة. ليلى ليست حالة مرضية بقدر ما هي ذات تتشظى من الداخل، امرأة تحاول أن تستعيد توازنها في مواجهة خوف لا اسم له. كل حركة بطيئة، كل نظرة معلقة، تبدو كأنها مقاومة صغيرة للانهيار.
في المقابل تؤدي نجلاء الباروني شخصية سلمى بحس إنساني دافئ، تجسد من خلالها فكرة الرعاية كفعل يومي متكرر، سؤال، كوب ماء. وجودها لا يقدم حلولًا، لكنه يخلق مساحة آمنة تسمح للحياة أن تتنفس داخل العتمة.
أما أحمد الأندلسي في دور أكرم، فيمثل العقل الذي يحاول أن يفكك الألم بالمنطق، لكنه يدرك تدريجيًا أن الفهم لا يكفي، وأن ما تحتاجه ليلى هو أن يشهد معها على الجرح لا أن يشرحه. هنا يتحول العلاج النفسي إلى مشاركة وجدانية، إلى فعل إنصات يتجاوز العلم نحو التعاطف.
ويظهر مالك بن سعد في دور سمير كظل ماض لا يزول تمامًا، حضوره محدود زمنيًا لكنه جوهري رمزيًا؛ يمثل الجزء الغائب من السرد، الصوت الذي لم يُسمع، والمشهد الذي لم يُستوعب بعد. وجوده يذكر بأن الصدمة ليست حدثًا منفصلًا، وإنما كائنًا يواصل العيش في الحاضر بأقنعة مختلفة.
من خلال هذا التكوين الرباعي تبني الشخصيات شبكة دقيقة من العلاقات الهشة، يتقاطع فيها الرعاية بالعجز، والتواصل بالصمت. لا أحد يملك خلاصًا نهائيًا، لكن وجودهم جميعًا يمنح ليلى، ولو مؤقتًا، مساحة لتجربة معنى النجاة.
في لحظته الأخيرة، يترك «الحجر/ STONE» أثره كتنفس ينطلق إلى الخارج، فتواصل الصورة ما عجزت الكلمات عن قوله. لا يقدم الفيلم وعدًا بالفكاك، لكنه يلمح إلى مكانه، إلى تلك اللحظة الهشة التي قد يتحول فيها الحجر إلى خطوة. وهنا ينفتح سؤال معلق عن معنى الخروج ذاته، أهو خلاص أم استكمال للتيه؟ حين يخفت كل شيء، يظل الهواء في اللقطة الأخيرة شاهدًا على عبور حدث، -أو ربما لم يحدث بعد.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: السر
إقرأ أيضاً:
من يقرر الجنون؟ جدل متصاعد حول دور الطب النفسي في قضايا الحجر
تزايدت في السنوات الأخيرة قضايا الحجر على الأشخاص بسبب الجنون أو العته أو ضعف الإدراك، سواء في نزاعات على الميراث أو قضايا مالية أو حتى نزاعات أسرية، وغالبا ما تحسم هذه القضايا بناء على تقارير طبية نفسية تحدد ما إذا كان الشخص قادرا على التمييز والتصرف أم لا.
الخلط بين الاضطراب النفسي وفقدان الأهلية القانونية يفتح الباب واسعًا أمام الجدل، ففي بعض القضايا، يستغل تقرير طبي واحد لتجريد إنسان من حقوقه، نرصد موقف القانون من دعاوي الحجر على أشخاص وتحديد الأهلية لهم.
القانون... من يملك الكلمة الأخيرة؟
تنص مادة رفع الولاية على المال في قانون الأحوال الشخصية على أن النيابة العامة هي الجهة المسؤولة عن رعاية مصالح عديمي الأهلية وناقصيها والغائبين، وتشمل صلاحياتها التحفظ على أموالهم والإشراف على إدارتها وفقًا لأحكام القانون، ويجوز لها أن تندب أحد مأموري الضبط القضائي لاتخاذ التدابير اللازمة في هذا الشأن، كما يمكنها الاستعانة بمعاونين يصدر بتعيينهم قرار من وزير العدل، ويُمنح هؤلاء صفة مأموري الضبط القضائي في حدود المهام التي تُناط بهم أثناء أداء وظائفهم.
وبموجب القانون، لا يُفرض الحجر على أي شخص إلا بقرار قضائي يصدر بعد الاستعانة بخبراء نفسيين معتمدين، وغالبًا ما يشترط القاضي تعدد التقارير الطبية قبل اتخاذ قراره النهائي، ضمانًا للعدالة والدقة في التقييم.
ويعد الطب النفسي ركيزة أساسية في القضايا المتعلقة بـ الأهلية القانونية، إذ تعتمد المحاكم على التقارير الطبية لتحديد قدرة الشخص على إدارة شؤونه أو أمواله، إلا أن تشخيص فقدان الأهلية ليس أم بسيط، بل عملية دقيقة تتطلب فحوصًا متعمقة ومتابعة مستمرة، إذ لا يمكن حسمها من جلسة واحدة، نظرًا لتغيّر السلوك البشري وتأثره بالعوامل النفسية والاجتماعية المحيطة.
ورغم وضوح الإطار القانوني، يبقى الجدل مستمرًا حول كيفية تطبيقه، ففي بعض الحالات، قد ترفع دعوى الحجر من أحد الأبناء ضد والده، وإذا صدر الحكم لصالحه، يستفيد باقي الأبناء من سلب الولاية عن الأب، وبعد اقتناع القاضي بالأدلة المقدمة، يصدر حكمه بالحجر، مع تخصيص نفقة مالية للمحجور عليه تُصرف له ليعيش منها، مع بقائه في منزله ما لم تستدعِ حالته الصحية أو النفسية نقله إلى مكان آخر.
ويمنح المحجور عليه حق الاستئناف على الحكم إذا قدّم ما يثبت سلامة قواه العقلية واستقرار سلوكه أمام المحكمة. كما يحق له، بعد صدور حكم الحجر، رفع دعوى جديدة لطلب إلغاء سلب ولايته على ماله أو نفسه في حال زوال السبب الذي أدى إلى الحجر، إذ يؤكد القانون أن الأصل هو حرية التصرف، وأن الحجر إجراء عارض ومؤقت لا يُلجأ إليه إلا في أضيق الحدود.