إندونيسيا.. آتشه من الصراع المسلح إلى المشاركة السياسية للمقاتلين السابقين
تاريخ النشر: 9th, February 2024 GMT
جاكرتا- مع اقتراب موعد الانتخابات الإندونيسية المقررة يوم 14 فبراير/شباط الجاري، يستقرئ كثيرون النظام الانتخابي الذي لا يسمح بظهور أحزاب جهوية أو مناطقية أو إثنية، نظرا لحساسية ذلك في بلد يضم مئات القوميات، وتنوعا دينيا وثقافيا واسعا، حتى لا يكون للأحزاب حضور على المستوى الوطني.
ولترخيص أي حزب، يُشترط أن يكون لديه مقرات في كل أقاليم البلاد الـ 38، وفروع في 75% من المحافظات والمدن التابعة لتلك الأقاليم، وفي 50% من البلديات المندرجة -إداريا- في ظلها.
ولكن الحال مختلف في إقليم آتشه الوحيد الذي يُسمح فيه بتأسيس أحزاب محلية تنشط سواء في مجالسه التشريعية ومحافظاته ومدنه، أو للتنافس على مناصب تنفيذية بدءا بحاكم الإقليم وصولا إلى ولاة 5 مدن ومحافظي 18 محافظة فيه.
ولهذا الاستثناء قصة في الإقليم الذي يقع بأقصى غرب إندونيسيا، ويعد بوابته نحو المحيط الهندي بمحاذاة ماليزيا الغربية، وكان يسمى "عتبة مكة المكرمة" لأن الحجاج -في الماضي- كانوا يبحرون منه إلى الديار المقدسة، ويأتي بعد أن عانى هذا الإقليم من صراع دام بضعة عقود.
حدثت "الثورة" على الحكومة المركزية لإندونيسيا في عهد حاكم الإقليم العسكري داود بيرئيه عام 1953، والذي كان أيضا رئيس اتحاد علماء آتشه، حيث أعلن أنه سينفصل عن إندونيسيا لتأسيس دولة "إندونيسيا الإسلامية" مع ثوار آخرين في أقاليم أخرى.
وكانت "ثورة دار الإسلام" هذه كما كانت تُعرف، ردا على رفض الرئيس الأسبق أحمد سوكارنو منح آتشه حكما خاصا في ظل تطبيق الشريعة، وبعد 3 سنوات من التفاوض انتهى العصيان في آتشه بمنحها حكما ذاتيا عام 1962.
ولكن الثورة على حكومة جاكرتا عادت مجددا عام 1976 من قبل "حركة تحرير آتشه" التي خاضت صراعا مسلحا كان له آثاره في المجتمع الآتشيوي، سعيا للاستقلال، وشهد الإقليم عمليات عسكرية عديدة طوال 28 عاما و8 أشهر.
ولم ينته الصراع في آتشه حتى وقعت كارثة تسونامي في 24 ديسمبر/كانون الأول 2004 مخلفة نحو 230 ألف قتيل ومفقود في 14 دولة آسيوية، وكان لآتشه النصيب الأكبر منها.
وكان لتلك الكارثة امتداد سياسي، حيث جرفت أمواج تسونامي توترات الصراع ومهدت واقع آتشه الإنساني المؤلم لمفاوضات معمقة انتهت باتفاق سلام شامل جرى توقيعه في فنلندا يوم 15 أغسطس/آب 2005 بين الحكومة وحركة تحرير آتشه.
وسمح الاتفاق باندماج المقاتلين السابقين من الحركة في الحياة العامة وتأسيس أحزاب سياسية، والمشاركة بإدارة الإقليم والتمثيل في مجالسه المحلية، ومنح آتشه الحق في تراتيب إدارية وقوانين خاصة لحكمها الذاتي.
وأفرزت اتفاقية السلام قانون إدارة آتشه لعام 2006، ويسمح بتأسيس أحزاب محلية وترشيح مستقلين، يقتصر حضورهم على الإقليم، فتأسس فيه نحو 20 حزبا خلال العقدين الماضيين، لكن القائم منها 6 فقط، أولها حزب تضامن وحرية شعب آتشه "سيرا" وكان له حضور توعوي قبل تسونامي في حراك شعبي يطالب بتقرير مصير شعب آتشه عام 1999.
وبعد انتهاء الصراع، أسس المقاتلون السابقون لحركة تحرير آتشه عام 2007 "حزب آتشه" وحصل على 33 مقعدا بالمجلس التشريعي للإقليم في انتخابات 2009، ثم تراجعت مقاعده إلى 29 ثم 18 بانتخابات عامي 2014 و2019.
ولم تعد تلك المجموعة المقاتلة سابقا موحدة، بل خرج من عباءتها عام 2011 حزب "آتشه القومي" الذي فاز بعدد قليل من المقاعد في آخر جولتين انتخابيتين.
وهناك 3 أحزاب أخرى هي "دار آتشه"، وجيل آتشه الموحد "طاعة وتقوى" والأحدث ظهورا حزب العدالة والرفاه "باس آتشه" الذي تأسس عام 2021 بعد اجتماع عدد كبير من علماء الإقليم ومريديهم من المعاهد الدينية، ويدخل الاختبار الانتخابي الأسبوع المقبل لأول مرة.
ويقول سيفول الأكمال الأستاذ في كلية التربية والتعليم جامعة "الرانيري الإسلامية الحكومية" في بندا آتشه، إن الأحزاب السياسية المحلية مرت بمراحل عديدة، من تمركزها حول حزب واحد هو "آتشه" وتحقيقه فوزا ساحقا في مناطق عديدة بأول انتخابات، إلى تراجع في الأصوات التي حصل عليها، وظهور أحزاب أخرى تنافسه.
وقال الأكمال للجزيرة نت إن الأحزاب المحلية في آتشه تشكو من ضعف مهارات العمل الحزبي، وفي ظل التغيرات المجتمعية، وجدت نفسها في تحالف مع أحزاب وطنية -تعمل على مستوى كل أقاليم البلاد- حيث لا يمكنها ترشيح نواب في البرلمان المركزي بجاكرتا مما يجعلها مضطرة للدفع ببعض شخصياتها على قوائم أحزاب وطنية.
وأضاف أن عددا من أحزاب آتشه ظهرت من الوسط الديني والعلماني والتعليمي -من غير المقاتلين السابقين- في الإقليم، لكنها تواجه صعوبة في البقاء بقوة في الساحة السياسية.
ورغم كل ذلك، يقول الأكمال إن التحول السياسي في الإقليم نجح بدمج المقاتلين السابقين في العمل النيابي والقيادة والإدارة المحلية لمحافظات الإقليم، بمشاركتهم في 3 انتخابات سابقة، وهم يستعدون ليخوضوا التجربة للمرة الرابعة، معتبرا التجربة إيجابية حيث فتحت للشعب في آتشه خيارات عديدة.
أما خطاب الساسة في آتشه فيتغير أيضا، في نظر الأكمال، ويبتعد تدريجيا عن سياق وسردية الصراع وتطبيق اتفاقية السلام إلى الحلول العملية لمعاناة الناس اليومية.
وظهر التباين خلال عقدين من الممارسة السياسية بالنظر إلى التحالفات مع الأحزاب الوطنية في جاكرتا والاستفادة منها، والعودة إلى الحضور في الساحة السياسية المحلية.
وصارت هذه الأحزاب تُنافس المحلية على المناصب التنفيذية والتشريعية بالإقليم، بفعل قوتها ماليا ومؤسساتيا وإداريا، إضافة إلى ضعف التثقيف والتواصل السياسيين بآتشه لدى فئة من نشطاء الأحزاب المحلية.
وقال الأكمال إن الأحزاب المحلية تحتاج إلى وقت حتى تنضج سياسيا وتقوى مؤسساتيا وتصير ذات حضور وأثر مجتمعي مستقر.
ويرى أن تجربة التسوية السياسية في آتشه إيجابية من حيث إنهاء الصراع وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، ويمكن أن تفيد في صياغة تسوية لصراعات أخرى مثل الصراع الدائر في أقاليم بابوا أقصى شرقي البلاد، وحل القضية المتوترة فيها منذ عقود.
أما رضا إدريا الأستاذ بكلية العلوم الإدارية والإدارة الحكومية جامعة الرانيري في مدينة بندا آتشه، فقال -للجزيرة نت- إن المواطنين في الإقليم كان لهم أمل كبير في الأحزاب المحلية، لكن مع مرور الوقت يسود شعور بأنه لا فرق بينهم وبين ممارسات الأحزاب الأخرى الوطنية التي عرفوها.
ويضيف أن ثقة الناخب تراجعت وانعكس ذلك بتراجع نصيب الأحزاب المحلية في المجالس التشريعية على مدى 3 استحقاقات انتخابية.
وقال إدريا إن الأحزاب الوطنية صارت تنافس بقوة المحلية، خاصة مع تغير اهتمامات الناخب الآتشوي، حيث لم يعد الخطاب القومي المحلي متنفذا، وصار المواطن في آتشه يشبه غيره من مواطني الأقاليم الأخرى: في هموم الحياة اليومية، وقضايا التعليم، والصحة، والرفاه.
وجاء هذا في سياق تراجع الثقة بأداء بعض قادة آتشه السابقين، حسب قوله، مع عدم تقديمهم نموذجا متميزا عن سابقيهم، مما يدفع إدريا إلى توقع تقدم الأحزاب الوطنية وتراجع المحلية بالإقليم في انتخابات الأسبوع المقبل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الأحزاب المحلیة الأحزاب الوطنیة فی الإقلیم إن الأحزاب
إقرأ أيضاً:
أنماط طرائق التفكير السوداني «7»
أنماط طرائق التفكير السوداني «7»
عوض الكريم فضل المولى وحسن عبد الرضي
الأحزاب السياسية: التأسيس وطريقة تفكيرها في الشأن السوداني العامتمثل الأحزاب السياسية أحد أهم الفاعلين في المشهد السياسي والحراك المجتمعي والثقافي السوداني، حيث تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الوعي وصياغة الرؤى المستقبلية للدولة والرأي العام.
غير أن طريقة تفكير تأسيس هذه الأحزاب منذ الوهلة الأولي قامت على أنماط متعددة ومختلفة وغير متجانسة في ما يتعلق ببناء الدولة والمجتمع. دعك عن الاختلاف الأيديولوجيًا والسياسيً في تصور البلاد ووحدتها وهويتها وطريقة حكمها ودستورها، ولم يكن خلافا فكريا بل اختلاف تناقض نعيش نتائجه الان صراعات وحروب على المستوى القومي والولائي، مما يعكس أزمة عميقة تمتد جذورها إلى طبيعة تأسيس تلك الأحزاب، ومصادر أفكارها، وأيديولوجياتها، ومدى استيعابها للتنوع السوداني.
تتبنى الأحزاب السياسية السودانية عدة أنماط فكرية في مقاربتها للقضايا الوطنية، من أبرزها التفكير الديني، حيث تُصاغ المواقف السياسية من منطلقات دينية. وفي هذا السياق، تعددت المذاهب الفقهية والمدارس بين السلفية، والصوفية، والتجديدية، والسنية، والشيعية وغيرها، مما أدى إلى استقطاب حاد بين التيارات الإسلامية. ورغم أن الدين واحد والبلد واحد، إلا أن طريقة التأسيس القائمة على هذه التصورات أدت إلى إضعاف وحدة المجتمع وتعميق الخلافات بدلًا من بناء توافق وطني.
من ناحية أخرى، نجد أن هناك أحزابًا تأسست على أساس مناطقي وإثني، حيث تعتمد على قواعدها المناطقية والعرقية، مما ساهم في تفكيك الوحدة الوطنية وأدى إلى نزاعات وحروب أهلية. أما في الجانب الأيديولوجي، فقد انقسمت الأحزاب بين تيارات شيوعية، وبعثية، وقومية، وليبرالية، مستمدة أفكارها من تجارب خارجية دون مراعاة خصوصية الواقع السوداني.
يضاف إلى ذلك التفكير العابر للحدود، إذ تبنَّت بعض الأحزاب أفكارًا ومشاريع سياسية مستوردة من الخارج، مثل الشيوعية، والناصرية، والبعث العربي، واللجان الثورية، إلى جانب الأحزاب الدينية التي استلهمت نموذج الإخوان المسلمين من مصر، مما جعل القرار السياسي السوداني مرتبطًا بصراعات دولية وإقليمية.
بالإشارة إلى أزمة التأسيس وغياب المرجعية الوطنية، كما أسلفتا، نأمل إلى حتمية تبني البحث العميق في أزمة تأسيس هذه الأحزاب ومصادر دساتيرها. فالأحزاب السياسية السودانية تعاني من مشكلات في التأسيس والأفكار والبرامج، حيث تستند معظمها إلى توجهات نخبوية أو خارجية لا تعكس احتياجات المجتمع السوداني الحقيقية. كما أن دساتير معظم الأحزاب تفتقر إلى مرجعية وطنية متماسكة، بل تُستمد أحيانًا من مذاهب وأيديولوجيات وافدة لا تتناسب مع السياق المحلي، مما أدى إلى قطيعة بين الأحزاب والجماهير.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالٌ يحتاج إلى إجابة: ما أثر التعليم في تعميق هذه الأزمة؟ هل يمكننا أن نطرح هذا السؤال بجرأة ونبحث عن إجابات له؟
إن طرائق التفكير في بناء المناهج التعليمية كانت أحد العوامل الأساسية التي أسهمت في تكريس هذه الأزمة، إذ لم يتم توظيف التعليم كأداة للتحرر الفكري وتقديم حلول جذرية لمشكلات السودان. بل على العكس، ظل التعليم مسيَّسًا، يخدم أجندات معينة، مما جعل الأجيال الجديدة تكرر أخطاء الماضي بدلًا من السعي إلى التغيير الحقيقي.
مما جعلنا نعاني من أزمة مزمنة في إدارة التنوع، حيث فشلت معظم الأحزاب السياسية في استيعاب التنوع الثقافي والاجتماعي وإدارته بشكل خلاق ومنتج. وبدلًا من تحويل التنوع إلى مصدر قوة، أصبح سببًا رئيسيًا للصراعات نتيجة غياب رؤية وطنية جامعة تقوم على أسس المواطنة والعدالة الاجتماعية. ذلك يظهر جليا في الهروب من تبعات هذه الأزمة الحالية التي تواجه بلادنا العزيزة، إذ اعتادت الأحزاب السياسية عند مواجهة الأزمات أن تلجأ غالبًا إلى الهروب من المسؤولية أو التنصل من تبعات أفعالها، سواء عبر تبادل الاتهامات أو الانخراط في مساومات سياسية لا تقدم حلولًا حقيقية. هذا النهج الموروث، وأحيانًا المؤدلج، عزَّز حالة عدم الثقة والفرقة بين الجماهير والأحزاب، وجعل النظام السياسي هشًا وعرضة للانهيارات المتكررة.
فما الرؤية الصائبة التي تقودنا نحو إصلاح جذري، إذ نأمل، في ختام هذا المقال، أن نكون قد طرحنا موضوعًا يستحق العصف الذهني العميق والنقاش الهادف لإيجاد حلول للأزمة السياسية السودانية المزمنة والمستفحلة. إن إصلاح الأحزاب السياسية في السودان يتطلب مراجعة شاملة لطريقة تفكيرها في التأسيس واهتمامها بالشأن العام، والابتعاد عن الاستقطاب الأيديولوجي والمناطقي، والعمل على بناء أحزاب ذات مرجعية وطنية تستوعب التنوع وتقدم حلولًا عملية لمشكلات السودان المتراكمة. بدون ذلك، ستظل الأحزاب تدور في حلقة مفرغة، أشبه بـ”جمل العصارة”، تكرر التجارب الفاشلة، وتصبح مجرد أدوات لإعادة إنتاج الأزمات، بدلًا من أن تكون جزءًا من الحل.
الوسومأنماط طرائق التفكير السوداني الأحزاب السياسية السودان بناء الدولة حسن عبد الرضي الشيخ عوض الكريم فضل المولى