المحاصرون في غزة.. أطباق من الصبر على مائدة الجوع
تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT
قصص الجوع في قطاع غزة ليست "دراما" ينسجها الكتّاب الذين يبحثون في عالم الخيال عما عزّ وجوده في عالم الواقع، بل تنطق كل شواهد المكان، بالصوت والصورة، بما في ذلك البنايات الخرساء، لتشهد على هذه الإبادة التي تمارس ضد الفلسطينيين، ولم يعرف لها العالم مثيلا في أزمنة الحداثة وموت الضمير الحي للبشرية.
ولم ينجح العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة وهو يصب كل أنواع العذاب عليهم: قتلا وتهجيرا وتجويعا، في كسر صمودهم وإيمانهم بعدالة قضيتهم وشرعية مقاومتهم للاحتلال.
حاول الاحتلال الإسرائيلي أن يذبح غزة بسكين الجوع، مؤملا أن ينجح سلاحه في قتل أرواحهم بعدما استهدف بالقنابل أجسادهم، إلى درجة جعلت الأمم المتحدة تصنف الـ100 يوم الأولى من الحرب على غزة بأنها الأكثر دموية في القرن الـ21.
لكن الصور التي صدرها القطاع كشفت خيبة تلك المساعي، فبين أنقاض المباني المهدمة ما زال الإنسان الفلسطيني يقف شامخا، لا تلين له قناة، ولا يحني رأسه لغاصب ولو كلفه ذلك حياته.
حقيقة ساطعة
ولم تستطع حتى المنظمات الأممية إخفاء المأساة التي يصبح عليها أهل غزة ويمسون. فقد عبرت الأمم المتحدة عن مخاوفها من انتشار المجاعة والعطش والأمراض، وذلك بسبب القيود الإسرائيلية المفروضة على قطاع الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية في غزة.
وقدر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن أكثر من ربع سكان غزة استنفدوا إمداداتهم الغذائية، فيما حذرت المنظمة الأممية للطفولة (يونيسيف) من أن 90% من أطفال قطاع غزة يعانون من سوء التغذية.
أما رئيس "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" رامي عبدو، فقد أكد لـ"الجزيرة نت" أن تجويع إسرائيل للمدنيين في القطاع سيترك آثارا طويلة المدى لا يمكن تداركها، في ظل تأكيد تقارير وخبراء دوليين أن أعداد ضحايا التجويع والأمراض المقترنة به قد يفوق عدد أولئك الذي استشهدوا بالقنابل والصواريخ.
وأشار المصدر ذاته إلى تقارير ودراسات دولية تسلط الضوء على قطاع غزة، حيث يعاني 53% من السكان من حالة الطوارئ القصوى في سوء التغذية الحاد، في حين يعاني 26% منهم، أي حوالي نصف مليون شخص من المجاعة، كما يتزايد خطر حالات الوفاة الناتجة عن الجوع أو سوء التغذية أو الأمراض المرتبطة بهما.
على خطى "هانسل وغريتل"تتحدث القصة الخرافية التي ابتدعها "الأخوان غريم" (جايكوب وفيلهلم غريم الألمانيان) عن أخ وأخت يحاول والداهما التخلص منهما وسط الغابة، فيستدلان على طريق العودة بقطع خبز ينثرها هانسل في طريقه كي يعرف رفقة أخته طريق العودة إلى البيت.
أما في قطاع غزة، فيتخذ الأمر شكلا أكثر مأساوية، وبطريقة تفوق الخيال، عندما يضطر الآلاف إلى النزوح، ليس فقط هروبا من الموت العاجل الذي تسوقه القنابل والغارات ورصاص قناصة الاحتلال، ولكن هروبا من الموت البطيء الذي يقوده انعدام الغذاء والماء الصالح للشرب.
لكن أهل غزة لا يستدلون في طريق نزوحهم على قطع خبر متناثرة صارت تقدر بسعر الذهب، وإنما يقودهم أمل مشرق في أن الحصار مهما طال لن يدوم، وأن الاحتلال آيل إلى زوال، فيقطعون الأميال بحثا عن غد أفضل لهم ولأبنائهم.
وهاهو فلسطيني عضه الجوع بنابه -كما يقول المثل العربي القديم- يضطر -مكرها- إلى أن يترك بيته في شمال غزة، باحثا عن قوت يسد رمق ابنته الصغيرة، صارخا بعبارة مدوية "لا يمكنني وصف الجوع هناك".
"لا يمكنني وصف الجوع هناك".. نازح من شمال #غزة يتحدث عن الأزمة الغذائية التي وصل إليها أهالي القطاع#حرب_غزة pic.twitter.com/yqGanNJqNW
— قناة الجزيرة (@AJArabic) February 25, 2024
ونشر الصحفي الفلسطيني محمد شاهين مقطع فيديو لطفلة صغيرة وهي تقول باكية "اشتقنا للخبز الأبيض"، وكانت فقدت في الحرب والدها وانقلبت حياتها وحياة أسرتها بفعل العدوان رأسا على عقب.
"اشتقنا للخبز الأبيض".. كلمات مؤثرة من طفلة فلسطينية تلخص واقع الآلاف من الأطفال الذين يواجهون ظروفا صعبة في قطاع غزة pic.twitter.com/omCYBg0AoE
— Aljazeera.net • الجزيرة نت (@AJArabicnet) February 21, 2024
وحتى مراسل الجزيرة إسماعيل غول كتب على منصة (إكس) "بالعادة نقول صباح الخير.. لكن نحن نقول لكم صباح الجوع.. ماذا تجيبون؟!".
أطباق من الصبر والشكرلم تسلب حرب الاحتلال الإسرائيلي من الفلسطينيين صبرهم وثباتهم في مواقف قد يضعف فيها غيرهم. وكنوع من التأقلم مع الواقع المر الذي يمكن تحليته "بعصير العلقم" على رأي الشاعر أحمد مطر، يتكيف أهل غزة مع واقعهم بما يقتضيه صبرهم، شاكرين حامدين، في انتظار أن يأتي الفرج بعد الشدة، وهم يعرفون تمام المعرفة من وحي إيمانهم وحكمتهم أن العسر لن يصمد أمام يُسرين وُعدهما العبد الصابر.
يُطلعنا الصحفي إسلام بدر في منشور له على منصة "إكس" – مُرفقا بفيديو- عن حصته من الطعام في أحد أيام الحرب والدمار التي تصبها إسرائيل على الفلسطينيين.. ماء وجزر، ومع ذلك يقول إن ما هو فيه نعمة لا يجدها غيره، قبل أن يدعو بالفرج القريب لغزة وأهلها.
هذا نصيبي من الطعام اليوم فش شمال غزة تطبخ أمي الجزر بالماء.. وأنا في نعمة يحسدني عليها غيري .. اللهم فرجا قريبا
"This is my share of food today, my mom is cooking carrots with water. I am blessed, and others envy me for it. Oh Allah, bring relief soon." pic.twitter.com/mh7pe4AjCw
— Islam Bader | إسلام بدر (@islambader1988) February 24, 2024
وفي مشهد آخر، يستدعي التوقف بدوره، يخبرنا الأستاذ والباحث اللغوي حمزة مصطفى أبو توهة عن إحدى يومياته بعد ولادة ابنه "علي"، فقال "حاولت جاهدا قبل ولادة (علي) توفير علبة من حليب المواليد فلم أجد، فقلت لعل المستشفى يوم الولادة توفر له علبة حليب، بعد ولادته أرادت أمه أن تُرضعه، فلم ينزل شيء من الحليب بسبب سوء تغذية الأم، ذهبتُ إلى قسم الحضانة فلم أجد شيئًا، ذهبتُ إلى كل مكان في المستشفى فلم أجد حليبًا، بعد 7 ساعات أعطتني إحدى النساء حقنة فيها قليل من الحليب، نحن في الشمال محاصرون".
حاولت جاهدًا قبل ولادة (عليّ) توفير علبة من حليب المواليد فلم أجد، فقلت لعل المستشفى يوم الولادة توفر له علبة حليب، بعد ولادته أرادت أمه أن تُرضعه، فلم ينزل شيء من الحليب بسبب سوء تغذية الأم، ذهبتُ إلى قسم الحضانة فلم أجد شيئًا، ذهبتُ إلى كل مكان في المستشفى فلم أجد حليبًا، بعد… pic.twitter.com/fr0tWoGxeg
— حمزة مصطفى أبو توهة (@HamzaAbuToha) February 20, 2024
وبعد ولادة ابنه، كتب أبو توهة مرة أخرى "وأما بنعمة ربك فحدث، هذا رزق الله بعد 5 أيام من البحث في محافظة الشمال عن شيء من اللحم لامرأتي التي أنجبت مولودا، اليوم أسبوع ابني (عليّ)، جعلت هذا الطبق لزوجتي هدية الولادة، لعلك تراها قليلة، ولكن قطع اللحم هذه بـ70 دولارا، وحبات الأرز هذه بـ25 دولارا، ألا ترى قيمتها تستحق أن تكون هدية!".
وأما بنعمة ربك فحدِّث، هذا رزق الله بعد خمس أيام من البحث في محافظة الشمال عن شيء من اللحم لامرأتي التي أنجبت مولودًا، اليوم أسبوع ابني (عليّ)، جعلت هذا الطبق لزوجتي هدية الولادة، لعلك تراها قليلة، ولكن قطع اللحم هذه بـ 70$، وحبات الرز هذه بـ25$، ألا ترى قيمتها تستحق أن تكون… pic.twitter.com/Wo71PXiub8
— حمزة مصطفى أبو توهة (@HamzaAbuToha) February 22, 2024
ليس سرا أن غزة تعاني من القتل والتدمير، وأنها تعاني من التجويع والحصار، لكن السر الذي قد يحاول البعض كتمانه رغم ظهوره هو أن غزة تعاني أيضا من صمت الأقربين الذين حاولوا تجاهل معاناتها، وتركوها تواجه قدرها مع احتلال يمطرها بالقنابل الحارقة إضافة إلى قنابل الكراهية والإبادة.
ولكن، رغم أن الجوع ينخر بطون الفلسطينيين في قطاع غزة، وأن الناس لا يجدون ما يسد رمقهم، حتى اضطروا إلى أكل أعلاف الحيوانات، إلا إن ذلك لم ينل من عزيمتهم، بل أبرز أرقى ما فيهم من قيم التسامح والتآزر والتعاون، مجسدين قيم الإنسان في أسمى حالاته، متشبثين في ذلك بقبس من الإيمان كبير، إيمان بالله العادل الذي يعطي كل ذي حق حقه، وإيمان بأن الصبر مقترن دوما بالنصر.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی قطاع غزة أبو توهة pic twitter com شیء من حلیب ا
إقرأ أيضاً:
24 وفاة و45 ألف إصابة.. الجوع يفتك بأطفال الأبيض السودانية
تتكدس الخيام في أطراف مدينة الأُبَيِّض السودانية، في وقت تتصاعد فيه المخاوف من موجة سوء تغذية تضرب الصغار بلا رحمة، لتترك أجسادهم نحيلة كأعواد القش، وتضع أسرهم على حافة الانهيار.
وسط هذه المشاهد القاسية، يروي مراسل الجزيرة الطاهر المرضي معاناة الأسر التي وجدت نفسها محاصرة بين النزوح والجوع.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماذا تعرف عن مركز التنسيق المدني العسكري الأميركي؟list 2 of 2تعرف على تفاصيل توغل الاحتلال ببيت جن السورية وما سبقه من توغلاتend of listولا يحتاج المشاهد وقتا طويلا ليدرك حجم الكارثة، فالأمهات يفترشن الأرض بأطفالهن، والوجوه الشاحبة تتحدث ببلاغة عن أزمة تتفاقم كل يوم.
تجلس عائشة، الشابة النازحة من جنوب كردفان، على التراب وهي تضم طفليها التوأمين، وكأنها تحاول أن تحجب عنهما قسوة الواقع.
تقول بصوت يختلط فيه الإعياء بالأسى إن الرحلة من اللعوبة لم تنتهِ بنجاة أسرتها، بل قادتها إلى مخيم لا يجد فيه الصغار ما يسد الرمق، وتشدد على أن الطعام انقطع تماما، وأن "الظروف صعبة شديد"، لتختصر بكلماتها المتعثرة وجع آلاف الأمهات.
وعلى بعد كيلومترات من المخيم، تبدو صورة أخرى للكارثة داخل مستشفى الأبيض التخصصي للأطفال، حيث يغدو الحصول على سرير حلما صعبا، فـ5 أطفال يتقاسمون سريرا واحدا، وأنابيب التغذية الدقيقة تتدلى فوق رؤوسهم في محاولة لإبقائهم على قيد الحياة.
أي طعام يسد الرمقوبالقرب من طفلة هزيلة تدعى أسماء، تجلس امرأة مسنة تتشبث بيد الصغيرة كما لو أنها تحاول تثبيت روح على وشك المغادرة، وتروي أن حاجتهم ليست غذاء خاصا، بل أي طعام بسيط يبقيهم واقفين.
تؤكد السيدة المسنة أن وجبة واحدة في اليوم قد تكون كل ما تحصل عليه الأسرة، بينما "الصغار ما بيتحملوا"، في إشارة إلى تدهور حال الأطفال خلال ساعات قليلة.
أسماء ليست حالة فريدة، فهي واحدة من أكثر من 45 ألف طفل وصلوا إلى المستشفى خلال الأشهر الماضية، نصفهم يعانون من سوء تغذية حاد.
الأرقام وحدها كفيلة بخلق صدمة، لكنها تصبح أشد وقعا حين يعلن الطاقم الطبي أن 24 طفلا قضوا هذا العام جوعا، في واحدة من أسوأ موجات سوء التغذية التي تضرب المنطقة.
إعلانوتشرح الدكتورة سبأ عبد الباسط، مديرة حوادث الأطفال، أن كثيرا من الحالات تصل بورم غذائي يؤدي لاحقا إلى تقرحات خطيرة في الجلد، مشيرة إلى أن علاج هذه الحالات يحتاج إلى وقت طويل واستجابة ربما لا تتحقق دائما.
وفي عنابر المستشفى، يمضي الطاهر المرضي وسط الأسرة المتلاصقة ليختتم رحلته في ممر ضيق، واصفا تلك اللحظات القاسية التي لا يشبهها شيء في أيام النزوح، فـ"لا شيء أثقل من جوع طفل، ولا شيء أشد ألما من أم ترى الحياة تبتعد عن صغيرها".