التكارير: تأليف: الدكتور ﻭﺍلــبـﺭﺕ ســمــيــت
تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT
التكارير: تأليف: الدكتور ﻭﺍلــبـﺭﺕ ســمــيــت
ترجمة: د. محمد عبد الله الحسين
تصدير:
كما هو معروف يتقاسم السودان وإثيوبيا وإريتريا الجوار الجغرافي وكذلك المشترك التاريخي الذي يشمل بعض حقب التاريخ القديمة والمعاصرة.
فيما يلي مقتطف مختصر مأخوذ من دائرة المعارف الإثيوبية. يمثل هذا المقتطف رؤية توثيقية لهجرة واستقرار التكارير، والتي التي وفدت إلى البلدان الثلاثة في فترات تاريخية مختلفة وأصبحت جزء من حقائق الوجود والتأثير في البلدان الثلاثة.
مقدمة عن الكاتب:
يعمل الدكتور والبرت ســمــيــت منذ عام 2010 أستاذاً مشاركاً في مجال التاريخ الإثني في قسم التاريخ والدراسات الثقافية بكلية العلوم الاجتماعية واللغات، بجامعة ميكلي بأديس أبابا، في أثيوبيا. ويعمل منذ 2010 كأخصائي ميداني في مجال الأنثروبولوجيا التاريخية، حيث يتطلب ذلك البقاء لمدة تصل إلى عام في اثيوبيا واريتريا وجيبوتي. يعمل الدكتور والبرت ســمــيــت أيضاً باحثاً مشاركاً في مركز(هيوب لودولف) للدراسات الإثيوبية، في معهد آسيا وأفريقيا، بجامعة هامبورغ بألمانيا. بالإضافة لما تقدم، يعمل الدكتور والبرت ســمــيــت محرراً مساعداً في مشروع (دائرة معارف إثيوبيا) .("Encyclopaedia Aethiopica) وقد تم نشر هذا المقال في هذه الموسوعة المكونة من خمسة مجلدات، والتي نُشِرَت في فايسبادِن، بألمانيا في الفترة من 2003-2014.
تكرير(Tukrir)
يُطلق مصطلح تكرير أو تكرور بشكل رئيسي (والتي من مشتقاته: تكروري، وجمعها تكارير، وتكارين) ب في اللهجة الأمهرية والتقرية على الأشخاص الذين هم من أصول من غرب أو وسط أفريقيا، والذين يعيشون متوزعين في الأراضي الحبشية والإريترية. إن كلمة تكرور مشتقة من اسم عاصمة لمملكة قروسطية في غرب إفريقيا تُعرف من قِبَل الجغرافيين العرب، بنفس الاسم. كانت تلك المملكة تقع أسفل نهر السنغال وازدهرت لفترة قصيرة في القرن الحادي عشر الميلادي. وابتداء من في القرن الرابع عشر الميلادي اعتاد الكتاب العرب في منطقة البحر الأبيض المتوسط استخدام اسم "تكرور" في إشارة إلى كامل منطقة غرب افريقيا المسلمة وسكانها. كانت النسبة إلى تكرور (تكروري، وجمعها تكارير،أو تكارنة) لا تزال تستخدم في الشرق الأوسط و وادي النيل للإشارة إلى مسلمي غرب افريقيا (الأفراد و الجماعات) بشكل عام.
ابتداء من القرن الخامس عشر كانت أعمال السيرة الذاتية تتضمن سيرة الأشخاص الذين عاشوا في الشرق الأوسط مع ذكر كلمة (تكروري) مرفقة مع أسمائهم. وكان يطلق على الحجاج من غرب إفريقيا القادمين إلى مكة المكرمة بأنهم تكارير، وكذلك بالنسبة للأفراد والجماعات الذين استقروا في السودان وإريتريا وإثيوبيا، والذين كانو في طريقهم إلى مكة، أو عند عودتهم من الحج.
تعود أصول العديد من تكارير القرن الأفريقي إلى المنطقة النيجيرية الأوسع (مثل سلطنات بورنو، وكانم، ومناطق أخرى يسيطر عليها الفولاني (أي الفلاتا و/ أو الهوسا). بالرغم من ان البعض منهم ليس لديهم ارتباطات بهذه المناطق، ولكن مع ذلك يُطلق عليهم أيضاً تكرارير من قِبل جيرانهم. وقد يكون ذلك كتفسير محلي للمصطلح يعني الأشخاص ذوي (البشرة السوداء والشعر المجعد).
باستثناء ذلك، فإن جميع التكارير هم من المسلمين. توجد التجمعات السكانية للتكارير بشكل رئيسي على طول مناطق الحدود الغربية للمرتفعات "الحبشية" التاريخية، ومن منخفضات الأراضي الإريترية الغربية حتى بني شنقول جنوب ولاقا، مع وجود بعض التكارير في المناطق الإثيوبية والإريترية الأخرى من مصوع عبر التقراي حتى (كِافا).
الأصل المهم لهجرات التكارير من غرب أفريقيا إلى السودان وأخيراً إلى إثيوبيا وإريتريا هم الجهاديون الفولانيون في أوائل القرن التاسع عشر. وكان أول جهاد لهؤلاء هو جهاد الفولاني (سيهو عثمان دانفوديو (ضد دولة الهوسا(غوببِر) في عام 1804، والذي أعلن أن جهاده هو تمهيدٌ لمجيء المهدي. وفي النهاية استطاع الفولاني تأسيس إمبراطورية في عام 1831، بمناصرة من التكروري أمير سوكتو.
من ناحية أخرى فقد أثّر هؤلاء الجهاديون على المهديين السودانيين. وبدوره سعى (المهدي) لاحقًا بشكل حثيث للحصول على الدعم في منطقة تشاد-النيجر، وكان خَلَفُه الخليفة عبد الله نفسه من أصل تكروري ((Biobaki -al-Hajj 1966: 426f.-432 ، وذلك عقب نبوءات كانت قد تنبأت بظهور المهدي في الشرق، بعد الجفاف والحرب الأهلية، كانت الجماعات من الهوسا قد هاجرت من ا إلى وادي النيل بالفعل في الفترة بين 1837-1842، ثم تلتها المزيد من الهجرات من إمبراطورية سوكتو إلى السودان.( المرجع السابق، ص428-434)
عقب الاستعمار زادت هجرة التكرور بشكل لافت، حيث استقر حوالي 25,000 فولاني في منطقة النيل الأزرق بعد عام 1902(المرجع السابق، ص 435).
بالإضافة لذلك توجد تجمعات الحجاج التكارير الذاهبين إلى مكة على طول مسارات الحج التقليدية من غرب افريقيا الى مكة عبر السودان، ومن دارفور إلى الأبيض، وفي كسلا وسنار. ومن هناك تكون الرحلة على طول مسارين عبر شندي إلى سواكن، بعدد يصل إلى حوالي 500 حاج سنويا (المرجع السابق 431)، كما وصفه بوركهاردت في عام 1814، أو عبر إثيوبيا إلى مصوع، بعدد يقارب 150-200 شخص سنويا (نفس المرجع (كان بعض هؤلاء التكارير خلال فترة حجِّهم والتي تستغرق عادة عدة سنوات كان بعضهم يستقرون بشكل دائم، أو لفترة طويلة ، في بعض المناطق على طول طرق الحج التي يسلكونها خاصة في مناطق الجزيرة والقضارف وكسلا، وذلك من أجل كسبِ قوتِهم.
في القرن التاسع عشر كانت هناك مشيخةٌ للتكارير على الحدودِ الغربية لإثيوبيا، في ولاية القلابات السودانية وكانت (المتمّة) مركز لهذه المشيخة. كان غالبُ سكان هذه المشيخة من المستوطنينَ التكارير المنحدرين من بورنو، ودارفور، وودَّاي، الذين كان يبقى بعضُهم هناك بعد رحلة الحج إلى مكة، وإن كان العديد هؤلاء المستوطنين من التجار الذين يسيطرون على التجارة بين المرتفعات الإثيوبية والسلطنات السودانية الداخلية.
كانت هذه المشيخة تتبع في بعض الأحيان إلى مصر، أو لدولة اثيوبيا المسيحية، وكانت مصر قد منحتهم أرضاً لكي يزرعوا فيها الذرة(جيمس 1884). في أوائل القرن التاسع عشر وفد زعيمهم من بورنو؛ حيث تحرك أتباعه في وقت لاحق إلى منطقة أبعد من ذلك، أي نحو الشمال في الأراضي المنخفضة الغربية أسفل (والقيت)، وذلك بعد هزيمتهم من قِبل مجموعة منافسة من دارفور، والذين سيطروا على المشيخة منذ ذلك الحين وحتى أواخر القرن التاسع عشر. ولايزال حتى اليوم الجزء الأكبر من سكان القلابات السودانية (والتي هي تاريخياً جزء من المتمة) هم من التكارير (من الفور بشكل رئيسي). وكان هؤلاء الفور يُعدّون من التكارير، وذلك لأن دارفور كانت تتبع لبورنو، وتعتبر جزءًا من بلاد التكرور، (حسب الفولاني السلطان محمد بيلو؛ سابوري بيوباكو، ومحمد الحاج 1964: 472 ف، و430.
كانت معظم الأراضي المنخفضة غرب (والاقايت)، (والتي يطلق عليها اليوم قافتا حمرة) قبل القرن التاسع عشر يصفها المسافرون، ويتم تصويرها كذلك في الخرائط باعتبارها منطقة للتكارير. وكان التكارير في هذه المنطقة مشهورين محليًا بمعرفتهم بالطب التقليدي (باركنز 1853: 350).
إنّ أصلَ هؤلاءِ التكارير غيرُ مؤكّدٍ إلى حد كبير. وبحسب مخبرين في الحُمرة اليوم يوجد الهوسا المنحدرون من بورنو وغيرها، وعددٌ قليل من الفلاتا، يعيشون في العديد من المستوطنات في المزارع الحديثة حول الُحمرة. وقد هاجر الكثيرون منهم إلى هناك من السودان في سياق هجرة اليد العاملة الحديثة، ولكن قد ينحدرُ بعض منهم من مجموعاتٍ بورنية كانت مستقرة هنالك لربما قبل القرن التاسع عشر.
بعد تأسيس مستوطنة إريتريا (المترجم: حسب وجهة النظر الإثيوبية)، كان التكارير الذين كانوا من أصول من شمال نيجيرية يستقرون كذلك في أراضيها الغربية المنخفضة كعمالِ زراعيين (على سبيل المثال، في مناطق كوناما، وبالقرب من نهر القاش). كما كانوا يعملون أيضاً كتجار صغار في المدن الإريترية على طول الطرق التجارية مثل (كَرَن) (تَسَنَيِ)، حيث يعيشون في أحياء منفصلة خاصة بهم، تسمى حلة التكارير(حي أفارقة الغرب). وهم يقومون بانتخاب زعيمهم.
كانت لغة هؤلاء الجماعات تسمى Tikarrna C Arabofifia أي (عربية التكارير)، لأنهم كانوا في الغالب يستخدمون لهجةً عربية بسبب ارتباطاتهم بالسودان، ومع ذلك فهم يستخدمون لغتَهم الأصلية مع بعضهم البعض( في إريتريا الهوسا والولفلدي). كان بعضُ التكارير قد استقر في المدن الإرترية أثناء عودتهم من الحج إلى مكة؛ ويعيش بعضُ أحفادِهم في ميناءِ مُصوَّع.
توجد مجموعة أخرى من التكارير في الأراضي المنخفضة شرق مرتفعات (والقايت) في (مزاقا وارادا) وهم سالم بيت (المترجم: هل المقصود بيت سالم؟)، والذين هم بقايا مجموعات سكانية محلية قديمة تتحدث اللغة الصحراوية النيلية، وأصلُهم من القُمُز، الذين كانوا يُسمّون في مُسَمّيات أقدم ب:(شنقالا) ، ويبدو أن ذلك كان قبل قدوم المهاجرين من غرب ووسط أفريقيا، وكانوا يُسمون ب"سانقولا". تم إخضاع هؤلاء إخضاعهم أولاً من قبل حكام (مازاقا) وهم البلو المسلمين، ثم في وقت لاحق تم إخضاعهم بواسطة الإثيوبيين المسيحيين. تفيد سجلات (إياسو الثاني)، على سبيل المثال، وكذلك تقارير (ايوسا) تفيد بأن إياسو الثاني توجًّه للحرب ضد البلو والشنقالا، و"السانقولا" حيث تم خلالها أخذ الأسرى الذكور كغنائم.
هناك مُعتقد/تراث شفاهي محلي تم تدوينه في ستينيات القرن التاسع عشر(1860) في شمال (دينقولو) في التيقراي، (أي في نقس، في موقع قبر النجاشي، باعتباره ملجأ لأتباع محمد). يتحدث هذا المعتقد عن وجود قبرٍ لرجلٍ شريف كان قد قدم من مكة بمنطقة التكارين. يقول هذا المُعتَقد/التراث الشفاهي بأن هذا الرجل المكِّي (كان قد سافر عبر إفريقيا كلها، بما في ذلك مناطق تكرور، مثل تمبكتو عند نهر النيجر في القرن 19، وسلطنة سوكتو الفولانية ودارفور، وقد مات في طريق عودته إلى مكة. هذا المُعتقَد التراثي يُؤسِّس للارتباط بين طريق الحج إلى مكة المكرمة، الذي يستخدمه التكارير، وموقع الحجاج المسلمين في) نقَس)، والذي يمكن اعتباره مؤشراً على أن حجَّ التكارير كان معروفاً من قبل في منطقة التقراي(رولفز 1882،:67 ف)
كان العديد من المستوطنين التكارير المنحدرين من غرب افريقيا، والذين كان معظمهم من الهوسا، وأيضًا من الفولاني، قد هاجروا من السودان إلى غرب إثيوبيا منذ بدايات القرن العشرين على الأقل، ليستقروا بين (والاقا) وبني شنقول(المصدر مقالات عن الهوسا والفلاتا). كان الهوسا بالتأكيد من بين فلاتة بني شنقول، وهم معروفون محليًا كتجار منذ عقود، وكذلك مشهورون بمواشيهم.
من ناحية أخرى اجتذب ضريح (ياوا) المقدَس، الواقع بين (بيقي)، و(اسّوسا) أيضا بعض المستوطنين التكارير. وفي النصف الأول من القرن العشرين أسس، الحاج الفكي احمد عمر من بورنو، هذا الموقع الغًنِي بالماءِ والفواكِه، وتم دفنه في هذا المكان بعد موتِهِ في حوالي عام 1948. في فترة السبعينيات كان للضريح الذي يجذب عشرات الآلاف من الحجاج في الأعياد الإسلامية مسجد الصغير وحديقة. كان الشيخ أحمد عمر قد استقر في غيرا في (كيفا اوراكيا) أولاً حيث بدأ يدرِّس في مدرسة القرآن المحلية، ثم ذهب إلى مينكا بالقرب من (دامبي دولو(،ثم سافر إلى مكة، وأخيراً استقر في ( ياوا)، حيث حاز الكثير من الأراضي. تقول المرويات الشفوية أنه أسس نظام ري فعال هناك، مما ساعد الفلاحين المحليين على تحسين دخلهم بشكل كبير.
mohabd505@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القرن التاسع عشر غرب افریقیا الذین کان فی القرن من بورنو فی منطقة على طول إلى مکة من غرب
إقرأ أيضاً:
“سرقة القرن” ربع مليار دولار من العملات المشفّرة.. تفاصيل مثيرة
الجديد برس|
في مساء يوم 25 أغسطس/آب 2024، وبين أجواء صيفية دافئة في مدينة دانبري بولاية كونيتيكت الأميركية، كان الزوجان سوشيل وراديكا شيتال يقودان سيارتهما اللامبورغيني أوروس الفاخرة في أحد الأحياء الراقية، حيث كانا يبحثان عن منزل جديد. لم يكن في حسبانهما أن هذه الجولة الهادئة ستتحول إلى كابوس حقيقي، حيث تعرضا لمحاولة اختطاف مسلحة وغامضة، لم تكن سوى جزء من قصة أكبر وأغرب تتعلق بسرقة ضخمة للعملات المشفرة، ووصفتها صحيفة “نيويورك تايمز” بـ”سرقة القرن”.
فجأة، اصطدمت بهما سيارة هوندا سيفيك من الخلف، ثم حاصرت شاحنة بيضاء الطريق عليهما، نزل منها 6 رجال ملثمين، يرتدون ملابس داكنة، واندفعوا نحو السيارة الفارهة. قاموا بسحب الزوجين بالقوة، واعتدوا عليهما، وقيدوهما بشريط لاصق، مهددين سوشيل بمضرب بيسبول. توسلت راديكا إليهم، موضحة أنها تعاني من الربو، لكن المعتدين لم يبدوا أي رحمة، وأجبروهما على دخول الشاحنة البيضاء.
هذا المشهد العنيف لم يمر دون أن يلاحظه الجيران، فقد كان هناك من شاهد الحادث، ومن بينهم عميل فدرالي متقاعد لم يتردد في تتبع الشاحنة بسيارته، وأبلغ الشرطة بالحادث. بدأت مطاردة مثيرة بين الشرطة والشاحنة، انتهت بانحراف الشاحنة إلى الغابة، حيث فرّ 4 من المهاجمين.
لكن رجال الشرطة لم يستسلموا، فطاردوا الفارين، وتمكنوا من القبض على أحدهم تحت جسر قريب، بينما عُثر على الثلاثة الآخرين في غابة مجاورة بعد ساعات من البحث. أما الزوجان، فقد وجدتهما الشرطة في مؤخرة الشاحنة، مقيّدين ومذعورين، في مشهد درامي لم تعتده المدينة الهادئة.
كانت الشرطة في حيرة من أمرها، إذ لم يكن هناك أي دافع واضح لهذه الجريمة العنيفة في مدينة هادئة مثل دانبري. كما أن المعتدين -الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و26 عاما- جاؤوا من ميامي بولاية فلوريدا، مما أثار تساؤلات عن سبب اختيارهم لهذه المدينة بعينها. ولماذا تركوا سيارة لامبورغيني فارهة في الشارع دون أن يسرقوها؟ لم يكن هناك أي دليل على وجود صلة سابقة بين الجناة والضحايا، مما جعل القضية أكثر غموضا.
مرت أيام قليلة قبل أن تتلقى الشرطة معلومة من مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) تشير إلى وجود صلة بين محاولة الاختطاف هذه وسرقة ضخمة للعملات المشفرة وقعت قبل أسبوع. بدأت خيوط القضية تتكشف، لتكشف عن واحدة من أكبر عمليات الاحتيال الإلكتروني في تاريخ العملات الرقمية.
كان يُشتبه بأن مجموعة من الشباب -بعضهم تعرّف إلى الآخرين من خلال لعبة “ماينكرافت” (Minecraft)- قد سرقوا ما يقارب ربع مليار دولار من ضحية لم تكن تعلم ما يحدث، في سلسلة من الأحداث المذهلة التي شارك فيها مجرمون إلكترونيون مراهقون، ومحققون رقميون مستقلون يتتبعون أنشطة الهاكرز، وعدة وكالات إنفاذ قانون، وبدا الآن أن القضية بلغت ذروتها في اختطاف عائلة شيتال.
وقد بدأت سلسلة الأحداث قبل ذلك بأسابيع قليلة، عندما بدأ أحد سكان واشنطن -وهو مستثمر مبكر في العملات المشفرة- يتلقى إشعارات متكررة بمحاولات دخول مشبوهة إلى حسابه على “غوغل”.
لم يعر الأمر اهتماما كبيرا في البداية، لكنه فوجئ باتصال هاتفي من شخص ادعى أنه من فريق الأمن السيبراني في غوغل، أخبره بأن حساباته تعرضت لمحاولة اختراق. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تلقى اتصالا آخر من شخص ادعى أنه من منصة “جيميناي” (Gemini) لتداول العملات الرقمية، أبلغه بأن حسابه على المنصة -والذي يحتوي على ما يقارب 4.5 ملايين دولار من العملات الرقمية- قد تعرّض للاختراق، وأن عليه إعادة تعيين خاصية التحقق الثنائي ونقل البتكوين إلى محفظة جديدة لحمايته.
أقنعه المحتالون بتحميل برنامج لتعزيز الأمان على جهازه، كان في الحقيقة أداة للتحكم من بعد، مما منحهم وصولا كاملا إلى جهازه وحساباته الرقمية. في دقائق معدودة، اختفت أكثر من 4100 وحدة بتكوين من محفظته الرقمية، كانت قيمتها في ذلك اليوم تتجاوز 243 مليون دولار. أدرك الضحية متأخرا أنه وقع ضحية لعملية احتيال معقدة.
رغم أن مالكي العملات المشفرة مجهولو الهوية غالبا، فإن جميع المعاملات مسجلة على ما يُسمى بـ”سلسلة الكتل” (Blockchain)، وهو سجل رقمي غير قابل للتغيير يُستخدم لتخزين البيانات بطريقة آمنة وشفافة، ويُعد أساسا لمعظم العملات المشفرة مثل البتكوين والإيثيريوم، مما أتاح لمحققين رقميين مستقلين تتبع حركة الأموال فور وقوع السرقة.
من أبرز هؤلاء المحققين شخصية تُدعى “ZachXBT”، وسنكتفي بالإشارة إليها باسم “زد”، وهو محقق مستقل يتابعه مئات الآلاف على منصات التواصل، ويشتهر بكشفه عن قضايا الاحتيال الرقمي.
كان “زد” في المطار عندما تلقى تنبيهات عن معاملات ضخمة ومشبوهة، فبدأ على الفور تتبع حركة البتكوين المسروق عبر محافظ ومنصات مختلفة. لاحظ أن الأموال تُغسل عبر أكثر من 15 منصة وخدمة، في محاولات لإخفاء مصدرها.
وبدأ “زد” يتتبع المعاملات حتى وصل إلى محفظة تحتوي على ما يقرب من 240 مليون دولار من العملات المشفرة، تعود بعض وحدات البتكوين فيها إلى عام 2012. قال: “عند هذه النقطة، لم يكن الأمر منطقيا.. لماذا شخص احتفظ بعملاته كل هذه المدة يستخدم منصة مشبوهة معروفة بتدفق الأموال غير المشروعة من خلالها؟”.
تواصل مع منصات التبادل لتنبيهها وتجميد الأموال، كما نشر تحذيرا عاما على منصة “إكس” (تويتر سابقا) حول عملية السرقة الجارية.
يقول “زد”: “عندما رأيت حجم المبلغ الذي تمت سرقته، أدركت أن الأمر أكبر من مجرد عملية احتيال عادية. كان المجرمين يحاولون نقل الأموال بسرعة عبر منصات متعددة، لكننا تمكنا من تتبع معظم التحويلات وتنبيه المنصات لتجميدها قبل أن تختفي للأبد”.
لم تمض ساعات حتى تمكّن “زد” من التواصل مع الضحية، الذي كان في حالة صدمة شديدة. استعان الضحية بكل من “زد” وشركة تحقيقات متخصصة لمساعدته في تتبع أمواله، كما أبلغ مكتب التحقيقات الفدرالي بالواقعة.
تشير الإحصائيات إلى أن سرقات العملات المشفرة أصبحت ظاهرة متسارعة، إذ تلقى مركز شكاوى الجرائم الإلكترونية أكثر من 69 ألف بلاغ في عام 2023، بخسائر تجاوزت 5.6 مليارات دولار. كما أن طبيعة العملات الرقمية، التي تجعل المعاملات غير قابلة للاسترجاع وسهلة التحويل عبر العالم، تجعلها هدفا مثاليا للمجرمين، وتحديا كبيرا أمام المحققين.
تعتمد وكالات إنفاذ القانون الأميركية بشكل متزايد على خبراء ومحققين مستقلين مثل “زد”، الذين يملكون مهارات تقنية عالية وشبكات علاقات واسعة في عالم الجريمة الرقمية. هؤلاء المحققون يندمجون في منتديات مجرمي الإنترنت عبر حسابات وهمية، ويجمعون الأدلة من داخل مجموعات الدردشة السرية.
بعد نشر “زد” عن السرقة، تواصل معه مصدر مجهول، وقدم له تسجيلات شاشة وثقت عملية السرقة، بينها مكالمة المحتالين مع الضحية ورد فعلهم بعد نجاحهم في الاستيلاء على المبلغ الضخم.
في محادثاتهم الخاصة، استخدموا أسماء مستعارة، لكنهم ارتكبوا خطأ قاتلا. أحدهم عرض عن غير قصد شاشة الكمبيوتر الخاص به، مما كشف اسمه الحقيقي في نافذة البدء أسفل الشاشة: “فير تشيتال”، شاب في الـ18 من عمره من دانبري، وهو ابن الزوجين اللذين تعرضا للاختطاف.
كان فير تشيتال طالبا هادئا ومتفوقا في دراسته، لكنه بدأ فجأة في استعراض ثروة غير مبررة أمام أصدقائه، يقود سيارات فارهة ويرتدي ملابس باهظة الثمن، ويدعي أنه جنى أمواله من تداول العملات الرقمية. لاحظ أصدقاؤه هذا التحول، خاصة بعد أن أصبح يقود سيارات رياضية، وينفق ببذخ على الرحلات والحفلات، ويستأجر يخوتا ومنازل فاخرة.
تكشف التحقيقات أن فير كان عضوا في جماعة إلكترونية تُعرف باسم “ذا كوم” (The Com)، وهي شبكة من مجموعات الدردشة الإجرامية تعود جذورها إلى أوساط الهاكرز في الثمانينيات، وتضم شبابا من دول غربية يخططون لعمليات احتيال رقمية متنوعة، من بينها سرقة العملات الرقمية، وتبديل شرائح الهاتف (SIM)، وهجمات الفدية، واقتحام أنظمة الشركات.
تقول خبيرة الأمن السيبراني أليسون نيكسون إن معظم أعضاء هذه الجماعات شباب من الغرب، وغالبا ما يبدأ دخولهم لهذا العالم عبر ألعاب الفيديو مثل “ماينكرافت” (Minecraft) و”رون سكيب” (Rune Scape). مع تطور خوادم الألعاب، نشأت أسواق سوداء لبيع عناصر داخل اللعبة وأسماء مستخدمين نادرة، مما شكل بيئة خصبة للاحتيال الإلكتروني وتبادل الخبرات بين المراهقين الطامحين للثراء السريع.
في عالم “ماينكرافت”، ظهرت خوادم تنافسية تقدم ترقيات مدفوعة وأزياء افتراضية، وبدأت سوق سوداء لبيع عناصر اللعبة وأسماء المستخدمين النادرة، التي قد تصل قيمتها إلى آلاف الدولارات. انتشرت عمليات الاحتيال بين اللاعبين، وظهرت خدمات “الوسيط الموثوق” لتسهيل التبادل، لكن هذا العالم كان أيضا بوابة لارتكاب جرائم إلكترونية أكثر تعقيدا.
مع الوقت، انتقل بعض هؤلاء الشباب من الاحتيال البسيط إلى سرقات رقمية ضخمة، مستخدمين مهاراتهم التقنية وشبكات علاقاتهم في تنفيذ عمليات معقدة مثل سرقة ربع مليار دولار من العملات المشفرة.
تعكس هذه القضية أيضا جانبا مهما من تطور الجريمة في العصر الرقمي، إذ لم يعد المجرمون بحاجة إلى السلاح التقليدي أو العصابات المنظمة، بل يكفيهم جهاز كمبيوتر واتصال بالإنترنت وبعض المهارات التقنية ليحققوا أرباحا خيالية في وقت قصير. في المقابل، يتطلب التصدي لهذه الجرائم تطوير أدوات التحقيق الرقمي، والتعاون بين القطاعين العام والخاص، وتوعية المستخدمين بمخاطر الاحتيال الإلكتروني.