في مقاله الذي نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" (Financial Times) البريطانية، يقول الكاتب إسوار براساد إنه مع اقتراب نهاية عصر النقد، تعمل عديد من البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم على طرح عملاتها الرقمية الخاصة.

ويبدو أن وقت العملات الرقمية للبنوك المركزية قد حان، وذلك بالنظر إلى مميزاتها مقارنة بالنقد، لكنها تُشكّل أيضًا تهديدات للمؤسسات ذاتها التي تقوم على إصدارها.

ويضيف الكاتب أن حفظ الأموال في المحافظ الرقمية الخاصة بالعملات الرقمية للبنوك المركزية أكثر أمانًا من إيداعها في البنوك التجارية؛ ذلك أن البنوك المركزية لا تفلس أبدا.

والتحدي الذي تواجهه البنوك المركزية يكمن في جعل عملاتها الرقمية خيارا مجديا في مجال الخدمات المالية المقدمة للأفراد والمدفوعات من فرد إلى آخر من دون الإطاحة بأنظمة الدفع الخاصة حاليا.

البنوك المركزية مطالبة بجعل عملاتها الرقمية خيارا مجديا في مجال الخدمات المالية المقدمة للأفراد (غيتي) فترة صلاحية للنقود

يصف الكتاب الأبيض الصادر مؤخرا عن سلطة النقد في سنغافورة كيف يمكن تصميم العملات الرقمية لأغراض وأهداف محددة، مثل صلاحيتها لفترة زمنية معينة، وتخصيصها لبائعي تجزئة محددين، ولفئات معينة بشكل مسبق.

يوضح الكاتب أنه من شأن توزيع هذه العملات الرقمية تحفيز الاستهلاك، لأن غالبا ما يدخّر الأشخاص التحويلات النقدية الحكومية المقدّمة في فترات عدم اليقين، مثل الحزم التحفيزية خلال جائحة كوفيد-19، مما يقلل من فعاليتها.

كذلك يمكن تصميم العملات الرقمية وتخصيصها لأغراض محددة، مثل اقتصار استخدامها على شراء السيارات أو السلع المعمرة، مما يعزز الفعالية الاقتصادية لهذه التحويلات النقدية في قطاع بذاته.

برمجة المال

كما أن من خصائص العملات الرقمية خيارات أخرى منها فرض أسعار فائدة اسمية سلبية لتثبيط الادخار، فيمكن برمجة المال لتسهيل الترتيبات التعاقدية في مجال محدد، إذ يتم تحرير الأموال تلقائيًا فقط عندما تُستوفى الشروط من قبل جميع الأطراف المتعاقدة.

يقول الكاتب إن مثل هذه الابتكارات تفتح آفاقًا جديدة لكيفية تحسين المال لأداء الاقتصادات والمجتمعات، لكن لا بد أيضًا من التفكير في الجوانب السلبية لأي تقنية جديدة.

ويؤكد الكاتب أن الأشخاص الذين يفضلون الادخار على الإنفاق قد يتداولون، في بعض الحالات، أموالهم "القابلة للبرمجة" بسعر منخفض بمحض إرادتهم.

يشير الكاتب إلى أن تداعيات هذه المخاطر قد تكون محدودة. ويمكن لأدوات التشفير الجديدة تقييد استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية من قبل أشخاص لم يتم التحقق من هويتهم، كما يمكن الحفاظ على خصوصية المعاملات.

العملات الرقمية يمكن تصميمها وتخصيصها لأغراض محددة، مثل استخدامها في شراء السيارات أو السلع المعمرة (غيتي)

ومن شأن تحديد سقف الأرصدة في محافظ العملات الرقمية الخاصة بالعملات الرقمية للبنوك المركزية تقليل مخاطر هروب الودائع المصرفية من البنوك.

ومع ذلك، ينبّه الكاتب إلى أن الابتكارات المالية لا تخلو من المخاطر. لأنه يمكن اعتبار البنوك المركزية وكلاء سياسيين للحكومات إذا تم استخدام سلطتها في أنظمة الدفع لأغراض إنفاذ القانون أو المراقبة.

وأخيرا، تواجه البنوك المركزية بالفعل تهديدات تستهدف استقلاليتها ومصداقيتها وشرعيتها. وكلما اتسع نطاق عمل الأموال التي يصدرونها، زادت الضغوط السياسية التي يتعرضون لها. وأقل ما يمكن لمثل هذه الابتكارات فعله تهديد نزاهة أموال البنوك المركزية. ومن المفارقة المثيرة للاستياء أن تؤدي رقمنة أموال البنوك المركزية إلى تقويض السمات التي تجعلها جديرة بالثقة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: البنوک المرکزیة

إقرأ أيضاً:

الاقتصاد سياسة.. ولا يمكن فصلهما

 

 

سهام بنت أحمد الحارثية

harthisa@icloud.com

 

 

منذ أن تشكّلت الدول وبدأت تمارس وظائفها، ظل الاقتصاد جزءًا لا يتجزأ من أدواتها السياسية، فالسياسات الاقتصادية ليست مجرد قرارات تقنية تُتخذ بمعزل عن الواقع، بل هي في جوهرها قرارات سياسية تعكس مصالح، وأولويات، وتوازنات قوى. القول إن الاقتصاد محايد أو مستقل عن السياسة يتجاهل حقيقة أن كل قرار مالي أو استثماري أو تجاري يتطلب إرادة سياسية لتوجيهه، وتحمل تبعاته.

في التاريخ القديم، كانت السيطرة على الموارد الاقتصادية تُعد بمثابة إحكام للسيادة السياسية. الإمبراطورية الرومانية لم تكن لتصمد دون تأمين تدفق القمح من مستعمراتها، وعلى رأسها مصر، التي شكّلت “سلة الغذاء” للإمبراطورية. وفي ذلك الزمن، لم يكن الغذاء مجرد سلعة؛ بل أداة للحكم، والاستقرار السياسي كان رهناً بالوفرة الاقتصادية.

أما في العصر الحديث، فقد تجلّت العلاقة بين الاقتصاد والسياسة بوضوح في أزمة النفط عام 1973، حين قررت الدول العربية المنتجة للنفط خفض الإنتاج وفرض حظر على الولايات المتحدة وهولندا بسبب دعمهما لإسرائيل. أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط بنسبة 300%، وانزلاق الاقتصاد العالمي في موجة تضخم وركود حاد. وهنا لم يكن النفط مجرد مادة خام؛ بل أداة سياسية أثَّرت في مواقف دول، وساهمت في إعادة تشكيل النظام الدولي.

في التجربة الصينية، شكّل النمو الاقتصادي منذ نهاية السبعينيات خطة سياسية منظمة، لم يكن تحرير السوق وتوسيع قطاع التصدير هدفًا اقتصاديًا فحسب، بل وسيلة استراتيجية لإرساء شرعية الحزب الشيوعي داخليًا، وتعزيز مكانة الصين في النظام العالمي. خلال أربعة عقود، نجحت الصين في انتشال أكثر من 800 مليون إنسان من الفقر، وفق بيانات البنك الدولي، وأصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهو إنجاز اقتصادي ما كان ليتحقق لولا رؤية سياسية محكمة.

الواقع الأوروبي يعزز أيضًا هذا الترابط الوثيق، فالاتحاد الأوروبي بُني على فكرة أن التكامل الاقتصادي سيمنع اندلاع الحروب مجددًا بين دول القارة. إنشاء السوق الموحدة، وتبني العملة الموحدة “اليورو”، لم يكن مسعى اقتصاديًا بحتًا، بل هدفًا سياسيًا طويل المدى لتحقيق السلام والاستقرار. رغم التحديات، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي نحو 18 تريليون دولار في عام 2023؛ مما يعكس عمق هذا التكامل الذي جمع بين السياسة والاقتصاد.

في منطقتنا العربية، تتضح العلاقة في اعتماد العديد من الدول على السياسات الاقتصادية كأدوات للتماسك الاجتماعي والسياسي. برامج الدعم الحكومي للوقود والغذاء، والتوظيف في القطاع العام، والإعفاءات الضريبية، كلها قرارات اقتصادية تُستخدم سياسيًا لاحتواء التوترات الاجتماعية وتعزيز شرعية الدولة. وفي دول الخليج، مثلًا، لا تُفهم خطط التنويع الاقتصادي بمعزل عن التحولات السياسية والاجتماعية التي تهدف إلى ضمان الاستدامة والاستقرار في عالم ما بعد النفط.

ومن واقع تجربتي، حين ناديت أثناء المقاطعة الشعبية الأخيرة بعد حرب غزة بضرورة تطوير المنتج المحلي ليحل محل السلع المُقاطَعة، اعتبر البعض أن هذا الموقف تعاطف عاطفي لا علاقة له بالاقتصاد، وأن الأجدى هو تغيير سلوك المستهلك فقط. لكن هذا الفهم يغفل عن حقيقة أن الأزمات تخلق فرصًا لإعادة توجيه الموارد، وتعزيز الإنتاج الوطني، وتثبيت السيادة الاقتصادية. وقد وقعت بعض الجهات والدول في هذا الخطأ، حين تعاملت مع المقاطعة كفعل شعبي مؤقت بدل أن تستثمره في بناء بدائل وطنية مستدامة.

حتى في مفاوضات صندوق النقد الدولي مع الدول، يظهر الاقتصاد كأداة ضغط سياسي.. الاشتراطات المصاحبة لبرامج الإصلاح، مثل تحرير سعر الصرف، أو خفض الدعم، أو خصخصة المؤسسات، ليست فقط إصلاحات تقنية، بل تؤثر مباشرة في القاعدة الاجتماعية والسياسية للحكم، وتعيد رسم العلاقة بين الدولة ومواطنيها.

في النهاية.. الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة. لا يمكن فصل الإنفاق عن التمويل، ولا الضرائب عن العقد الاجتماعي، ولا الاستثمار عن رؤية الدولة لمكانتها في الداخل والخارج. كل قرار مالي هو رسالة سياسية، وكل سياسة اقتصادية تعكس هوية الدولة وأولوياتها… لهذا، فإن من يزعم أن الاقتصاد حيادي، يغفل عن واحدة من أهم حقائق التاريخ: الاقتصاد كان وسيظل أداة للسياسة، وأحيانًا جوهرها.

 

مقالات مشابهة

  • القهوة صباحا تحمي الصحة مع التقدم في العمر.. دراسة أمريكية تكشف الفوائد
  • ضغوط أوروبية لإنقاذ الكاتب بوعلام صنصال.. الجزائر في مرمى الانتقادات
  • الهندية بانو مشتاق الحائزة على بوكر ترى أن على الكاتب وصف الوردة وأشواكها
  • الهندية بانو مشتاق الحائزة بوكر: على الكاتب وصف الوردة وأشواكها
  • ماذا يحدث لجسم طفلك بعد تمرينات السباحة؟
  • اعتقال منتسبين في الحشد الشعبي بعد استغلالهم اسم الهيئة لـأغراض انتخابية
  • اقتصادي يكشف مفاجأة بخصوص سوق العملات الرقمية و المشفرة
  • الاقتصاد سياسة.. ولا يمكن فصلهما
  • أسرة تحرير صدى البلد تنعى الكاتب الصحفي معتز مجدي
  • 80 طنا شهريا.. لماذا تشتري البنوك المركزية الذهب سرا؟