مبالغات الشعراء العمانيين في الثناء على ممدوحيهم
تاريخ النشر: 13th, April 2024 GMT
المديح، حقل أخصب الشعر العربي بآلاف القصائد، منذ مدائح زهير بن أبي سلمى في الحارث بن عوف وهَرِم بن سنان، في معلقته الشهيرة: (أمِنْ أُمِّ أوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ)، مدحهما لإتمامهما الصلح بين قبيلتي «عبس وذبيان»، وتحملهما أعباء ديات القتلى، كما ورد في شرح «الزوزني»، منذ ذلك العهد، وأجيال الشعراء تتالى في كتابة شعر المديح، فهو حقل عميق وعريق، يكشف عن نزوع الشعراء إليه، وتهافتهم في كتابته، توسُّلًا أو تسَوُّلًا لكرم الممدوح، ولا أحسب شاعرًا لم يكتب في هذا الغرض، بل إن أكثر الشعراء الكبار إن لم يكن جُلُّهم، كتبوا في مديح الملوك والخلفاء والسلاطين والأمراء، وذوي الشأن والرفعة والكرماء، وأصحاب الأيادي البيضاء، ومن له فضل وإحسان على الشاعر، لأن الكرم يضفي محبة، تسيل لذتها في لسان الشاعر.
والشعراء العمانيون كبقية الشعراء، ركبوا حمار المديح، إلى أبواب الملوك والسلاطين، وسوف نجد أن بعضَهم اتخذ من المديح حِرفة شعرية، طغت على كل شعره، بل إن أحد الشعراء خصَّص ديوانًا نُشِر محققًا في ثلاثة أجزاء، في مديح سلطان واحد، وديوان آخر في مديح شخصية كريمة، فكتب فيهما مديحًا كبيرًا، وبغض النظر عن استحقاقية ذلك المديح للسلطان أو الأمير أو غيرهما، إلا إن المبالغة المفرطة في المديح جعل من شعره مصنوعًا ومتكلفًا بلغ به حد الترف اللغوي، وابتعد به عن كتابة الشعر الصادق، بل نجده يصُفُّ الكلمات كالحجارة، ويحشدها حشدًا من قعر القواميس، فلا تلبث أن تتهاوى قصيدته من القراءة الأولى.
تجربة الشعر العماني عريقة بعراقة الشعر العربي، الشاعر العماني الذي عاش في كل العصور، بدءًا بالعصر الجاهلي، كتب شعرًا مديحًا، وفي هذه المقالة لا أتقصَّى تجربة الشعر العماني في عصوره القديمة، ولكني سأضرب مثالًا بقصيدة الشاعرة «الزهراء السقطرية»: فاطمة بنت حمد الجهضمية، إن صَحَّ ما نُسِب إليها أنها كتبَتْ قصيدة «الاستغاثة» في الإمام الصلت بن مالك الخروصي (حكم: 237هـ/ 272م)، بعد أن تعرَّضَت جزيرة «سقطرى» لنهب نصارى الحبشة عام 253هـ، وعلى رقة تلك القصيدة وجزالة ألفاظها، إلا أنها ابتدأت بالمديح، وكأنه مفتاح لقلب الإمام الذي لم يبرح مدينة نزوى، وقد ذكَّرته الشاعرة بمحتَدِه الكريم، في مطلع تشرح مفرداته معانيه:
قُلْ للإمامِ الذِي تُرْجَى فَضائِلُهُ
ابنُ الكِرَامِ وابنُ السَّادَةِ النُّجُبِ
وابْنُ الجَحَاجِحَةِ الشُّمِّ الذينَ هُمُ
كانُوا سَنَاها وكانُوا سَادَةَ العَرَبِ
بدأت الشاعرة في قصيدتها البائية بتذكير الإمام بأرومته، وأنه ابن الكرام وابن السادة النجب، وابن الجحاجحة (سيد جَحْجَاح: مسارع إلى المَكارم: أساس البلاغة)، وأنه من سادة العرب، لذلك كله: (تُرْجَى فَضَائِلُه)، ولقد فعلتْ القصيدة فعلتها في نفس الإمام، فهبَّ يجيِّش الجيوش، وأرسله إلى «سقطرى»، استجابة لنداء الشاعرة، التي عرَفت كيف تثير نخوة الإمام العادل، بعد تذكيره بأرومته ومحتده، وبما يتبع الوصف من ظلال، تدل على كرمه وقوة بأسه.
وإذا كانت قصيدة الاستغاثة للشاعرة السقطرية، كُتِبَتْ في ظروف تستدعي ذلك، نِداءً شعريًا إنسانيًا للإمام الحاكم ذو البأس الشديد، فإن الشعراء كتبوا قصائد مديح، لمجرد أنهم يعيشون في ظل كرم الممدوح، وبحبوحة العيش تحتِّم عليهم أن يُثنوا على الحاكم، وهذا الشاعر أبو بكر أحمد بن سعيد الخروصي (ق: 5-6هـ)، والذي أراه في قامة المتنبي بلغته الشعرية المشرقة، يطغى المديح على أكثر ديوانه المطبوع، طبع الديوان لأول مرة بتحقيق: عزالدين التنوخي عام 1964م، ثم صدر بعد ذلك عن وزارة التراث القومي والثقافة، وما تزال طباعته تتالى حتى اليوم.
ديون الشاعر الستالي، لم يخرج عن إطار المديح وغرضه، فقد جَيَّرَ شعره كله في مديح سلاطين النباهنة، حيث يعيش الشاعر في ظل قصورهم، ويتنعَّم برخاء العيش منهم، وهم كانوا كرماء معه، هذا الشاعر الكبير، الذي أبدع في كتابة براعات الاستهلال الشعرية في قصائده، وفي التلاعب اللفظي بمفردات قصائده، وأبدع في سبك جواهر المفردات اللغوية في سموط قصائده، يحلِّي مطالع قصيدته بعسل الغزل، ثم يضفي على ممدوحه صفات تؤكد أنه شاعر يتكسَّب بشعره، وفي ديوان الشاعر المطبوع ما يزيد عن حاجتنا، في استقطاع أبيات من مدائحه في النباهنة، لنأخذها شاهدًا عليه.
ولنطوي الزمان قليلًا، ونصل إلى عصر اليعاربة، لنلاقي الشاعر: راشد بن خميس الحبسي (حي: 1737م)، يدبِّج القصائد في مديح الأئمة اليعاربة، ونجده يجاري المتنبي في قصيدته الشهيرة: (بِمَ التَّعَلُّلُ لا أهْلٌ ولا سَكَنُ.. ولا نَدِيمٌ ولا كَأسٌ وَلا وَطنُ) في بدائع مديح المتنبي لسيف الدولة الحمداني، لينسج الشاعر العماني الحبسي على منوالها قصيدة، في مدح الإمام: يعرب بن بلعرب بن سلطان اليعربي، وواضح من براعة استهلال الشاعر في البيت الأول، توظيفه لمفردة كِيسا، للإشارة إلى كيس المال، فيقول:
فِيمَ الإقامَةُ لا كأسًا ولا كِيْسا
ولا مَحَلًا لنا في الدَّارِ مَأنوسا
ولا مليحًا نَرَى فيما نُسَرُّ بهِ
يَزينُ لونًا ومَشْمُومًا ومَلمُوسا
ولا جَليسًا أخَا عِلمٍ نُجالِسُه
يفيدُنا منه تعليمًا وتدْريسا
حتى قال:
ومَنْ كيَعْرُبَ ضِرغامُ الوَغَى مَلِكٌ
أزْكى الوَرَى حَسَبًا في الناسِ قِدْمُوسا
مُهَذَّبٌ تُكثِرُ الخيْراتَ رُؤيَتُهُ
وذِكرُه يَدْفعُ البَأسَاءَ والبُؤْسا
شَهْمٌ ترَاهُ لِدَى الهَيْجَاءِ أشْجَعُ مَنْ
يَسْطو وَيُشْبِهُ يوْمَ السِّلمِ إدْريسا.
ويتقدم بنا الزمان، لنلاقي في القرن التاسع عشر الميلادي، الشاعر والمؤرخ: حميد بن محمد بن رزيق النخلي (ت: 1291هـ/ 1874م)، فهذا شاعر سَخَّر شعره في المديح، كديوانه «سلك الفريد في مدح السيد الحميد ثويني بن سعيد»، صدرت طبعته الأولى في ثلاثة أجزاء، عن «وزارة التراث القومي والثقافة» عام 1997م، بتحقيق محمد علي الصليبي، وديوان آخر بعنوان: «نور الأعيان وضوء الأذهان»، في مدح الشيخ محسن بن زهران العبري (ت: 1290هـ)، صدر الجزء الأول منه بعنوان: «الدرُّ المنظم» بتحقيق حمد بن زهران العبري، ومن المدخل الخاص بالشاعر في «الموسوعة العمانية»: له ديوان مخطوط بعنوان: «فصوص المرجان»، خصصه في مدح السيد محمد بن سالم بن سلطان، وديوان مخطوط آخر بعنوان: «فرقان الجمان في مدح العلامة ناصر بن أبي نبهان».
وفي مطلع القرن العشرين، سطع في سماء الوجود، نجم الشاعر أبو مسلم البهلاني (ت: 1920م)، الذي عرف بقصائده الإلهية والاستنهاضية، وعلى أن أكثر شعره في العرفان الصوفي، والمدائح النبوية، إلا أنه كتب في شعر المديح قصائد كثيرة، منها قصيدته «المقصورة» التي نظمها مرتبة على سور القرآن الكريم، نظمها وقدمها مستشفعًا بها السلطان حمد بن ثويني بن سعيد (توفي السلطان عام: 1896م)، وهي ليست القصيدة المقصورة الطويلة الشهيرة: (تلكَ رُبُوعُ الحَيِّ في سَفْحِ النَّقا.. تَلوحُ كالأطلالِ مِنْ جَدِّ البِلى)، إنما مقصورة «استشفاعيَّة»!، مطلعها:
«فاتِحَةُ» الحَمْدِ أيَادِي مَنْ عَفَى
والحِلمُ أصْلٌ للمَقامَاتِ العُلى
إلى أن يقول بعد أكثر من مائة بيت في القصيدة، مخاطبًا السلطان حمد:
أوْرَدْتُ هِيمَ أمَلي صَادِيَةً
بَحْرَ يَدَيكَ وهو أرْوَى للصَّدَى
إنْ تَسْقِها العَفوَ فأنتَ أهلُهُ
وإنْ تَذِدْها فعَلَى الحَظِّ العَفَا
عاش أبو مسلم بعد وفاة السلطان حمد 26 عامًا، ولعله مرَّ بضائقة ألمَّت به، ولم يكن بيده إلا أن ينفث هذه الصَّرخة الشعرية المكلومة.
وفي ديون الشاعر السيد هلال بن بدر البوسعيدي (ت: 1966م)، مدائح كثيرة، من بينها مديحه في السلطان سعيد بن تيمور، في صيامه لشهر رمضان:
هَنيئًا لشَهْرِ الصَّوْمِ أنَّكَ صُمتَهُ
وَعَادَ إليكَ العِيدُ مُزدَهِرًا دَهْرا
صدر ديوان السيد هلال بن بدر عن وزارة التراث القومي والثقافة عام: 1985م، بتحقيق: محمد علي الصليبي، يقول محقق الديوان: إن مثل هذه الصورة، نجدها في مدائح البحتري للخليفة المتوكل، والحديث عن مدائح الشعراء، له فنون وذو شجون.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی مدیح حمد بن فی مدح مدیح ا
إقرأ أيضاً:
الشاعرة رقية الحارثية: الطريق إلى الشعر في مسيرتي كان ممهدًا لا مجهولًا
"العُمانية": برزت الشاعرة العُمانية رقية بنت علي الحارثية، كأحد الأصوات الشعرية النسائية في سلطنة عُمان والخليج العربي، والتي بدأت مسيرتها الشعرية في سن مبكرة، وسرعان ما أثبتت حضورها في المشهد الأدبي العُماني والخليجي، كما تميزت بإنتاج شعري غني ومتجدد يجمع بين الشعر العمودي والتفعيلة، ويعكس رؤى إنسانية وروحية عميقة، قدمت العديد من الدواوين الشعرية، منها "قلب آيل للخضرة" و"آنست ظلًا"، والتي تتسم بالعمق والصدق الفني.
تقول الشاعرة إنها آمنت بأن الشعر إلهامًا، حين بدأت إرهاصات الكتابة البسيطة في الصف الثالث الابتدائي وهي تسير مع صديقات الطفولة في حارات القابل، حيث أتتها الكلمات الأولى بردًا وسلامًا، هذه اللحظة بداية عهدها بالشعر كما وصفتها وإن كانت لم تلتزم وقتها بوزن وقافية، ومنها توالت المحاولات وما بعدها من مشاركات مدرسية ومسابقات شعرية، بالإضافة إلى مشاركاتها في احتفالات الولاية بالعيد الوطني.
وأضافت أنها نشأت في بيئة محبة للشعر "فأبواي يحفظانه ويرددان، وإخوتي يتذوقونه ويحفظونه أيضًا، إضافة إلى أن أجدادي ينظمون الشعر ويكتبونه ولديهم مراسلات ويوميات شعرية في ذلك"، في إشارة إلى أن الطريق كان سالكًا وممهدًا، ليس وعرًا ولا مجهولًا منذ البداية والشعر محبب ومرحب به بشدة سواء كان كاتبه رجل أو امرأة ولذلك وجدت تعزيزًا قويًّا من أسرتها لنشر قصائدها في الملحقات الثقافية أو المشاركة في المسابقات.
وأشارت في حديثها حول تأثرها بالشعراء إلى أن الشاعر لا يكون عادة وليد ذاته مع الشعر، بل يؤثر ويتأثر بكتابات الآخرين ويندمج معهم ومن ثم يتشكل قلمه الخاص، حيث تأثرت الشاعرة في بدايات رحلتها مع الشعر بالشاعر أبي مسلم البهلاني وقرأت لأمير البيان عبدالله الخليلي، كما اطلعت على مجموعة متنوعة من الشعر للشعراء مثل إيليا أبو ماضي وأبو العلاء المعري والمتنبي وأبو فراس الحمداني والجواهري وأحمد بخيت وغيرهم.
كل شيء ربما معرّض للنقد، والحقيقة أن الشاعرة تبحث عن النقد البنّاء للنصوص وليس الشخوص، ففي كثير من الأحيان توجه السؤال للقارئ حول ما فهم من القصيدة أو ما هي ملاحظاته في تأكيد على أن النص حين يرسله الشاعر للقارئ لا يعود ملكًا له.
وعن تطور أدب الشعر في سلطنة عُمان ترى الشاعرة أن الشعر له موقعه وهيمنته وأن العُمانيين في حقيقتهم أصحاب كلمة وشعر، والشعر معهَم شكل من أشكال التواصل الإنساني لذلك رغم ما يقال من سيادة النثر يبقى الشعر على رأس الهرم الإبداعي والمفضل لمتذوقي فن الحرف الأصيل.
ووصفت الشاعرة تجربتها الشعرية بأنها في بداية ولادتها ولا زالت تعمل عليها برويّة، وأشارت إلى أنها خاضت تجربة أدبية جديدة متمثلة في كتابة القصص القصيرة لكنها عادت أدراجها للشعر حيث ترى أنه يشبهها كثيرًا على حد وصفها، أما عن مدى ارتباط تجاربها الشخصية بكتابتها الشعرية فأكدت على أنه ليس كل نص شعري وليد تجربة شخصية، وأن الشاعر منظار لمشاعر الناس، عدسة محدبة لما يمر به المرء في هذه الحياة من فرح وحزن، وأن التجارب ليست وحدها من توجِد طريقة الكتابة الشعرية بل هناك عوامل أخرى كثيرة حسب المواقف والظروف.
وترى الشاعرة أن الشعر رسالة إنسانية وأن ما يهم هو الإنسان، فهو جوهر الحياة، لهذا تتطرق في شعرها أحيانًا لقضايا دينية وقومية، فالشعر لابد أن يتناول قضايا الإنسان ويتحدث عنها ويكتبها.
الجدير بالذكر أن الشاعرة رقية الحارثية حصلت على العديد من الجوائز الأدبية، أبرزها، المركز الأول في مسابقة الشارقة لإبداعات المرأة الخليجية في مجال الشعر عن ديوانها "قلب آيل للخضرة"، والفوز بجائزة العام للمرأة العُمانية المرموقة فرع الآداب 2021م، كما حصلت على عدد من التكريمات المحلية والدولية نظير إسهاماتها في إثراء الأدب الشعري النسائي.