عام على حرب السودان.. وقائع وإستراتيجيات الصراع
تاريخ النشر: 14th, April 2024 GMT
حين اندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في الخامس عشر من أبريل/نيسان العام 2023م لم تفاجئ أحدًا، إذ إنَّ انفجار الوضع المسلح سبقته مقدّمات ليس من شأنها غير جرِّ البلاد إلى الحرب، ففي الثالث عشر من أبريل/نيسان، أي قبل يومين من اندلاع الحرب، أحكمت مائة سيارة مقاتلة تتبع لقوات الدعم السريع حصارها على مطار مروي في الولاية الشمالية، ورفضت الانسحاب منه، وقبل ذلك انخرطت قوات الدعم السريع ولعدة أشهر في عملية نقل كثيفة لقواتها من دارفور صوب العاصمة الخرطوم.
وعلى الصعيد السياسي، كانت تتصاعد المواجهة حول دمج الدعم السريع في الجيش السوداني، وتتباعد الرؤى، فبينما يرى الجيش أنَّ عامين يكفيان لإكمال عملية الدمج، ترى "الدعم السريع" أنَّ العملية تحتاج عشرًا من السنوات.
تفجّر الأوضاعفي الليلة التي سبقت تفجّر الأوضاع عسكريًا أقام شمس الدين كباشي عضو مجلس السيادة، مائدةَ إفطارٍ رمضاني بالنادي الوطني بالخرطوم، حضرها البرهان وقادة مجلس السيادة، وممثلو البعثات الدبلوماسية، ولم يغب عنها من رجال الدولة غير محمد حمدان دقلو حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، وأخوه عبد الرحيم دقلو قائد ثاني ذات القوات، وكان من المفترض أن يعقب الإفطار لقاءٌ بين قائدَي الجيش والدعم السريع، البرهان وحميدتي، لتجاوز الأزمة، والبحث عن حلول قبل الانفجار المسلح. تتوسط في اللقاء لجنةٌ مكونةٌ من قادة الحركات المسلحة، غير أنّ اللجنة فشلت في الجمع بين الطرفين.
وكان من المقرر أن يجتمع البرهان بقادة الجيش من رتبتَي اللواء والعميد في وقت متأخر من ذات المساء، إلّا أنَّ الاجتماع تأجل إلى الثامنة من صباح الغد، الخامس عشر من أبريل/نيسان.. قال محدثي الضابط الرفيع في الجيش السوداني: إنّ المدعوين من الضباط أخذوا يتوافدون على القيادة العامة بعد صلاة الفجر، لحضور اجتماع التنوير في الثامنة صباحًا، وبينما نحن نتهيأ للاجتماع انفجرت الأوضاع، وتلقت القيادة الهجوم الأول، والحديث لمحدثي الضابط الرفيع.
وسرعان ما صدرت التعليمات، من الفريق رشاد عبد الحميد إسماعيل، قائد القوات البرية بأنْ يتوجه الضباط فورًا إلى وحداتهم العسكرية، ويضيف محدثي: وتوجهت على الفور إلى منطقة المهندسين العسكرية بأم درمان.
إذن أصبحت الخرطوم في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023م على دوي المدافع، وأزيز الرصاص، ولعلعة الأسلحة: ثقيلها وخفيفها، خاصة جنوبي الخرطوم، وفي المطار، وفي القيادة العامة للجيش السوداني، ومواقع عديدة أخرى.
بدت الساعات الأولى بسيطرة شبه كاملة لقوات الدعم السريع على الفضاء الإعلامي، حيث بادرت ببثِ صورٍ تؤكد سيطرتها على مواقع كثيرة، منها مطارا الخرطوم ومروي الدوليان، تلت ذلك تصريحات لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) تؤكد سيطرة قواته على الأوضاع برًا وجوًا، وتطالب البرهان بالاستسلام، ولكن عند منتصف النهار تراجعت الصورة، وبدا أنَّ أمام "الدعم السريع" الكثير لتؤكد هذه المعلومات.
الكَرَّةُ التي بدت حاسمة استخدام الجيش سلاحَ الطيران، إذ إن اللواء طلال علي الريح، قائد القاعدة الجوية بمنطقة وادي سيدنا العسكرية، قام بتنفيذ طلعات جوية استطاعت تدمير نسبة معتبرة من المقرات الهامة للدعم السريع، خاصة مقر قيادتها الرئيسة في منطقة الخرطوم شرق، المواجهة للقيادة العامة للجيش، ومقرها في هيئة العمليات التي كانت تتبع لجهاز المخابرات العامة، وقد تم تمليكها للدعم السريع بعد حلّ الهيئة.
تحول سريعالطلعات الجوية استمرّت أيامًا وأحدثت تحولًا سريعًا في مسار الحرب، ولكنها لم تلغِ عنصر التفوق الرئيس للدعم السريع.. فممَّا هو معروف أنَّ لكل واحدة من القوتين المتقاتلتين ميزات نسبية، فإنْ كان الجيش يتفوق على الدعم السريع بسلاحَي الطيران والمدفعية، فإنَّ "الدعم السريع" تمتلك ميزة كثافة النيران وسرعة الحركة عبر عربات اللانكروزر المقاتلة المزودة بالمدافع الثنائية والرباعية، التي تستخدم في مهام عديدة.
ففضلًا عن كونها أسلحة هجومية، تستخدم مضاداتٍ للجو والدروع، وكذلك كثافة قوة المشاة، التي يميل فيها ميزان القوة بشدة لمصلحة قوات الدعم السريع، إذ تقدر بعض المصادر عدد السيارات المقاتلة عالية التجهيز بما لا يقل عن عشرة آلاف، بينما لا تتعدى لدى الجيش سبعة آلاف سيارة، ثلثها فقط يتوفر على جاهزية متوسطة.. وفي وقت لاحق تبين أن سلاح الدبابات تم تحييده بعمليات بعثرة لتقدير غامض، حيث نُقل جزءٌ منه إلى قاعدة المعاقيل العسكرية بمنطقة شندي، شمالي الخرطوم، وجزءٌ كبير إلى منطقة الباقير جنوبي الخرطوم.
صدرت التعليمات للقوات الجوية بتدمير القوى الصلبة للدعم السريع، وتولى سلاح الجو المواجهة في عدة جبهات، حيث هاجم عددًا من معسكرات الدعم السريع حول العاصمة المثلثة، خاصة معسكرات طيبة في الخرطوم، وسركاب في أم درمان، كما هاجم سلاح الجو مقرات الدعم السريع بالقرب من مطارات الأبيض، والفاشر، وغيرها.
وسرعان ما اتخذت الحرب حالةً تَمَوْضَعَ فيها "الدعم السريع" في موقع الهجوم والانتشار، بينما اتخذ الجيش وضع الدفاع عن مواقعه الرئيسة في القيادة العامة، وأسلحة المدرعات بالخرطوم، وسلاح الإشارة، وسلاح الأسلحة بالخرطوم بحري، وسلاح المهندسين بأم درمان، بينما سيطر الجيش على منطقة وادي سيدنا العسكرية بأم درمان، وعلى كل مقرات القيادة في بقية ولايات السودان المختلفة.
وعزَّز استسلام قوات الدعم السريع في ولايات شرق السودان الثلاث، وولايات سنار والنيل الأزرق وشمال كردفان، عزَّز ذلك سيطرة الجيش على الأوضاع العسكرية ما عدا ولاية الخرطوم، إذن، اتخذت الحرب شكلها الذي استمر أشهرًا باتخاذ الدعم السريع إستراتيجية الهجوم، بينما التزم الجيش الدفاع عن مقراته، والاستخدام الكثيف للطيران لتحطيم القوة الصلبة للدعم السريع.
ما بدا ميزة للدعم السريع بامتلاك كثافة النيران، وتوالي الهجوم على مقرات الجيش مقابل إستراتيجية الجيش التي كانت محل انتقاد من كثيرين، هذه التكتيكات أضرت كثيرًا بالدعم السريع حسب خبراء، إذ مكَّنت الجيش من الاحتفاظ نسبيًا بقواه، وجرِّ الدعم السريع إلى مقراته باعتبارها منطقة قتْل، وقد فقدت "الدعم السريع" بذلك ما تقدره دوائر مطلعة بأكثر من مائة ألف قتيل. قبل أن تحقق إستراتيجية الهجوم التي التزمتها نجاحًا لاحقًا بالسيطرة على أربع فرق عسكرية في ولايات دارفور من أصل خمس، فضلًا عن سقوط الفرقة الأولى المخصصة لولاية الجزيرة المجاورة للخرطوم.
قتل ونهبذلكم هو مجمل المشهد العملياتي، ولكن تطورات بُعيد الحرب بشهر واحد، أوضحت طبيعة هذه الحرب التي تختلف عن الحروب التقليدية التي شكلت خبرتي الدعم السريع والجيش السوداني، كما أنّها فاجأت المجتمع السوداني لغرابتها وانحرافها عمّا درجت عليه التجربة السودانية في الحروب، وأهم أربعة مظاهر شكلت الطبيعة الجديدة للحرب، هي:
1- دخول الدعم السريع لمنازل المواطنين، وإخراجهم منها والاستيطان فيها، وقتل ساكنيها، وانتهاك أعراض من يرفض الخروج والاستسلام، ما دفع إلى حالة نزوح ولجوء واسعة تقدرها المنظمات الأممية بعشرة ملايين مواطن، وقد تكررت ذات مشاهد احتلال المنازل وقتل المدنيين في دارفور، وكردفان، وولاية الجزيرة التي دخلتها الدعم السريع بعد ثمانية أشهر من بداية الحرب، وتقدر مصادر مستقلة قتلى ولاية غرب دارفور وحدها من إثنية المساليت بخمسة عشر ألف قتيل.
2- والمظهر الثاني الذي اندهش له الناس هو حالة النَّهب والسَّلب للأموال والممتلكات، من منازل المواطنين، والأعيان المدنية، ونقلها إلى ولايات دارفور وما وراءها من دول الجوار الأفريقي، ما أدخل كلمة (الشَّفْشَفَة ) في قاموس التعامل اليومي للدلالة على هذا السلوك، والمصطلح يحمل في قواميس العربية معنًى قريبًا من نتائج النهب مثل التيبيس والإحراق. وأحدث ذلك حالة إفقار جمعت بين الذين يملكون، والذين لا يملكون.
3- والمظهر الثالث التركيز الممنهج لقوات الدعم السريع على تدمير البنية التحتية الاقتصادية، في القطاعات الصناعية، والمصرفية، والأسواق، وبالرغم من صعوبة تقدير ما تعرّضت له البنية التحتية، التي تأثرت بها بشكل مباشر عشر ولايات تعتبر العمود الفقري للاقتصاد السوداني، وتقدر نسبة التدمير في القطاع الصناعي بما لا يقل عن 90٪، وتعطل شبه كامل للقطاع الزراعي خاصة في إقليم الجزيرة، مقرّ المشروع الأهم والأضخم في السودان، والضامن للأمن الغذائي الوطني. وتقدر خسارة الاقتصاد السوداني جراء الحرب بـ 150 مليار دولار.
4- والمظهر الرابع الذي لم تعتده الخبرة السودانية في الحروب وسواء في الجيش أو الدعم السريع هو الانتشار الكثيف للقناصة على أسطح المباني الشاهقة، ويقدر خبراء أن عدد القناصة في قوات الدعم السريع لا يقل عن 15 ألفًا، وأن جلّهم غير سودانيين، وقد اشتهرت جنسيات معينة بين قناصة الدعم السريع، أكثرهم وأهمهم الإثيوبيون ثم الليبيون، كما اشتُهر بالمدفعية مقاتلو الدعم السريع من جنوب السودان. وقد أثار هذا النمط الجديد من تكتيكات وتقنيات القتال السؤال عن مدى تدخل الخبرة الخارجية في حرب السودان؟
انتشار دون سيطرةإزاء هذه المظاهر الجديدة تعثّرت جهود الجيش السوداني في إحداث تقدم على الأرض، ولهذا اعتمد في الأشهر الأولى للحرب على إستراتيجيتين :
الأولى: هي تعزيز الدفوعات في المواقع العسكرية، وقد تكاملت هذه الإستراتيجية لمصلحة الجيش مع إستراتيجية الدعم السريع القائمة على الهجوم، فاتخذ الجيش مقاره منطقة قتْل للمهاجمين، وخاصة في المدرعات والقيادة العامة، وسلاح الإشارة، وسلاح الأسلحة بالخرطوم بحري، فضلًا عن سلاح المهندسين بأم درمان، وقد قتل عشرات الآلاف من الدعم السريع على تخوم هذه المواقع، وخسر الجيش بهذا الأسلوب مواقع ذات أهمية فنية ونفسية عالية مثل موقعي الاحتياطي المركزي، واليرموك للتصنيع الحربي بالخرطوم، فضلًا عن بضعة آلاف من القتلى.
الإستراتيجية الثانية التي اتخذها الجيش أساسًا للمواجهة: هي تفعيل سلاح الطيران، والحقيقة هذا هو السلاح الذي أبقى على زمام المبادرة في يد الجيش طوال سنة الحرب، وخاصة في ضرب القوة الصلبة في أول الحرب، ومواجهة تدفق الإمداد البشري والتسليحي القادم من دارفور، وخاصة من دولتَي ليبيا وتشاد التي رصدت ونشرت وسائل إعلام غربية ومؤسسات معنية بتتبع حركة الطيران الدولي، أكثر من مائتي رحلة عبر مطار عنتيبي في أوغندا، تُفرغ حمولتها من الأسلحة في مطار خصص لذلك في منطقة أم جرس التشادية، كما رُصدت حركة نقل هائلة من الكُفرَة الليبية إلى منطقة حمرة الشيخ السودانية غربي ولاية شمال كردفان. وبالرغم من فاعلية هذا الإمداد الذي لا يزال متواصلًا إلا أنَّ سلاح الطيران أضعف مفعوله؛ بقتل وتدمير آلاف المقاتلين، والسيارات القتالية، وعشرات الطائرات التي اتخذت من المهابط الترابية مطارات.
استمرت الحرب أشهرًا عديدة طابعها انتشار الدعم السريع في العاصمة دون سيطرة، مع حصار للجيش في مقاره الهامة، واستمرار الجيش في موقع الدفاع مع قدرة على صدّ هجومات الدعم السريع، إلى أن طوَّر الجيش إستراتيجيات فعّالة فكَّت الحصار المضروب عليه، ومكّنته من التقدم في جبهات عديدة، وملّكته زمام المبادرة، وهي:
انتصارات نوعية1- أنشأ الجيش قوات للعمليات الخاصة، وهي قوات هجومية، تهاجم قوات الدعم السريع في مواقع ارتكازها تحت غطاء استخباري فعَّال، وتوافي متطلبات حرب المدن، وقد أحدثت هذه القوات انتصارات نوعية، عجلت من أضعاف الدعم السريع، وأحدثت تحولًا نوعيًا في مسار الحرب .
2- أعاد جهاز الأمن والمخابرات فاعلية قواته المقاتلة التي تم حلها لمصلحة الدعم السريع، في يناير/كانون الثاني 2020م، وأحيلت مقدراتها البالغة أكثر من ثلاثين معسكرًا للثكنات والتدريب، وثلاثة آلاف سيارة مقاتلة فضلًا عن تجهيزات بمختلف الأسلحة أحيلت لقوات الدعم السريع. وحين القرار بعودتها باسم هيئة مكافحة الإرهاب التحق بها بضعة آلاف انخرطوا في القتال ما أحدث توازنًا في قوات المشاة للجيش السوداني، ونتج عن ذلك تقدمٌ في كثيرٍ من محاور القتال.
3- على خلفية انتشار "الدعم السريع" في ولاية الجزيرة، وتفاقم سلوك جنودها المنتهك للأموال والحرمات، وبمبادرة من المكوّن المدني المؤيد للجيش تشكل ما عرف بالمقاومة الشعبية التي تداعى لها آلاف الشباب، بالتدريب والتسلح والالتحاق بميادين القتال، والحقيقة أنَّ فاعلية المقاومة الشعبية ليست فقط بمدِّ الجيش بالقوة المقاتلة، بل بالدعم الشعبي المعنوي الهائل الذي تلقاه الجيش من مئات الآلاف الذين خرجوا إسنادًا وتأييدًا له. ما أحدث قوة دفع نفسية عززت دوافع المواجهة، ووفرت المسوّغ الوطني الضروري لتوفير إرادة القتال .وأثارت المقاومة الشعبية مخاوف في دوائر مختلفة وخاصة، الخارجية التي ظلت تضغط قيادة الجيش لتحجيمها والسيطرة عليها.
لا تزال الحرب التي انفجرت قبل عام بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع متأججة، ولا تزال تجد من الوقود ما يشعل أوارها، وإن انتقل زمام المبادرة فيها إلى الجيش السوداني، وفي ظل توافر عوامل الاشتعال داخليًا وخارجيًا، لا يستطيع أحد أن يحدد موعدًا لنهايتها.
فالحرب أشعلتها قوى إقليمية ودولية بأدوات داخلية، ولهذه القوى أهدافها،
خاصة أنَّ أهم النظريات التي تدار بها الحرب، هي نظرية (إعطاء الحرب فرصة)، ومعناها أنَّ حلَّ الصراعات العسكرية هو ترك الحرب مستعرة، حتى تنهك الأطراف المتحاربة، وتنضج الثمرة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات لقوات الدعم السریع قوات الدعم السریع الدعم السریع فی القیادة العامة الجیش السودانی للدعم السریع بأم درمان فضل ا عن ی الجیش ر الجیش
إقرأ أيضاً:
شبكات الكبتاغون تنتقل من سوريا إلى السودان.. مصنع ضخم داخل حقل ألغام للدعم السريع
في عمق منطقة صناعية مهجورة على الضفة الشرقية لنهر النيل، تقبع ثلاثة مبانٍ غير مكتملة، يحيط بها حقل ألغام. لعدة أشهر ظلّ مقاتلو مليشيا الدعم السريع العسكرية يحذّرون السكان المحليين من الاقتراب من هذا المجمع المسوّر.
ولم يكن ذلك عبثاً؛ إذ كشف تفتيش ميداني للمكان عن مصنع سرّي لإنتاج حبوب الكبتاغون، قادر على تصنيع نحو ألف قرص في الساعة، بحسب ما أفادت به السلطات السودانية.
يعد الكبتاغون، الذي بات شائعاً بين المقاتلين ورواد السهرات في الشرق الأوسط خلال العقد الماضي، هو نوع رخيص من الأمفيتامين، يزيد التركيز، ويمنح شعوراً بالنشوة، ويعزز القدرة البدنية. هذا المخدر المحظور أضحى صداعاً مزمناً للحكومات العربية، من الخليج إلى شمال أفريقيا.
ووفقاً لمصادر أمنية تحدثت لموقع "ميدل إيست آي"، فإن قوات الدعم السريع توزّع الكبتاغون على مقاتليها لتحسين اليقظة وكبح الشعور بالجوع، كما تقوم ببيعه للمدنيين كوسيلة للتمويل الذاتي.
من سوريا إلى السودان
حتى كانون الأول/ديسمبر الماضي، كانت سوريا تمثل مركز الإنتاج والتصدير الأبرز للكبتاغون في المنطقة، بغطاء وحماية من نظام المخلوع بشار الأسد.
لكن مع انهيار النظام، جرى تفكيك عشرات المختبرات ومسارات التهريب التي لطالما ازدهرت تحت مظلته. ومع تراجع الإنتاج في سوريا، بدا أن أنظار شبكات تصنيع الكبتاغون تتجه إلى جنوب شرقها، حيث يشتعل صراع دموي آخر.
في شباط/فبراير الماضي، وبينما كانت القوات المسلحة السودانية تواصل هجومها ضد قوات الدعم السريع، سيطرت على منطقة مصفاة الجيلي شمالي الخرطوم بحري، لتكتشف داخلها مصنعاً متكاملاً لإنتاج الكبتاغون.
يضم المصنع خمس آلات، بينها ضاغطة أقراص وخلاط صناعي كانا قيد التشغيل عند فرار القائمين على الموقع. يقول اللواء جلال الدين حمزة، من شرطة مكافحة المخدرات، لموقع "ميدل إيست آي" إن "بقايا بيضاء دقيقة كانت تغطي أجزاء من الآلات، وقد عُثر على أقراص داخل الماكينة، تحمل علامة الهلالين، المعروفة بأنها شعار غير رسمي لإنتاج الكبتاغون غير المشروع".
خيوط تربط بالإمارات وسوريا
بجانب إحدى الآلات، وُجدت صناديق خشبية لم تُستخدم بعد، وعليها ملصقات شحن تشير إلى شركة "Amass Middle East Shipping Services"، وهي شركة شحن مقرها دبي. لكن عند محاولة تتبّع الشحنة باستخدام الرقم المُرفق، لم تُظهر نتائج. الشركة لم ترد على استفسارات "ميدل إيست آي"، كما تجاهلت قوات الدعم السريع بدورها طلبات التعليق.
يُذكر أن الإمارات، رغم نفيها الرسمي، تواجه اتهامات متزايدة بدعم قوات الدعم السريع بالسلاح والتمويل. كما أن دبي تُعدّ نقطة محورية في مسارات الشحن عبر البحر الأحمر.
وبعد عرض صور المعدات على الباحثة كارولين روز، الخبيرة في ملف الكبتاغون لدى معهد "نيو لاينز" بواشنطن، أكدت أن "الآلات تشبه كثيراً تلك التي صُودرت من مختبرات سورية خلال العام الماضي".
مسحوق غامض وآثار مثيرة للريبة
داخل غرفة مظلمة في المجمع، تناثرت مئات الأكياس من مسحوق أبيض، بعضها موسوم بأنه مكملات غذائية بيطرية، وأخرى كمحلول إلكتروليتي للحيوانات. اللافت أن جميع الأكياس كُتب عليها أنها "صُنعت في سوريا" و"غير مخصصة للاستهلاك البشري".
أسماء الشركات المُصنّعة، مثل "Hi Pharm" و"PropioTech"، لم تُعثر لها على أثر في السجلات التجارية السورية، وبعضها يستخدم بريدًا إلكترونيًا على منصة "Yahoo"، وقد عادت الرسائل المُرسلة إليه. ويقع عنوان إحداها في ضاحية برزة قرب مركز البحوث العلمية في دمشق.
التحقيقات جارية لمعرفة ما إذا كانت مكونات هذه الأكياس تُستخدم في صناعة الكبتاغون، رغم أن تحاليل "ميدل إيست آي" لم تعثر على مواد معروفة تدخل في تصنيع المادة، مثل الأمفيتامين أو الثيوفيلين.
لكن روز تعتقد أن تلك الأكياس قد تكون وسيلة لتهريب المواد الأولية (Precursor materials) اللازمة للتصنيع، مموهة في شكل مكملات بيطرية. وتضيف: "من المحتمل أنهم أفرغوا المواد في الأكياس وقالوا: ما دامت تُضغط على شكل أقراص، فلا مشكلة".
وتُصنّع أقراص الكبتاغون غالباً بمزيج غير دقيق من مواد مثل الكافيين والزنك والنحاس، ما يعكس طابعها غير المُراقب. وتوضح روز: "هؤلاء لا يهتمون بسلامة الخليط الكيميائي، هم يريدون فقط سحق أي مادة وتحويلها إلى أقراص".
وفي واقعة لافتة، ذكر مصدر عسكري أن أحد أفراد الأمن خلط ملعقتين من المسحوق في كوب ماء، ثم شربه، وبقي مستيقظاً ليومين كاملين وهو في حالة من النشاط الحاد. وقال المصدر: "كان يقفز طوال الوقت، لم يغفُ لحظة واحدة".
سوق الخليج في مرمى التهريب
تشير التحقيقات إلى أن تعاطي الكبتاغون لم يكن منتشراً في السودان قبل الحرب، لكن الوضع تغيّر مع اشتداد القتال. فبحسب اللواء حمزة، سُجل أول مصنع في 2015 بمنطقة جبل أولياء، بقدرة إنتاجية وصلت إلى 5000 قرص في الساعة. ثم اكتُشف مصنع ضخم آخر في ولاية النيل الأزرق مطلع 2023، قبل اندلاع الحرب بثلاثة أشهر.
ويُعد مصنع الجيلي المكتشف مؤخراً الأكبر منذ بدء الصراع في نيسان/ أبريل 2023، وجاء بعد العثور على منشأة أخرى شمال الخرطوم قبل ذلك بستة أشهر.
وبين أركان المصنع، حفرت قوات الدعم السريع فجوة ضخمة بعمق عدة أمتار، لم تكن موجودة بحسب صور الأقمار الصناعية المؤرخة بيوم 14 نيسان/أبريل 2023. يشتبه المحققون بأن الحفرة كانت معدّة لتخزين كميات هائلة من الأقراص.
وعند سؤاله عمّا إذا كانت تلك الحبوب مُعدة للتصدير، رفض اللواء حمزة التعليق، قائلاً إن "المعلومات حساسة" والتحقيق لا يزال جارياً. لكن الخبراء يرجحون أن السوق الخليجي، الذي يُعد أحد أكثر الأسواق ربحية لهذه الحبوب، هو الوجهة المحتملة، خاصة مع توقف شبكات الأسد عن العمل.
تقديرات الأمم المتحدة والجهات الأمنية أشارت إلى تدمير أكثر من 200 مليون قرص كبتاغون في سوريا منذ سقوط النظام. لكن تقريراً حديثاً لمعهد "نيو لاينز" حذّر من أن "الخبرات التقنية لصناعة الكبتاغون ما تزال موجودة، ويمكن نقلها إلى أماكن جديدة".
وتقول روز إن معامل جديدة تُكتشف في السودان سنوياً منذ 2022، وهو ما لا يُلاحظ في دول الجوار. وتتابع: "كان يُعتقد أن هذه مختبرات فردية أو نتيجة انتقال محدود من سوريا، لكن وجود مواد تغليف سورية يُرجّح وجود صلة مباشرة مع شبكات النظام السوري السابق وحتى شبكات الجريمة العابرة للحدود".