جاءت مجموعة (ذهبت وكأنها موسيقى 2019م) للشاعر العماني يحيى الناعبي محتفية باللغة البديعة والاشتغال الفني للدلالة التي بُنيت عليها النصوص الشعرية، كما أنها وازنت بين جمالية التعبير الشعري وبين دقة التصوير. وإذ يُقدّم الناعبي هذه المجموعة باشتغالٍ عالٍ للكتابة الشعرية في إطار قصيدة النثر، فإنه يُؤكد على الاتساع الكتابي الذي تسير عليه القصيدة النثرية منذ تشكّلها في المشهد الشعري العربي عامة والشعري العماني خاصة كونها مرّت بمراحل مختلفة واكبها جملة من التنظيرات والنقد سواء المتفق مع أسلوبها الكتابي أو المختلف معها.

يسير يحيى الناعبي في هذه المجموعة على طريق الانفتاح الكتابي في استعمال الدلالة الشعرية، فالقصيدة النثرية في المجموعة اتسعت رؤيتها الداخلية، وأمسكت باللغة جيدًا في إطار التعبير، وهنا يظهر أثر الشاعر وقراءاته في تمكين اللغة وتطويرها وصولًا إلى التعبير الشعري الخلّاق.

ما يلفت النظر في مجموعة (ذهبتْ وكأنها موسيقى) أنّ الشاعر قادرٌ على تجسيد الأشياء ومنحها بُعدًا دلاليًا، لقد قدّم تجسيدًا يتعاطى مع الحياة والإنسان والكون، فهو يمزج بين صورتين: صورة الجماد التي تتماهى مع الواقع والحياة، فتتلبس صورة الإنسان المتشكّلة من رؤية عميقة للمشهد، ففي قصيدة (قسوة) مثلا نجد قدرة الشاعر على التكوين والبناء والمزج بين صورتين ارتبطتا بالتجسيد، فالظلّ يخرج من كونه ظلًا تابعًا للشيء إلى كونه شخصية مؤثرة يعيد الشاعر إنتاج دلالاتها الشعرية، فتعبّر الحركة السردية للشخصية الجديدة/ الظل عن إيجاد الدلالات وانتزاع الصورة فيها، نجد ذلك حين يقول:

ظلي

لا يحتاج إلى منظار كي أراه

إنه بجانبي

في الفَصْلِ

يُعِيرُنِي مِسْطَرَتَهُ

وأُعيره أحزاني

أساعِدُهُ على حفظ جدولِ الضَّرْبِ

لِيَضْرِبَ أكثر

تَشْتَدُّ قَسْوَتُهُ فَيَحْزَنُ أَكثر

يُرْسِلُ إِليَّ إشاراتِهِ

مع أوراق الخريف

ثُمَّ نَجْلِسُ معا نبكي طفولتنا.

الظل هو الوَطَنُ

لَمْ يَعُدْ يَشْرَبُ قهوته

التي يُحِبُّ

صار جِرَاحًا تَتَمَدَّدُ

في تابوت الآثام

صار

بلا آلام

يَحْلُمُ بالسَّفَرِ كثيرًا

وبالعزف على جوع الفقراء.

تتشكّل الصورة في نصوص المجموعة من تعددها، وتتكوّن الفكرة من التعدّد الوارد في النصوص، وهنا نجد المهارة في تشكيل الصورة، والمهارة في مزجها داخل النص وإذابتها مستخرجًا من عوالمها اتجاهات متعددة للمعاني وتحديثات الفكرة.

لعل غير نص من نصوص المجموعة احتفت بهذا الأسلوب؛ نجد ذلك على سبيل المثال في نصوص: (موعد للفراغ، وفقاقيع ضجيج، وصرير، وقفر، وحفلة فاخرة، وظلال باهتة) وغيرها من النصوص التي تقوم على تشكيلات الصورة وتعددها في النص الواحد.

وهنا تنبغي الإشارة إلى أنّ نصوص المجموعة قد تشكّلت من حسٍّ شعري بديع، تنوعت فيها جماليات كل نص بمعزل عن الآخر، كما يُقدّم كل نص فكرته من منطلق الابتكار الدلالي والصورة المنحوتة من عمق الذاكرة؛ ففي نص (أحلام ملونة) يعود النص بالقارئ إلى مواطن التذكر الأولى باستخدام دلالات الماضي (كان)، حيث تكررت ست مرات في مقاطع النص الشعرية في صورة تمزج الاستعادة باللحظة التي يعيشها:

طفولتي

لَمْ تَكُنْ قروية بحتة.

كانت أشجارُ الصَّنَوْبَرِ

في فنجان القهوة.

والنساء الشقراوات كالشرايين

يتمدَّدْنَ في أعماقي

والوجوه منتشرة كالطُّحْلُب

في مخيلتي

وأنا كالخنزير البري

لا يَمَلُّ المداعبة والركض.

ورغم الفرح

كانت النُّجوم المعتمة

تقلم أظافري

في المقبرة المخصصة لأسلافي،

المزروعة تحت جبل جحيمي.

لَمْ تَكُنْ هناك قصيدةٌ بَعْدُ

تفلي شعري

أو تَرْشُفُ مِنْ يَنبُوعي

وتَغْتَسِلُ مِنْ حَوْضِ أحلامي

أو تُدَفْئني

كما يَفْعَلُ بَيْتُ الطِّين.

لَمْ أَكُن نَّسْرًا يرمي بالحجارة

ويُنْصِتُ الموسيقى بيتهوفن.

كانتْ كَذَّبَةً طفولة

يُسَرّح شَعْرَهَا الضجَرُ

وَقْتَ الصَّباح

ويَغْمُرُها باللذة.

الأمر ذاته في نص (رسائل غرام داكنة) فإن الصور الشعرية تتوزع بين عالمين اثنين: الماضي والحاضر، ودلالات الأفعال أيضا دالة على الاثنين. إنّ هذا النص قد كُتب بشغف واسع ورؤية بصرية متقنة، وروح شفافة، وهو من النصوص التي تأخذ القارئ بصورها ولغتها وشفافيتها إلى عالم الأحلام المتخيلة.

إنّ صور النص هنا تعبيرٌ عن ذائقة للحياة، ونحت في أفق الشعور البلاغي، يقول:

عيوننا المخملية

أشهى مِنْ لُعْبَةٍ

في يَدِ شَيْخ

أو

جُوْعِ يَلْسَعُ مُشَرَّدًا.

ويقول:

الموج الأخضر

مِثْل قميص يُلوِّنُ نَهْدَيْكِ وجزءًا مِنْ خَاصِرَتِكِ

يُزبِّدُ لَكِ شالًا

كالخرافة.

ويقول:

يَنْسَكِبُ المَطَرُ النَّائِي

فَوْقَ تِلالِ العُمْرِ

وَبِسَوْطِ الجَلادِ

يَتَمَزَّقُ جسدي

في مقبرة العشق.

أما نص (بيت بلا أسرار) فهو على قصره فإنه يكشف عن عوالم مختلفة يركّب الشاعر من خلالها صوره الشعرية: (الصمت للبحر، والحركة والثورة للريح)، وفي (البحث عن الأبواب المهجورة، والبحث عن تاريخ الأقفال) وفي الجمع بين دلالات (الفرح والتوابيت)، وبين (لثغة الطفولة وغابات اليتم).

إنه نص يضج بلحظات السكون والثورة، الفرح والحزن، الطفولة واليتم، إنه يُقدّم مسارات متعددة في القراءة البصرية للصورة:

عندما لا تستطيع الكلام

اصْمُتْ كالبحر

وَاتْرُك للرِّياح مسارها؛

إِنَّهَا تَهْتِفُ كثيرًا

بلا ضجر.

كَمَن يتدثُرُ بِظِلُّ الغَيْمَةِ

الوحيدة في الكَوْنِ

أَبْحَثُ في الأبواب المهجورة

تاريخ الأقفال

فالعالم سر

قَدْ يُولِجُ فِي أَعْيُنِنَا الفَرَحَ

حِيْنَ تَشْتَعِلُ أفكارنا

بلهيب التوابيت.

فَمُنْذُ لَثغَةِ الطُّفولة

وَقَبْلَ أَنْ تُقْتَلَعَ أرواحنا

مِنْ مَكْمَنِها

صَلَّيْنَا كالبَرْقِ

على غابات اليتم.

إنّ القارئ لهذه المجموعة سيجد في نص (ملحمة الرمل) نموذجًا مهمًا لتركيب الصورة وتعددها، وانتزاع دلالاتها الفنية من جهات عدة. نجد الصورة تتشكّل من الرمل، والريح والصمت والغابات والليالي والمجرات والصحراء والغربة والمطر والطيور والعشق... لذا فإن تشكلات الصورة المتعددة هنا نابعة من زوايا عدة استطاع الشاعر من خلالها تشكيل أبعادها في النص، يقول:

الحبيبات الرَّمْلِيَّة

التي ظَلَّتْ تُعَانِقُهُ

تَخَلَّلَتْ أَصابِعَهُ

تَرَبَّصَتْ بِهِ كَالذَّنْبِ

حين كان يَحْرُسُهَا مِنَ الرِّيح

هو

العاشق الذي

دَفَتْهُ بِحُبِّها.

سَماها الذَّهَبَ الأصفر

وقلعة الأسرار،

قِيثَارَة للصَّمْتِ

وَمَرْتَعًا للأنبياء والتائهين.

أَضْحَتْ حُبَيبَاتُ الرَّمْلِ إِشارات

تَتَجَوَّلُ فِي أَركانِ جَسَدِهِ

كأَنَّهَا جَيْشُ مِنَ المفقودين

في غابة «أوكيغاهارا» للمنتحرين.

حَوْلَهُ كان الأصدقاء يحومونَ

مِثْل طيور بَريَّة أليفة

يُغنُّونَ قصائد

عَنْ أقمار

غابتْ عَنْ ليالي قُرَاهُمْ

وَمجَرَّاتِ أَنْهُرِهِمْ

في شتات الأمكنة.

أغانيهِمْ ترنموا بها في أَصْقاعِ الصَّحْرَاءِ

ولاذوا بها إلى أرواحهم

بين قوسي غُرْبَةٍ واغتراب.

مِثْلُ الطيور التائهة

يبحثون عن

فَرَحٍ يُشْبِهُ المَطَرَ

وَكَثِيرٍ مِنْ وَحْشَةٍ أليفة.

تَجْمَعُهُمْ عناوينُ وَأَمْكِنَةٌ

رَابِضَةٌ في صحراء رُبعنا الخالي مِنْ أحلامنا.

تعد هذه المجموعة من المجموعات الفنية التي اشتغل عليها الشاعر برويّة وهدوء، حتى أنتج نصوصًا فنية متخيلة تقدّم صورة عن تحولات قصيدة النثر في المشهد الشعري العماني الحديث، إنها أشبه بالموسيقى التي يتردد صداها في أروقة المكان ليهتدي العابر بإيقاعاتها المتناغمة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: نصوص ا

إقرأ أيضاً:

«العبدي» ورتق «الممزّق»

في مادة النحو أيام الدراسة الجامعية توقّف د. عبد الأمير الورد -رحمه الله- الذي درّسنا المادة أمام الشاهد النحوي فـي بيت الشاعر الجاهلي شأس بن نهار الملقّب بالممزّق العبدي:

فإن كنت مأكولًا فكنْ خيرَ آكلٍ

وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق

لكنني يومها سرحت بعيدا فـي معنى البيت المستلّ من قصيدة يخاطب فـيها الشاعر الممزّق العبدي، ملكا من ملوك العرب قبل الإسلام هو عمرو بن هند، وكان يهمّ بغزو عبد القيس، ولم يجد الممزّق، وكان شاعر قبيلته، والناطق بلسانها، كما يؤكّد ابن رشيق القيرواني فـي كتابه (العمدة)، أمامه سوى أن يقول قصيدة يستعطفه، بها، ومما جاء فـيها:

أَرِقْتُ فَلَمْ تَخْدَعْ بِعَيْنَيَّ وَسْنَةٌ

ومَنْ يَلْقَ ما لاقَيْتُ لا بُدَّ يَأْرَقِ

تَبِيتُ الهُمُومُ الطارِقَاتُ يَعُدْنَنِي

كمَا تَعْتَرِي الأهوالُ رَأسَ المُطَلَّقِ

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلا فأدركني ولمّا أمزّق

والشاهد فـي البيت الذي اكتسب منه الشاعر لقبه (الممزّق)، أنّ منفـي (لمّا) يستمر نفـيه إلى حال التكلم، وتقول الأخبار: إن القصيدة بلغت المرام، وجلبت نتيجة إيجابية للشاعر، وقبيلته، فلما بلغت عمرو بن هند انصرف عن عزمه، وقال له: «لا آكُلُك ولا أُوكِلُك غيري» وانتشر البيت انتشار النار فـي الهشيم، وصار مثلا، وذكر الحافظ شمس الدين الذهبي فـي كتابه «سير أعلام النبلاء»، أن الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) استشهد بهذا البيت، فـي رسالة وجّهها للإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) مستنجدا به، عندما حوصر فـي بيته، مثلما استشهد به آخرون فـي مواقف مشابهة، والذي لفت نظري فـي البيت، معنى وليس مبنى، حالة الضعف التي كان يعيشها الشاعر، حينما وضعته الظروف فـي موقف صعب، وخيّرته بين أمرين أحلاهما مُرّ، فمن الطبيعي أن يختار الأقل مرارة، فلا خيار ثالثًا له، ولو كان موجودا، فـيقينا كان قد توجّه بخطابه إليه، والخيار الثالث الأمثل يتطلّب وجود طرف يسعى إلى إطفاء فتيل الحرب، ولكنّه لم يفعل ذلك لعدم وجود هذا الطرف المحايد، فلم يجد الشاعر حلًّا سوى فـي أن يستعطف عدوّه الذي كان قد بيّت النيّة لغزو قبيلته، فدبّج قصيدة فـي مدحه، فأيّ هوانٍ كان فـيه ذلك الشاعر!؟

وفـي هذا العالم المضطرب الذي لا يرحم، ولا يقيم وزنًا للحياة، صرنا ننام، ونصحو على أخبار القتل، والدمار، فاختفت لغة الحوار، والسلام، فما أن تنتهي حرب حتى تنشب أخرى أكثر شراسة، وأشدّ فتكا، ولو دقّقنا فـي تاريخ البشرية لوجدنا أن الحروب تسير عكس المنطق الحضاري، كون الحضارة عكست بناء سحب الإنسان من المرحلة البدائية وهذبته من التوحش، وحقنته بالوعي، وحب الحياة، فالتطور الحضاري يعني زيادة الوعي، لكن الغريب أن وحشية الإنسان تزداد يوما بعد آخر حتى إذا ما وصلنا إلى القرن العشرين وجدنا أن الحروب فـي ازدياد وصارت قاعدة، أما السلام فهو الاستثناء، وضجّ (الكوكب) بالصراعات التي يشعلها المغرمون بلغة القوّة، والصراعات، وأحلام التوسّع على حساب الغير، ناسين أن الحروب لم تحل فـي يوم من الأيام مشكلة، وأنها فـي كل الأحوال تستنزف اقتصاد البلدان المتحاربة، وتخلّف الأرامل، واليتامى، والثكالى، يقول الشاعر محمود درويش: «ستنتهي الحرب، ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم».

وحين تنقشع غيوم الحروب، تسفر الشمس عن آهات الجرحى والخراب والدمار، والعاهات الاجتماعية، وتراجع القيم، فقد وصفها زهير بن أبي سلمى بأبشع الأوصاف قبل أكثر من 1400 سنة، عندما قال فـي معلّقته:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ

وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً

وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ

فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها

وَتَلقَح كِشافًا ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ

فهي قبيحة، تخلّف الخراب وتسبّب الهلاك، وهي تطحن الناس وأحلامهم مثلما تطحن الرحى الحبوب، وتلد المآسي، والمصائب، ولكن تجّار الحروب وجنرالاتها من عشّاق النياشين والأوسمة ومصّاصي دماء الشعوب، و(مشعلِي الحرائق)، ومثيري الفتن، مستمرّون فـي غيّهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لذا سيظلّ الشاعر يستعطف الأقوى، ناشدا السلام، ساعيا لخياطة الرتق الممزّق.

مقالات مشابهة

  • ترتيب مجموعة السعودية في كأس الكونكاكاف بعد الخسارة أمام الولايات المتحدة
  • ترتيب مجموعة الأهلي بعد فوز إنتر ميامي على بورتو
  • كأس العالم للأندية.. إنتر ميامي يقلب الطاولة على بورتو ويشعل مجموعة الأهلي
  • ترتيب مجموعة الأهلي في كأس العالم للأندية قبل مباريات اليوم
  • مجموعة الأهلي.. موعد مباراة إنتر ميامي ضد بورتو اليوم في كأس العالم للأندية
  • عرض عملة رمزية لمجموعة “بريكس” في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي
  • مجموعة هائل سعيد أنعم تُعيّن "درهم عبده سعيد" رئيسا لمجلس الإدارة
  • درهم عبده سعيد رئيسًا لمجلس إدارة مجموعة “هائل سعيد أنعم” التجارية
  • «العبدي» ورتق «الممزّق»
  • الأخوان ملص يوقعان كتاباً ورواية في دمشق