وكلاء الذكاء الاصطناعي.. تحولات جذرية قادمة في المستقبل القريب
تاريخ النشر: 15th, July 2024 GMT
نحن الآن في مايو/أيار من عام 1997، وتحت أنظار وسائل الإعلام، ينتظر بطل الشطرنج الروسي الشهير غاري كاسباروف مواجهة خصمه الخارق للمرة الثانية؛ خصم لم يواجه مثله من قبل، ببساطة لأنه ليس خصمًا بشريا! في هذه المباراة كان خصمه جهاز الحاسوب الخارق "ديب بلو" الذي طورته شركة "آي بي إم" بهدف تعلم لعبة الشطرنج وإتقانها وهزيمة بطل العالم في ذلك الوقت.
بدأت المباراة وسط ترقب الجميع، فاز كاسباروف بالجولة الأولى، ثم خسر الثانية، وتعادل في الجولات الثلاث التالية، ولكن عندما انتصر "ديب بلو" في المباراة بالفوز بالجولة النهائية رفض كاسباروف التصديق؛ ليدخل "ديب بلو" التاريخ بوصفه أول حاسوب يهزم بطلا عالميا في مباراة من 6 جولات تحت ضوابط وقت قياسية.
أشعلت تلك المباراة ثورة تقنية جديدة، وظهر معها توقعات وتأويلات بأن الآلة على وشك هزيمة الإنسان. نعرف الآن بالطبع أن هذا لم يحدث، وأن حاسوب "ديب بلو" لم يعتمد على مفهوم الذكاء الاصطناعي أو تعلم الآلة، ولكنه كان مجرد منفذًا للأوامر البرمجية ومعالجًا لكمية ضخمة من البيانات بهدف إنجاز مهمة محددة هي هزيمة بطل العالم في لعبة الشطرنج.
نعود الآن إلى الحاضر، وبعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمان، أصبحنا على أعتاب ثورة جديدة في عالم ذكاء الآلة، وهذه المرة ثورة حقيقية في تطور مجال الذكاء الاصطناعي. التطور الحالي قد يقودنا إلى ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي العام "إيه جي آي" (AGI)، من خلال تطوير نماذج جديدة تعرف باسم "وكلاء الذكاء الاصطناعي" (AI Agents) التي يمكنها التفاعل مع البشر بأساليب معقدة، ويمكنها اتخاذ قرارات بصورة مستقلة في مجموعة مجالات متنوعة. ما بدأ بمباراة شطرنج بين بطل العالم وحاسوب خارق أصبح الآن جزءًا لا يتجزأ من كل تفاصيل حياتنا، وهذا يطرح سؤالًا مهما: كيف وصلنا إلى هنا؟
تسعى أوبن إيه آي، وغيرها من الشركات الكبرى في المجال، بكل جهدها للبحث عن منتج طموح آخر يمكنه أن يصبح ثوريا في المستقبل القريب، تمامًا كما فعل روبوت "شات جي بي تي" منذ بداية انطلاق رحلته. لذا، تعمل الشركة على تطوير اثنين من نماذج وكلاء الذكاء الاصطناعي بهدف أتمتة كل مهام العمل تقريبًا، بخاصة العمليات المعقدة، وهذا يقلل الاعتماد على العنصر البشري في هذه العمليات، وفقًا لتقرير صدر من موقع "ذا إنفورميشن" في شهر فبراير/شباط الماضي.
وفي مؤتمر "بيلد 2024" الذي تنظمه مايكروسوفت سنويا، كان أحد أهم الإعلانات هو تطوير المساعد الذكي "كوبايلوت" ليصبح ضمن وكلاء الذكاء الاصطناعي، إذ صممت الشركة هذا المساعد بأسلوب جديد يغير من شكل الأعمال عبر أداء المهام التي تتطلب عادة تدخل الإنسان. وبعكس الإصدارات السابقة، لن تظل نماذج وكلاء الذكاء الاصطناعي الجديدة في انتظار أوامر المستخدم، بل يمكنها إدارة المهام بصورة استباقية مثل مراقبة البريد الإلكتروني وأتمتة إدخال البيانات على جهاز المستخدم.
وفي هذا السياق، تصور تشارلز لامانا، نائب الرئيس التنفيذي لتطبيقات الأعمال والمنصات بمايكروسوفت، سيناريوهات يتولى فيها "كوبايلوت" استفسارات مكتب خدمة تكنولوجيا المعلومات بالشركة وتوجيه الموظفين الجدد، وغيرها من المهام. فمثلًا يمكن للمساعد الذكي "كوبايلوت" أن يستقبل موظفا جديدا في الشركة ويساعده في تسجيل بيانات الموارد البشرية، ويجيب عن أسئلته، ويعرفه بزملائه في الفريق، ويوفر له جداول التدريب، ويحدد له الاجتماعات خلال الأسبوع الأول، إذ ستتيح أتمتة تلك المهام لموظفي الموارد البشرية التركيز على مهام أكثر إستراتيجية وتعقيدًا.
وكذلك في مؤتمر غوغل آي/أو الماضي، عرضت الشركة نسخة أولية لما تأمل أن يصبح المساعد الشخصي الشامل، وأطلقت عليه "مشروع أسترا" (Project Astra)، وهو مساعد ذكي متعدد الوسائط يعمل بالذكاء الاصطناعي في الوقت الفعلي ليتمكن من رؤية العالم ومعرفة أماكن الأشياء وأين تركتها، كما بإمكانه الإجابة عن الأسئلة أو مساعدتك في القيام بأي شيء تقريبا، وهو نوع من وكلاء الذكاء الاصطناعي أيضًا، وهي روبوتات لا تكتفي بالردود على الأسئلة لكنها تنفذ المهام المختلفة نيابة عن المستخدم.
الهدف من تلك النماذج الجديدة التي تسعى لها شركات التقنية الكبرى هو تحويل منتجها الأساسي إلى مساعد شخصي ذكي وقوي يمكن أن يستفيد منه المستخدم في مختلف أمور عمله وحياته، ويساعده في تنفيذ معظم المهام التي كان يقضي فيها ساعات طويلة سابقًا. لذا، يبدو أننا نخطو نحو مستقبل سيتحول فيه "شات جي بي تي"، وغيره من تلك البرمجيات الذكية، إلى مساعد شخصي ينفذ مهام بأغراض عامة، بدلًا من استخدامه في مهام متخصصة، مثل كتابة المحتوى أو توليد الصور وغيرها. وبرأي بعض خبراء المجال، يمثل وكلاء الذكاء الاصطناعي خطوة محتملة نحو الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام. لكن لنفهم كيف يمكن أن يحدث هذا، علينا أن نشرح الأمر منذ بدايته!
تضم أنظمة الذكاء الاصطناعي مجموعة من النماذج، بدءًا من النماذج التأسيسية إلى النماذج اللغوية المتطورة ثم النماذج التي تتمتع ببعض الاستقلالية. أما النموذج التأسيسي فيمكن تعريفه بأنه نموذج لغوي مُجهز سابقًا، يتدرب على كثير من البيانات النصية المختلفة، ويُشكِّل الأساس الذي تعتمد عليه النماذج اللغوية الأصغر التي تُصمم وتُدرب لأداء مهام محددة، كالرد على الأسئلة مثلا. بهذه الطريقة يمكن بناء نماذج لغوية بدقة دون الحاجة إلى البدء من نقطة الصفر في كل مرة باستخدام النماذج التأسيسية الحالية، ومن أشهر أمثلتها نموذج "جي بي تي-4" الذي يعتمد عليه روبوت المحادثة "شات جي بي تي"، بجانب النماذج التي تُستخدم في توليد المحتوى المرئي مثل "ميدجيرني" و"دالي".
يأتي في المرحلة التالية الوكلاء المستقلون، أو وكلاء الذكاء الاصطناعي، وهي أنظمة متطورة أكثر، تقدم مستوى أعلى من التعقيد في معالجة المهام، وهذا يعني إضافة طبقات جديدة من الميزات والقدرات المتطورة في كل نموذج. والاستقلالية هنا تعني أن هذا النموذج قادر على الاستجابة للمؤثرات والمحفزات الخارجية دون الحاجة إلى تدخل بشري، بمعنى امتلاكه لإمكانية التكيّف والتفاعل مع مختلف الظروف والأحداث دون برمجة سابقة، بينما يعمل في الوقت ذاته بما يخدم الهدف الأساسي لمطوره أو المستخدم الذي يتحكم به.
السمة المميزة لتلك الأنظمة هي قدرتها على العمل وفق حلقة برمجية مستمرة، لتوليد تعليمات وقرارات ذاتية باستمرار، لتتمكن من العمل باستقلالية دون الحاجة إلى التوجيه البشري المنتظم، كما الحال مع روبوتات المحادثة التي يجب أن تُدخل لها تعليمات مع كل سؤال لتمنحك الإجابة.
ينبغي ملاحظة أن هؤلاء الوكلاء المستقلين لا يتفوقون بالضرورة على النماذج التأسيسية عندما يتعلق الأمر بالمهام المحددة والبسيطة والمباشرة، ولكن ما يتفوقون فيه بدرجة أفضل هو تقسيم المهام المعقدة إلى مهام أصغر وتنفيذها وفق أقصى قدراتهم. وذلك لأن تلك النماذج التأسيسية فعالة وعادةً ما تكون دقيقة، ولكن يمكن التنبؤ بنتائجها، فمثلًا عندما تستخدم "شات جي بي تي" ستكتب له سؤالًا وتنتظر منه الرد في صورة نصية، ومن غير المحتمل أن يتصرف من تلقاء نفسه ويجيب بصورة أخرى، ثم سيتوقف بعدها في انتظار تعليماتك الجديدة. هذا عكس سلوك الوكلاء المستقلين، فغالبًا لا يمكن التنبؤ بأفعالهم، وبإمكانهم إنتاج سيناريوهات ومسارات عمل مختلفة والاختيار بينها لتحقيق الهدف النهائي الذي يرغب به المستخدم، وكل هذا دون الحاجة إلى تدخل منك بمزيد من التعليمات.
ببساطة، يمكن لتلك النماذج إدراك البيئة المحيطة بها ثم استنتاج الخطوة التالية، وبعدها تنفيذ القرارات من دون أي مساعدة بشرية لتحقيق أهدافها، حتى إن كانت تلك الظروف الخارجية متغيرة أو لا يمكن التنبؤ بها، أي إنها ليست مبرمجة سابقًا، وهذه هي ميزة التعلم والتكيّف. لذا، يمكن استخدامها في بيئات معقدة ومتغيرة مثل تصميم الروبوتات وألعاب الفيديو، وتحليل الخدمات المالية وأنظمة القيادة الذاتية، وخدمة العملاء، وإنتاج المساعد الشخصي الفائق الذكاء.
إن ما يميزها عن أنظمة الذكاء الاصطناعي الأخرى هو تعدد استخداماتها، فهي لا تقتصر على الاستفادة من النماذج اللغوية فقط، بل تتمتع بالقدرة على الوصول إلى نماذج تأسيسية مختلفة، مثل نماذج توليد أكواد البرمجة أو الصور أو الفيديو أو الصوت.
كذلك يمكنها استخدام محركات البحث والأدوات الحسابية لإنجاز أي نوع من المهام المسندة إليها، وذلك يقدم بعدًا جديدًا تمامًا لحل المشكلات، إذ تتعامل معها وتعالجها بأسلوب منهجي خطوة بخطوة، بما يشبه أسلوب التفكير البشري في هذا السياق. ومن ضمن إمكاناتها مثلًا تصفح الإنترنت واستخدام التطبيقات المختلفة على أجهزة المستخدم، والاحتفاظ بذاكرة قصيرة وطويلة الأمد، والتحكم في أنظمة تشغيل الحاسب، وإدارة المعاملات المالية، واستخدام النماذج اللغوية لتنفيذ مهام مثل التحليل والتلخيص وتقديم الآراء والإجابة عن الأسئلة.
تلك الإمكانات تؤهلها للتعامل مع المهام الرقمية كأنها مساعد بشري، وذلك يجعلها متعددة الاستخدامات وذات قيمة كبيرة في سياقات مختلفة داخل العمل. ولهذا يعدّها بعض الخبراء أول خطوة نحو وصولنا إلى مفهوم الذكاء الاصطناعي العام. لكن كيف تعمل تلك الأنظمة الحديثة تحديدًا؟
تعمل تلك الأنظمة عبر تلقي مدخلات المستخدم ومعالجتها، وهو الهدف الأساسي لها، ثم تستفيد من النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) لتقسيم الهدف إلى مهام أصغر يسهل التحكم فيها. ثم تعالج كل مهمة من هذه المهام بصورة منفردة، وتسجل نتائجها لإمكانية استخدامها في خطوات لاحقة.
سنحاول تبسيط كيفية عمل هذه الأنظمة؛ تبدأ تلك الحلقة البرمجية بإعطاء النظام هدفا ينفذه. بمجرد أن يتحدد الهدف، فإن النظام يلتقط صورة ذهنية ويخزنها في بنك الذاكرة. لا يتعلق الأمر هنا فقط بالاحتفاظ بالبيانات بل بمحاولته لفهم واستيعاب المهمة بعمق عبر ربطها بما يعرفه فعلًا. يشبه الأمر اعتمادنا على تجاربنا الخاصة لنفهم المعلومات الجديدة التي نتلقاها، وعندما يبدأ في تنفيذ المهمة يستعين بهذه الذاكرة، ليضمن أن كل فعل أو قرار يستند إلى الخبرة والمعرفة السابقة التي يحتفظ بها.
لكن العملية لا تنتهي عند هذا الحد، فغالبًا ما يؤدي إكمال مهمة واحدة إلى إنشاء مهام جديدة. يحدد النظام تلك المهام بنفسه ثم يضعها في قائمة الانتظار لتنفيذها، بما يضمن استمرار سير العمل دون انقطاع، بجانب تكيّف النظام دائمًا مع احتياجات المستخدم المتغيرة. ومع وجود قائمة انتظار المهام، يجب على النظام بعدها تحديد المهمة ذات الأولوية، وهنا تظهر قدرته على تحديد الأولويات، إذ يقيّم مدى ضرورة كل مهمة وأهميتها، ويرتبها وفقًا لما يحسّن كفاءة النظام ويناسب احتياجات المستخدم.
تتمثل الخطوة الأخيرة في إجراء عملية تنظيف بسيطة، إذ يرتب النظام قائمة المهام، ويمسح المهام المكتملة ويعيد تنظيمها حسب الحاجة للحفاظ على نظافة القائمة استعدادًا للجولة التالية من العمل. تتميز تلك الحلقة بأنها مستمرة وذاتية التنظيم وتعكس مستوى كبيرا من الاستقلالية، دون الحاجة لتدخل المستخدم في كل مهمة، بل إن النظام يتعلم ويطور نفسه كل مرة.
سنحاول شرح الأمر بمثال واقعي: لنفترض أنك تنوي قضاء إجازة وتحتاج إلى البحث عن أماكن جديدة وترغب في حجز رحلة الطيران والفندق وغيرها من التفاصيل، هنا ستلجأ إلى مساعدك الذكي الجديد لتخطيط الرحلة.
الخطوة الأولى أنك ستبلغه برغبتك في قضاء إجازة في شهر يوليو/تموز وتحدد له ميزانية معينة وتخبره بتفضيلاتك في الوجهة التي تريدها، وهذا هو هدف النظام. حينئذ سيبدأ المساعد في البحث داخل مواقع السفر المختلفة على الإنترنت، ويبحث في الوجهات المناسبة، ويقرأ آراء المسافرين وملاحظاتهم عنها، ثم يخزن المعلومات عن أفضل الأماكن التي ظهرت في تصنيفات المسافرين في هذا الوقت من العام.
بعدئذ سيقترح عليك ملخصًا بأفضل وجهات السفر التي وجدها لشهر يوليو/تموز وفقًا لتقييمات المسافرين وآرائهم، ويحدد لك أفضل الوجهات التي تناسب تفضيلاتك وميزانيتك الشخصية، ومنها أن يضع النظام قائمة يحدد فيها أولويات اختياراتك بناءً على تفضيلاتك، ويسألك: هل يبحث عن رحلات طيران وفنادق في هذه الوجهة؟
بعد موافقتك، ينتقل إلى التحقق من رحلات الطيران وحجوزات الفنادق وغيرها من التفاصيل الخاصة بالمكان، مع الحرص على أن كل التفاصيل تتوافق مع تفضيلاتك. وبمجرد تقليص نطاق الاختيارات، والوصول إلى أفضل فندق ورحلة، يعرضها لك ويخبرك بأنه وجد عرضا مميزًا في فندق 4 نجوم به شاطئ خاص، مع رحلة طيران بسعر مناسب. هنا ستمنحه الضوء الأخضر ليحجز الرحلة والفندق، وهذا ما سيفعله فعلًا، لينهي هذا الهدف بنجاح ويرسل لك تأكيدات الحجوزات على بريدك الإلكتروني. ثم في النهاية يستعد للمهمة التالية التي ستخبره بها بخصوص تلك الرحلة.
هذا الاستخدام للذكاء الاصطناعي، الذي يملك فيه القدرة على التفكير بصورة مستقلة مع أداء مهام معقدة ومتنوعة، بدلًا من مجرد تخمين الإجابة، أصبح أمرًا واقعًا خلال المدة الماضية، ويتطور بصورة متسارعة للغاية. يوجد أكثر من مشروع طموح لشركات ناشئة بهدف تطوير مثل هذا المساعد الشخصي الفائق الذكاء مثل مشروع "أوتو جي بي تي" (AutoGPT) و"إيجنت جي بي تي" (AgentGPT) و"بيبي إيه جي آي" (BabyAGI)، وكما ذكرنا فقد شرعت الشركات العملاقة مثل مايكروسوفت وغوغل في تنفيذ خططها الخاصة لتطوير هذا المساعد فعلًا.
وذلك لأنه مع الإمكانات المتنوعة والشاملة للنماذج اللغوية الكبيرة، وعند دمجها داخل هذا المساعد الشخصي الذكي، يمكنها أن تصبح العقل المحرك لمختلف أنواع الأنظمة الآلية المستقلة والقادرة على التواصل مع مكونات البرمجيات والأجهزة المختلفة الأخرى بل التحكم فيها.
ومن أوجه التطور الأخرى في هذا المجال اعتماد "نماذج العالم الواقعي" التي تمكّن وكلاء الذكاء الاصطناعي من فهم تعقيدات البيئة الواقعية والتفاعل معها بوعي أفضل. مثلًا، يمكن استخدام تلك النماذج في أنظمة القيادة الذاتية عبر إنشاء صور في الوقت الفعلي للطريق والمركبات الأخرى والمشاة وعلامات المرور وغيرها، لكي يتنبأ النموذج بالحالات المحتملة لبيئته في المستقبل ويتّخذ قراراته بناء على هذا التنبؤ.
لقد صُمّمت نماذج العالم الواقعي لتمكّن الوكلاء من محاكاة السيناريوهات المستقبلية المحتملة، ومن ثمّ اتخاذ قرارات واعية لإنجاز أهداف النموذج المحددة، وكل ذلك يحدث بينما تستمر تلك النماذج في التعلّم والتكيّف بالاستفادة من تجاربها.
هذه التوجهات الجديدة في المجال تمثل نقلة كبيرة من مرحلة البرمجة التقليدية نحو اعتماد أساليب أكثر تكاملًا وشمولًا للتعلم والتفاعل مع البيئة المحيطة. وبذلك يمكنها أن تفسح المجال أمام عالم جديد من الفرص لأتمتة بعض مهام الأعمال بالكامل، من البداية إلى النهاية، دون أي تدخل بشري، وهذا قد يمنح الإنسان فرصة حقيقية للتركيز على مهام أكثر أهمية وإبداعًا.
تحولات جذريةفي عام 2017، وقبل أن تعقد مايكروسوفت شراكتها مع شركة ناشئة غير معروفة حينئذ تُدعى "أوبن إيه آي"، أرسل بيل غيتس مذكرة إلى الرئيس التنفيذي ساتيا ناديلا ومجموعة من كبار المسؤولين في الشركة.
تنبأ غيتس في رسالته تلك بظهور أنظمة جديدة تعتمد على ما يُعرف باسم "وكلاء الذكاء الاصطناعي"، وهي نسخ متطورة من المساعدات الشخصية الرقمية التي يمكنها التنبؤ برغبات المستخدم واحتياجاته.
وأشار غيتس إلى أن هؤلاء الوكلاء سيكونون أكثر تطورا من المساعدات الرقمية الحالية مثل سيري وأليكسا، وقد يمتلكون قدرات معرفية مذهلة. وذكر غيتس في مذكرته "لن يغير هؤلاء الوكلاء أسلوب تفاعل الجميع مع الحواسيب الشخصية فحسب، بل سيقلبون صناعة البرمجيات رأسا على عقب، وهو ما سيشكل أكبر ثورة في الحوسبة منذ انتقالنا من كتابة الأوامر إلى النقر على الأيقونات".
كما ذكرنا، هذا التوظيف لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يمثل أفضل استفادة منها في مهام العمل، والأهم أنه سيحدث تأثيرًا كبيرًا في سلوكنا الرقمي. وكما ذكر بيل غيتس، في شهر مايو/أيار العام الماضي، أن هذه البرمجيات ستؤثر جذريا في سلوك المستخدم الرقمي، وأن الأمر المهم هو "مَن سيفوز بسباق المساعد الشخصي الفائق الذكاء، لأنك لن تستخدم أبدًا مواقع البحث على الإنترنت مرة أخرى، ولن تذهب أبدًا إلى مواقع الإنتاجية، ولن تطلب شراء احتياجاتك من موقع أمازون بعد الآن". ببساطة، لأن غيتس يرى، كما ترى الشركات الكبرى في المجال، أن تلك المهام ستطلبها مباشرة من هذا المساعد الشخصي الفائق الذكاء.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، كتب بيل غيتس تدوينة مفصّلة يتحدث فيها عن شغفه بعالم البرمجيات، وعن توقعه بأنها ستصبح أكثر ذكاء في المستقبل القريب، إذ يصف الوضع الحالي للبرمجيات بأن إمكاناتها محدودة، وذلك يتطلب تطبيقات منفصلة لتنفيذ مهام مختلفة. ولكنه يتوقع أن تتطور البرمجيات في السنوات الخمس المقبلة إلى "وكلاء الذكاء الاصطناعي" التي تفهم لغة البشر وتتجاوب معها، وتدير مختلف الأنشطة الرقمية بناء على معرفتها بتفضيلات المستخدم الشخصية. فخلافًا لروبوتات المحادثة الحالية المنفصلة والمخصصة لمهام محددة، سيتعلم هؤلاء الوكلاء من تفاعلات المستخدم معهم ويتحسنون بمرور الوقت، بما يوفر تجربة استخدام متكاملة.
وبجانب تغيير سلوكنا الرقمي على الإنترنت، يتوقع غيتس تحولًا جذريا في مختلف المجالات بسبب هذه البرمجيات الجديدة، خاصة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والإنتاجية والترفيه. باختصار، يتوقع غيتس أن تلك البرمجيات ستحدث تغييرًا ثوريا في الحوسبة وفي حياتنا اليومية، ليمثل ذلك نقلة نوعية عمّا يشهده المجال التقني حاليا.
وما أكّده بيل غيتس أيضًا هو أنه مع التقدم والتطور في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة باستخدام النماذج اللغوية الكبيرة، فإننا نتجه نحو مستقبل ينتشر فيه التفاعل مع أجهزة الحاسب عبر المحادثات ويصبح أمرًا شائعًا ومألوفًا أكثر، مع اندماج كامل لهذه البرمجيات داخل مهامنا اليومية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الذکاء الاصطناعی ا النماذج اللغویة دون الحاجة إلى شات جی بی تی هذا المساعد فی المستقبل من النماذج وغیرها من النماذج ا بیل غیتس فی هذا التی ت
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني.. من يحمي من؟
في خضم التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، يبرز الأمن السيبراني كساحة معركة جديدة بين الدفاعات الذكية والهجمات المتطورة. فهل يكون الذكاء الاصطناعي حامياً أم مصدراً لخطر جديد؟.
شهدت السنوات القليلة الماضية تسارعاً كبيراً في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في أنظمة الأمن السيبراني حول العالم.
وقد شمل ذلك مجالات مثل تحليل التهديدات، والتعرف على أنماط السلوك غير الطبيعي، والتعامل الآلي مع الحوادث الأمنية.
لكن في الجهة الأخرى، فإن نفس التقنيات باتت تُستخدم أيضاً من قبل جهات خبيثة لتطوير هجمات سيبرانية أكثر ذكاءً وخداعاً.
هذا التوازن الحساس بين الدفاع والهجوم يطرح تساؤلات جوهرية: من يسبق الآخر؟ وهل يمكن السيطرة على الذكاء الاصطناعي قبل أن يتفوق على البشر في ساحة المعركة الرقمية؟
الذكاء الاصطناعي.. درع رقمي
بحسب تقرير أصدرته شركة "Fortinet"، فإن أنظمة الأمن القائمة على الذكاء الاصطناعي تُسهم في تحسين زمن الاستجابة للحوادث بنسبة تصل إلى 90%، مقارنة بالأنظمة التقليدية.
وتعتمد هذه الأنظمة على تقنيات مثل التعلم الآلي وتحليل البيانات السلوكية، مما يمكّنها من رصد التهديدات المحتملة في لحظاتها الأولى، حتى تلك التي لم تُسجل من قبل.
ويشير خبراء إلى أن هذه القدرات أساسية في التصدي للهجمات من نوع "Zero-Day"، والتي لا تتوافر لها قواعد بيانات معروفة.
كما تستخدم شركات كبرى، مثل "Microsoft" و"IBM"، منصات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لحماية شبكاتها الضخمة وتحليل المليارات من الأحداث الأمنية بشكل يومي.
الذكاء الاصطناعي.. أداة هجومية
الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على الجانب الدفاعي، فقد أظهرت تحقيقات تقنية أن جماعات سيبرانية بدأت في استخدام أدوات تعتمد على نماذج توليدية لإنشاء رسائل بريد إلكتروني خادعة يصعب تمييزها عن الرسائل الحقيقية.
وفي مايو 2025، كشفت وكالة "رويترز" عن حادثة استخدمت فيها جهة خبيثة صوتاً مزيفاً لأحد كبار المسؤولين في إيطاليا لإقناع رجل أعمال بارز بتحويل مبلغ مالي كبير.
وقد استخدمت التقنية خوارزميات توليد الصوت بالذكاء الاصطناعي، وهي متاحة بشكل تجاري عبر الإنترنت.
كما تُستخدم تقنيات توليد النصوص آلياً لشن هجمات تصيّد ذكي، تستهدف الأفراد برسائل مصممة بعناية بعد تحليل بياناتهم عبر الإنترنت، مما يزيد من احتمالية وقوعهم ضحية للهجوم.
سباق غير محسوم بين المدافعين والمهاجمين
وصف عدد من الباحثين في مجال الأمن السيبراني ما يجري بأنه سباق تسلّح رقمي، فكلما طوّر المدافعون تقنيات ذكاء اصطناعي أكثر تطوراً، يسعى المهاجمون لاستغلال نفس التقنيات، بل ومحاكاتها في بعض الأحيان.
وأشار تقرير صادر عن شركة "Palo Alto Networks" في الربع الأول من العام 2025، إلى أن نسبة الهجمات التي تستخدم خوارزميات ذكاء اصطناعي، أو تستغل ثغرات في أنظمة تعمل بالذكاء الاصطناعي قد زادت بنسبة 37% خلال عام واحد فقط.
وتكمن الخطورة في أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ذاتها قد تصبح أهدافاً للهجمات، سواء من خلال التلاعب بنتائجها أو تدريبها على بيانات مغلوطة تُعرف بهجمات التسميم "Data Poisoning".
تحديات الخصوصية والحوكمة
من جانب آخر، تتزايد المخاوف حول الأثر المحتمل لأنظمة الذكاء الاصطناعي على الخصوصية والشفافية.
وفي تقرير أصدرته شركة "KPMG"، أوصت فيه بوضع أطر تنظيمية واضحة تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات الحساسة، وعلى رأسها الأمن السيبراني، وذلك لتفادي سوء الاستخدام أو التحيزات الخوارزمية.
وفي الوقت الذي تعتمد فيه هذه الأنظمة على مراقبة سلوك المستخدمين وتحليل البيانات بشكل دائم، يظل هناك جدل قانوني وأخلاقي حول مدى قانونية هذا التتبع، خاصة في ظل غياب تشريعات موحدة على المستوى الدولي.
حوكمة ذكية
لا شك أن الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل مشهد الأمن السيبراني العالمي، وبينما يوفّر إمكانيات هائلة لتعزيز الحماية، إلا أنه يطرح في المقابل تحديات معقدة تتطلب حلولاً مرنة وذكية.
التحدي الأكبر ربما لا يكمن فقط في تطوير تقنيات أكثر ذكاءً، بل في ضمان استخدامها المسؤول والآمن.
ولهذا، يدعو خبراء إلى تعاون عالمي بين الحكومات وشركات التكنولوجيا ومراكز الأبحاث لوضع أُطر تنظيمية تواكب سرعة هذا التطور المتسارع، وتحمي المستخدمين من مخاطره غير المتوقعة.
أمجد الطاهر (أبوظبي)