مركزية الألم في شعر الرثاء
تاريخ النشر: 20th, July 2024 GMT
يوليو 20, 2024آخر تحديث: يوليو 20, 2024
إبراهيم أبو عواد
كاتب من الأردن
شِعْرُ الرِّثَاء لَيْسَ تَجميعًا عشوائيًّا لِصِفَاتِ المَيِّتِ وخصائصِه وذِكرياتِه وأحلامِه ، أوْ حُزْنًا عابرًا سَرْعَان مَا يَذهَب إلى النِّسيان ، إنَّ شِعْر الرِّثَاء نظام إنساني مُتكامل ، تَندمج فيه رَمزيةُ اللغةِ معَ مركزيةِ الألمِ لِتَوليدِ فَلسفةٍ اجتماعية تُؤَسِّس لحالة تَوَازُن بَين حَتميةِ المَوْتِ ( الانطفاء ) ومَرجعيةِ الحُزْنِ ( الاشتعال ) ، حَيْث يَنبعث الحُزْنُ في التفاصيل اللغوية العميقة مِن أجْلِ تَجميدِ الزَّمَنِ ، وتَخليدِ المَيِّتِ .
والإنسانُ في الواقعِ الماديِّ المُغْلَقِ هُوَ كِيَان مِن لَحْمٍ ودَمٍ، مَصِيرُه إلى التُّرابِ ، ولكنَّ الإنسانَ في رَمزيةِ اللغةِ المفتوحةِ هُوَ تاريخ مِن بَريقٍ وفَضَاء ، مَصيرُه إلى الذاكرةِ . وهذه الذاكرةُ ضَوْءٌ يَتَفَجَّر في أقاصي الشُّعور وأعماقِ المَعنى .
مَركزيةُ الألمِ في شِعْرِ الرِّثَاء لَيْسَتْ تَخليدًا للمَيِّتِ فَحَسْب ، بَلْ هي أيضًا تَجسيدٌ للوِجْدَانِ وَفْق صُوَر شِعْرية مُهَيِّجَة للمَشاعرِ والأحاسيسِ ، وإعادةُ تأويل للوُجود ، بِحَيْث تُصبح الأحداثُ اليوميةُ المُعاشة تفاعلاتٍ مُستمرة بَيْنَ الألمِ والحُلْمِ ، وانفعالاتٍ مُتواصلة بَيْنَ الحُزْنِ والرَّمْزِ ، وهذا يُؤَدِّي إلى كَشْفِ أسرارِ الحَيَاةِ ، ومَعرفةِ مَسَارِ الإنسانِ ومَصيرِه ، والوُصولِ إلى مَغْزَى الروابطِ الإنسانيةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية في عَالَمٍ مُتَغَيِّرٍ يَقُوم على التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّةِ والواقعية . ولا يُمكِن أن يَثْبُتَ الحُلْمُ إلا في الذاكرة ، ولا يُمكِن أن يصير الجَسَدُ طَيْفًا إلا في اللغة .
والمَوْتُ يُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة ، فَتَصِير الكلماتُ شُعلةً مِنَ الحَنين ، الحنين إلى أزمنة سحيقة لا تَتَكَرَّر ، والحنين إلى أمكنة غابرة لا تَعُود ، وتَصِير المعاني مصابيح مِنَ الدَّمْع ، الدَّمْع النابع مِن التَّأمُّلِ في طبيعة الحياة الفانية ، والدَّمْع النابع مِن ماهيَّة المَوْتِ باعتباره الحقيقة الوحيدة في كَومةِ الأوهام التي تُمَزِّق رُوحَ الإنسانِ ، وتَستنزف جَسَدَه حتى الرَّمَقِ الأخير .
وإذا دَخَلَ المَوْتُ إلى فَلسفةِ اللغةِ نَصًّا ورمزًا وتَعبيرًا ، فإنَّ زاوية الرُّؤية إلى الحياة سَتَتَغَيَّر ، ويُصبح الطريقُ إلى مَعرفةِ النَّفْسِ البشرية طريقةً لتفكيك عناصرِ الوُجودِ والوِجْدَانِ معًا ، وعِندئذ يَصِير الخَوْفُ مِنَ الزَّوَالِ حُضورًا لُغويًّا طاغيًا ، ويُصبح الخَوْفُ مِنَ العَدَمِ وُجودًا قائمًا على خُلودِ الكلماتِ القادرة على حَمْلِ الإنسانِ رُوحًا وجَسَدًا ، وحمايته مِنَ الفَنَاءِ ، وحراسته مِنَ الماضي الذي لا يَمْضِي ، والزَّوَالِ الذي لا يَزُول ، والغِيَابِ الذي لا يَغِيب . ولا شَكَّ أنَّ الكلمات هي شرعيةُ البَقاءِ في عَالَمٍ لا يَبْقَى ، ومَنْبَعُ اليَقينِ والأمانِ في عَالَمٍ تُسيطر عليها الشُّكُوكُ والمَخاوفُ .
والألمُ الذي يُسَبِّبُه المَوْتُ يُصبح _ مِن خِلال التَّكثيف الشِّعْريِّ _ دافعًا إلى الخُلودِ ، وتَخليدِ اللحظة الآنِيَّة ، حَيْث يَصِير المَوْتُ في شِعْر الرِّثَاء وِلادةً جديدةً ، وانبعاثًا مُتواصلًا ، واستعادةً لزمنِ الأحلامِ الوردية مِن قَبضةِ الغِيَابِ الخَشِنَةِ .
وكُلَّمَا تَجَذَّرَ الحُزْنُ في تفاصيل البناء اللغويِّ ، تَكَرَّسَت العَلاقةُ الفلسفيةُ بَيْنَ الحَيَاةِ والمَوْتِ ، واللمعانِ والانطفاءِ ، والوُجودِ والعَدَمِ ، والبَقَاءِ والفَنَاءِ ، وهذه العَلاقةُ الفلسفيةُ تُسَاهِم في انتشالِ الذكرياتِ المَنسيةِ مِن هاوية الغيابِ السحيقة ، واستعادةِ الأحلامِ المَقموعةِ مِن مَتاهةِ الزمن القديمة ، كما تُسَاهِم في تَحديدِ الخَطِّ الفاصلِ بَيْنَ المَوْتِ بِوَصْفِه الحقيقة الوحيدة في الحياة ، والمَوْتِ بِوَصْفِه الحياة الحقيقية القائمة بذاتها . وهذا يَعْني أنَّ للمَوْتِ وَجْهَيْن : معنوي ومادي ، وبُعْدَيْن : مَحسوس وغَيْر مَحسوس .
وشِعْرُ الرِّثَاءِ يُعيد صِياغةَ العَلاقةِ بَيْنَ الألَمِ والبُكاءِ اعتمادًا على المَنظور اللغوي الرمزي ، ويُعيد تَكوينَ المَعاني الفلسفية العَميقة استنادًا إلى ثُنائية ( الخُلودِ / العَدَمِ ) . والواقعُ المَادِيُّ نَسَقٌ حياتي زائل ، والأحداثُ اليوميةُ أرشيفُ النِّسيانِ . والإنسانُ سَيُصبح طَيْفًا عابرًا ، وذِكْرَى باهتة ، كأنَّ شيئًا لَمْ يَكُنْ ، ولكنَّ اللغة تَجعل الإنسان كِيَانًا مَعرفيًّا خالدًا، وكَينونةً فِكريةً باقيةً ، لأنَّ اللغةَ خالدةٌ في قَلْبِ العَدَمِ ، وباقيةٌ في الفراغِ المُوحِش .
إنَّ الألَمَ لَيْسَ شُعورًا هُلاميًّا مُجَرَّدًا ، وإنَّما هُوَ نظامٌ فلسفي ، وشكلٌ مِن أشكالِ الانبعاثِ الدائم ، ومَركزيةُ الألَمِ في شِعْرِ الرِّثَاءِ تَجعل للمَوْتِ بُعْدًا جَمَالِيًّا ، حَيْثُ تَؤُول لحظةُ الفِرَاقِ إلى لِقَاء مُتَجَدِّد معَ الماضي والحاضرِ ، وتَصِير لحظةُ النهايةِ نُقْطَةَ انطلاقٍ لبداية جديدة ، وتُصبح غُربةُ الرُّوحِ في البَدَنِ زَمَنًا مُتَدَفِّقًا في الهُوِيَّةِ المَعرفية للوُجود الإنسانيِّ ، وَيَتَحَوَّل اغترابُ الجَسَدِ في التُّرَابِ إلى تَجربةٍ شِعْريةٍ لها أسرارُها المُستمدة مِن الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدهِشة ، ولها عوالمُها القائمةُ على الدمعِ المُضِيء في نظام استهلاكي مادي مُعْتِم ، ولها جُذورُها الراسخة في الروابط الإنسانية النبيلة . وكأنَّ صَدْمَةَ المَوْتِ تُولِّد أزمنةً جديدةً للحياة ، وتَفْتَح الماضي على الوَعْي بالحاضر ، مِن أجْلِ حِمايةِ مَاهِيَّةِ التاريخ مِنَ الانكسار ، وحِمايةِ سُلطةِ الحضارة مِنَ الانهيار .
وإذا امْتَصَّ الإنسانُ صَدْمَةَ المَوْتِ ، وفَرَّغَ ألَمَه وحُزْنَه في اللغةِ، فَإنَّ اللغةَ سَتُعِيد اكتشافَ أسرارِ الوُجود التي تَنْمُو في داخلِ الإنسانِ ، وتُعِيد تَرتيبَ العلاقاتِ الاجتماعية في الأحداث اليومية ، فَيُصبح المَوْتُ بِدايةً جديدةً للأحلامِ والذكريات ، وتأمُّلًا دائمًا في الحياةِ باعتبارها الفُرصة الوحيدة للإنسان كَي يَترك بَصْمَتَه في رُوحِ التاريخ ، ويَترك أثَرَه عَلى جَسَدِ الحضارة .
المصدر: وكالة الصحافة المستقلة
كلمات دلالية: الم و ت الع د م الح ز ن
إقرأ أيضاً:
علي جمعة يكشف علامات رضا الله على الإنسان | 4 دلائل واضحة
علامات رضا الله على الإنسان تعد من أكثر الموضوعات التي تشغل بال كثيرين حيث يتساءل عدد كبير من المؤمنين عنها لمعرفة هل يرضى الله عنهم، لذا نعرض لكم في السطور علامات رضا الله على الإنسان والتي حددها الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق.
كيف تعرف أن الله راضٍ عنك؟وفي السياق قال الدكتور علي جمعة، في تصريحات سابقة له، إن الإنسان يمن أن يكون مجتهدًا في عبادته لله ومواظب على الصلاة والصوم والزكاة، ويظن نفسه أنه من المقبولين وممن رضي الله عنهم ، ولكنه يفعل من المعاصي والذنوب ما يمحو به هذه الحسنات لذا كيف تعرف أن الله راضٍ عنك؟.
توفيق الله في أداء العباداتوأوضح الدكتور علي جمعة، أن التوفيق في أداء العبادات والطاعات من علامات رضا الله على الإنسان، منوها بأنه إذا كنت تصلي ومواظبا على الصلاة باستمرار من دون انقطاع، فهذا توفيق من الله بسبب رضاه عنك.
وتابع توفيق الله لعبده بأن يداوم على فعل العمل الصالح تقربا لله، فذلك يدل على رضا الله عليك كأن تداوم على صلاة ركعتين يوميا قبل نومك، حيث إن أحب الأعمال إلى الله أدومها.
استجابة الدعاءاستجابة الدعاء من أبرز علامات رضا الله على الإنسان، هكذا أكد الدكتور علي جمعة، موضحا أن عدم استجابة الدعاء ليست دليلا على عدم رضا الله على الإنسان؟
ذكر الله كثيراوأ:د علي جمعة أن من بين علامات رضا الله هو منع عبده من ارتكاب المعصية ولو قهرا، مشيرا إلى أن الله تعالى من بين علامات رضا الله عن عبده ان يكون لسان العبد رطبا من كثرة ذكر الله.
علامات غضب الله على الإنسانفي حين قد يتساءل آخرون عن علامات غضب الله على الإنسان والتي يمكن أن تكون بمثابة جرس إنذار في حياتك لتنتبه قبل فوات الأوان، وفي السطور التالية نتعرف على أبرز علامات غضب الله على العبد..
علي جمعة يوضح علامات الساعة الصغرى والأحاديث الواردة فيها
علي جمعة: اصبر على طلب الحق وتمسك به ولو كنت وحدك
تدل قسوة القلوب بسبب الذنوب على غضب الله تعالى، حيث يتحول القلب إلى حالة من الصلابة والجمود، فينزع الله من العاصين الرحمة من قلوبهم عقوبة لهم.
وجاء عن مالك بن دينار أنه قال: "قسوة القلب عقوبةٌ للعاصي، ونزع الرحمة منه دليلٌ على غضب الله -تعالى- من صاحبه"، ومن مظاهر قسوة القلب هي : "الغفلة عن ذكر الله، وعدم الخشوع، وعدم التأثر بكلام الله، وقلة الحياء من الله".
زيادة العبد بالنعم وإمهالهيعد من علامات سخط الله على الإنسان هو إمهال العبد بالنعم، وعدم التوفيق لشكر الله على النعم فهي من علامات غضب الله.
وقد يدل استدراج العبد بالنعم على سخط الله على العبد، بأن يزيده من النِعم وهو على المعصية، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الطغاة بقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ).
عدم التوفيق للتوبةعدم توفيق الإنسان في أداء العبادات والطاعات، والابتعاد عن التوبة تدل على بعد الإنسان عن ربه وعقاب الله تعالى له على معاصيه وذنوبه.
وقد أخبر الله عز وجل عن حال الإنسان الغافل عن طاعته وذكره، وانشغل بمعصيته، فقال الله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
الدكتور علي جمعة يكشف علامات غضب اللهمن جانبه بيّن الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، علامات غضب الله في تصريحات سابقة له ومنها ما يلي:
صدّ العبد عن أداء الواجبات الشرعيّة التي افترضها الله عليه.مداومة العبد على ما يُسخط الله سبحانه؛ من قتل النفس أو الظلم والطغيان.توسيع الله تعالى على العبد في رزقه، ومن ثمّ حرمانه من أداء شكرها، فذلك من علامات سخط الله على عبده.