الإنجليزي كامبل يتقصى «الخيال العلمي العربي»
تاريخ النشر: 25th, July 2024 GMT
إيهاب الملاح
أخبار ذات صلة(1)
هذا الكتاب، «الخيال العلمي العربي» للمؤلف الإنجليزي يان كامبل، ومن ترجمة أحمد سمير سعد، الصادر أخيراً عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، ويقع في 300 صفحة من القطع المتوسط، يعد في نظري واحداً من أهم المراجع عن أدب الخيال العلمي «العربي» في القرن العشرين.
في حدود بحثي وقراءاتي في هذه الدائرة، باستثناء مجموعة الدراسات والفصول والمقالات التي كتبها المرحوم يوسف الشاروني، وجمعها بين دفتي كتاب بعنوان «الخيال العلمي في الأدب العربي»، لم أقرأ كتاباً واحداً بهذا العمق والشمول والإحاطة والانضباط المنهجي.
يمثل الكتاب موسوعة ثرية بكل ما تعنيه الكلمة، وللأسف فإن هذه الإحاطة وهذا الاستقصاء المدهش لنصوص أدب الخيال العلمي في الثقافة العربية، وخصائصه السردية وتكويناته الجمالية، ونماذجه (المشهور منها وغير المشهور على السواء)، كل ذلك تعرَّض له مؤلف الكتاب «الأجنبي»، ولا أعلم إن كان هناك باحثون أو نقاد عرب قد تصدوا لدراسة الموضوع بهذا الشكل الكلي والشامل أم لا!
(2)
من البداية، يؤطر مؤلف الكتاب عمله منهجياً ونظرياً، ويشير إلى أنه يستهدف بدراسته هذه ثلاث فئات أو ثلاثة أنواع من الجمهور المستهدف، النوع الأول: هم دارسو الخيال العلمي الذين لا يستطيعون قراءة العربية، لكنهم مهتمون بالكيفية التي يتجلى بها «الخيال العلمي» في العربية، ومنشغلون بالتساؤل عن مجازاته الأولية واهتماماته، خاصة بالدرجة التي يختلف بها عن النماذج المعيارية للخيال العلمي الأنجلو أميركي أو بالدرجة التي يطرح بها نقداً ضمنياً لها.
النوع الثاني: هم دارسو الأدب العربي الضليعون في تحليل الإبداع الحكائي الأدبي المعترف به الذي هيمن على الخطاب عن الأدب العربي لوقتٍ طويل جداً، والذين يرغبون في فهم ما هو أكثر عن الخيال العلمي العربي - باعتباره جزءاً من الاهتمام النقدي الجديد نسبياً بالنوع الإبداعي - كما يرغبون في فهم ما هو أكثر عن تطورات نظرية ونقد الخيال العلمي في الإنجليزية، واللغات الأخرى. أما النوع الثالث الذي سعت الدراسة إلى البرهنة على حضوره ووجوده، فهم دارسو أدب ما بعد الكولونيالية، ونظريته كذلك، لأن الخيال العلمي العربي من خلال التعريف الذي تبناه المؤلف هو «أدب ما بعد كولونيالي»، لكنه يختلف عن أغلب الأعمال المدروسة باعتبارها أدب ما بعد كولونيالي، ليس لأنه مكتوب بالعربية بدلاً من أن يكون مكتوباً باللغة الكولونيالية مثل الفرنسية أو الإنجليزية فقط، لكن لأنه لا يميل كذلك إلى إسباغ اهتمام مفرط على أسئلة «الهوية».
ومن هنا سيكون تركيز الدراسة على قراءات مدققة لبعض الأعمال الكبرى في الفترة الأولى للخيال العلمي العربي، وبشكلٍ خاص في ضوء النظرية التي بدأ الباحثون العرب في الأدب العربي و«الخيال العلمي العربي» في تطويرها عن الموضوع.
إذا كان لهذه الدراسة، بحسب مؤلفها يان كامبل، أن تقوم بإسهام معرفي أصلي، فمن المأمول أن تمكن دارسي الخيال العلمي، ودارسي الأدب العربي، ودارسي أدب ونظرية ما بعد الكولونيالية من دمج محتوى واهتمامات فترة تكوين الخيال العلمي العربي بأبحاثهم.
(3)
يستحق الكتاب وقفات طويلة ومتأنية، خصوصاً مع أهمية النماذج النصية التي أوردها المؤلف وتوقف عندها تفصيلاً، ويكفي أنه توقف إزاء رائدين كبيرين من رواد هذه الكتابة في الأدب العربي، وهما:
الراحل نهاد شريف (1932-2011) الذي تعرفت على أعماله من طبعة الأعمال الكاملة في الهيئة العامة للكتاب، أواسط تسعينيات القرن الماضي، وقرأت فيها روايتيه الشهيرتين «الماسات الزيتونية» (صدرت للمرة الأولى عام 1979 عن دار المعارف بالقاهرة)، و«قاهر الزمن» (صدرت عن مؤسسة دار الهلال عام 1972، وتقع في 288 صفحة، وتحولت إلى فيلم سينمائي قام ببطولته نور الشريف، وأخرجه كمال الشيخ، عام 1987). أما الثاني فهو الكاتب الراحل صبري موسى الذي اشتهر بروايته «السيد من حقل السبانخ».
من مزايا هذا الكتاب أنه عرفني على نصوص تنتمي لدائرة أدب الخيال العلمي لكتاب عرب، غير مصريين، وأشار إلى نماذج مهمة لنصوص لم أكن أعرفها ولا سمعت بها من قبل (على سبيل المثال أعمال أحمد عبد السلام البقالي، وطالب عمران، وطيبة أحمد الإبراهيم).
ميزة أخرى أظنها جديرة بالتوقف عندها جيداً وهي الإشارات المهمة في البحث عن بذور أو جذور لأدب الخيال العلمي في نصوص التراث العربي، الكلاسيكية.
(4)
ربما كنت أتمنى أن يتعرض الكتاب لأسماء أخرى حازت شهرة كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، ونالت أعمالها في هذه الدائرة رواجاً غير مسبوق، مثل رؤوف وصفي، ونبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق، وإن كنت أظن أنه لم يتوقف عندها لأسبابٍ تتعلق بالمحددات النظرية للنوع الأدبي (وهو أدب الخيال العلمي في حالتنا هذه)، كما عرض له في فصله النظري عن أدب الخيال العلمي العربي «التعاريف والجذور»، وربما لأنه استبعد من دائرة تحليلاته تلك الأعمال الموجهة للناشئة والشباب، وهي أقرب إلى دائرة «كتب الجيب» و«كتب الإثارة والتسلية» والكتب المغرية بالقراءة (خيالية مثيرة للتسلية في المقام الأول)، منها إلى دائرة أدب الخيال العلمي بمحدداته النظرية كما ذكرنا.
وتبقى كلمة عن الترجمة العربية للكتاب التي أنجزها أحمد سمير سعد، أحد نماذجنا المشرفة في النشاط العلمي، بالتأليف والترجمة على السواء، في العقد الأخير.
وأشرت قبل سنوات إلى نباهة هذا الشاب، وقدراته المعرفية والعلمية والترجمية العالية.. ويكفي للتدليل على هذا الجهد العظيم المبذول في الترجمة، ما أشار إليه المترجم في تصديره من سعيه لتوثيق كل النصوص التي أحال إليها المؤلف الإنجليزي في كتابه، والعودة إلى أصولها العربية، وله في ذلك حكايات وطرائف وحيل للوصول إلى هذه النصوص أو إلى أصحابها ومنهم إلى نصوصهم.
ولم تنته الترجمة - في نظره - إلا بتوثيق كامل الاقتباسات، ونقلها من مصادرها «العربية» الأصلية، كما رصد كيف ترجمها المؤلف يان كامبل وتعامل معها، مبيناً كيف أوردها في سياق بحثه، معها وبنى عليها استنتاجاته، كما أثبت في الهوامش ما تبين له خطأ المؤلف في فهمها أو حاد في تفسيرها عن الصواب المعقول.
(5)
في الأخير، فإن هذا الكتاب يستحق أن يُقرأ بعمق وتأمل، وأن تعرض أفكاره وتحليلاته على طاولة البحث والنقاش، إن اتفاقاً أو اختلافاً، لكن في النهاية وبالتأكيد سيثمر هذا النقاش عن قراءات معمقة وأفكار جديدة وملهمة، ولفت الأنظار إلى دوائر للإبداع والكتابة لم تحظ بما تستحقه من حضور وانتشار وأضواء مثل غيرها من أنواع وأشكال الكتابة الإبداعية «البينية»، كما هو الشأن في كل الثقافات واللغات الأخرى.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: المركز القومي للترجمة الخيال العلمي الخیال العلمی فی الأدب العربی
إقرأ أيضاً:
التفكير العلمي. . المُنجَز الحقيقي للتجربة البشرية
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
من أهم الإنجازات التي حققتها البشرية عبر مسيرتها الطويلة هو ما يُعرف بالتفكير العلمي، ذلك الأسلوب الفريد في التفكير الذي لا يقتصر على المتخصصين وحدهم؛ بل هو أداة مشتركة يستخدمها العلماء من مختلف التخصصات لتفسير نتائج تجاربهم وفهم الظواهر التي يدرسونها.
التفكير العلمي هو ذلك النسيج المشترك الذي يربط العلوم ببعضها، وهو القوة التي تمكن الإنسان من التفاعل مع عالمٍ مليء بالمعلومات المتنوعة والمعقدة، ليتمكن من اتخاذ قراراته اليومية بناءً على معايير واضحة ومنهجية سليمة.
ليس التفكير العلمي ظاهرة حديثة نشأت مع التطور العلمي، لكنه أصبح ضرورة مُلحّة في عصرنا الحالي؛ حيث غدت المعرفة أشبه ببحرٍ هائج من المعلومات التي تتدفق بسرعة غير مسبوقة. هذه الوفرة في العلوم والتقنيات زادت من حاجة الإنسان إلى أدوات تساعده على التمييز بين الصحيح والمضلل، بين المعرفة الحقيقية والآراء المتحيزة أو المغلوطة. هذا التحدي اليوم لا يواجه فقط العلماء أو المختصين؛ بل يطال كلّ شخص يسعى لفهم ما حوله بشكل موضوعي وواقعي.
خذ مثلًا قصة غاليليو غاليليّ، الذي تحدى في القرن السابع عشر العقائد السائدة حينما قال إن الأرض تدور حول الشمس، ليست مركز الكون كما كان يعتقد الجميع. لم يكن غاليليو مجرد ناقل رأي؛ بل اعتمد على ملاحظات دقيقة وأدوات متطورة آنذاك، واستطاع أن يدعم فكرته بأدلة تجريبية. رغم معارضة الكنيسة وصراعاته الشخصية، ظل منتميًا لمنهجية التفكير العلمي، مما مهد الطريق لفهمنا الحالي للكون. هذه القصة تُبرز أهمية التفكير العلمي كأداة للتحرر من الأفكار الجاهزة والدخول في عالم الحقيقة المدعومة بالأدلة.
في ظل تعقيد العلوم وتداخل تخصصاتها، يصبح من المستحيل لأي فرد أن يُلمّ بكل تفاصيلها أو يتقنها جميعًا. لكن هناك مهارة أساسية يمكن لأي إنسان امتلاكها: القدرة على التحقق من صحة طريقة التفكير نفسها. هذه القدرة تمنحه القوة ليكون ناقدًا واعيًا، قادرًا على رفض المعلومات والنظريات التي لا تستند إلى منهجية سليمة، حتى وإن جاءت من مصادر علمية أو متخصصة ذات مكانة مرموقة، فليس كلّ ما يُقال أو يُكتبُ يستحقّ القبول، خصوصًا إذا كان الأساس الفكري الذي بُني عليه ضعيفًا أو مليئًا بالثغرات.
تخيل مثلًا أنك قرأت دراسة تدّعي أن تناول نوعٍ معين من الأعشاب يمكن أن يعالج مرضًا خطيرًا. قد تبدو الفكرة جذّابة، لكن التفكير العلمي يدفعك لأن تسأل: كم عدد المشاركين في هذه الدراسة؟ هل كانت الدراسة مزدوجة التعمية؟ هل هناك تجارب أخرى تدعم هذه النتيجة؟ هل تم نشر نتائج الدراسة في مجلة علمية محكّمة؟ بهذه الأسئلة، تحمي نفسك من الوقوع في فخ الادعاءات غير المدعومة بأدلة قوية.
التفكير العلمي – إذن – ليس مجرد أداة لفهم الأفكار؛ بل هو درع يحمي العقل من الانزلاق خلف الخداع أو التحيز. إنه يسمح للإنسان بأن يُقيِّم الأفكار المطروحة ويجعلها تمر عبر مصفاة دقيقة من النقد والتمحيص. ولا يعني هذا التشكيك أو الرفض الأعمى؛ بل يعني البحث الجاد عن المنهجية التي استُخدمت، والتحقق من سلامة خطوات التفكير، وفضح أي خلل قد يؤدي إلى استنتاجات مغلوطة.
في حياتنا اليومية، نواجه مواقف كثيرة تستدعي منا استخدام التفكير العلمي، عندما نقرأ تقارير عن أطعمة "سحرية" تحرق الدهون أو تساعد في إنقاص الوزن بسرعة، أو عندما نشاهد إعلانًا يُروّج لمنتج معين بوصفه "معجزة" في حل مشكلة صحية أو تقنية، أو نستمع لمحاضر يقدم تفسيرًا معقدًا لظاهرة اجتماعية دون أن يذكر كيف توصّل إلى هذه النتائج، هنا يظهر التفكير العلمي كأداة تمكننا من التمييز بين المعلومات الموثوقة وتلك التي تستند إلى انطباعات شخصية أو بيانات ضعيفة.
في هذا السياق، يصبح الإنسان قادرًا على اكتشاف أخطاء منهجية قد لا يلحظها البعض، حتى من أصحاب الاختصاص، بمجرد أن يبذل قليلًا من الجهد والتأمل. هذه الأخطاء ليست بالضرورة مقصودة، لكنها تظهر نتيجة لقصور في تطبيق قواعد التفكير العلمي أو انزلاق نحو الأحكام المسبقة أو التفسيرات السطحية، ومن خلال التعرّف على هذه الأخطاء، يمكننا تعزيز قدرتنا على التمييز بين ما هو علمي ومنهجي، وما هو عشوائي أو غير موثوق.
على سبيل المثال، في إحدى الدراسات الاجتماعية التي تناولت أسباب ارتفاع معدلات الطلاق في مجتمعٍ معين، قد يميل الباحث إلى الاعتماد على عدد قليل جدًا من الحالات دون تمثيل عادل لأصناف المجتمع المختلفة، مما يؤدي إلى نتائج غير دقيقة ومضللة. التفكير العلمي يدعونا هنا أن نبحث عن حجم العينة، تنوعها، وطبيعة الأسئلة المطروحة، لنقرر مدى صحة الاستنتاجات.
إنَّ مهارة التفكير العلمي ليست حكرًا على العلماء أو الأكاديميين؛ بل هي حق لكل إنسان يسعى إلى معرفة حقيقة الأشياء وفهم العالم من حوله، فالتفكير العلمي يمنحنا القدرة على مواجهة التعقيدات والتحديات التي فرضها عصر المعرفة، لنعيش حياة أكثر وعيًا ونجاحًا، ونُسهم في بناء مجتمع يرتكز على العلم والمنطق، لا على الأوهام والانطباعات الخاطئة.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصر