آخر تحديث: 1 غشت 2024 - 2:26 ممحمد صابر عبيد من وصيّة الجاهليّة أمامة بنت الحارث لابنتها أمّ إياس بنت عوف الشيبانيّ عند زواجها: (كوني له أمة يكن لك عَبداً). يعد فن الوصايا من الفنون السرديّة العربيّة القديمة ذات الأثر البالغ في الكشف عن طبيعة العقل العربيّ والبلاغة العربيّة، وعلى الرغم من أن الفن الشعريّ العربيّ القديم ومعظم فنون السرد العربيّ القديم كانت حكراً على الرجال -إلا ما ندر-، فإن نصوصاً سردية استثنائيّة على الأغلب هي التي فلتت من عنق الزجاجة الذكوريّة وعبّرت عن فضاء أنثوي قولاً ومعنى، ومنها هذه الوصيّة الأنثوية التي تبدو فيها الذكورة لاحقة لها، أو مذيلة بها، أو تنمو تحت ظلالها بدرجة تنوير أنثوة عالية ومثيرة.
تمثّل الوصيّة الأنثويّة في هذه البؤرة السرديّة البالغة الخصب والغنى والثراء والبلاغة منها خطاباً عالي الاقتصاد والاختزال والإيجاز والاكتظاظ اللغويّ والتركيز العلاميّ الفائق، تختصر حياةً زوجيّةً كاملةً من أوّلها إلى آخرها، بلا تفاصيل سرديّة ظاهرة بل بموحيات هائلة تشعّ من داخل فضاء الجملة وتخومها وظلالها وزواياها، وتحيل على مستويات عديدة تتدخّل في جوهر الحياة الحبيّة بين الزوجة والزوج، إذ تتكشّف لسانيّة الجملة -بحسب خطاب الأمّ- عن أنّ أداة السيطرة والهيمنة هي بيد الزوجة أوّلاً، فحين تتمكّن من فرض أنموذجها على هذا النحو يكون بوسعها تسيير أمور العلاقة بينهما داخل هذا المسار، والزوج في هذه الرؤية الضاربة في طغيانها لا بدَّ أن يستجيب ويتشكّل على وفق مقتضياتها. تتجلّى في أعماق هذا الخطاب صورتان متلاحمتان تفترقان وتندمجان في لحظة واحدة لا يمكن رصدها أو القبض عليها بسهولة، واحدة منهما عموديّة والأخرى أفقيّة، الصورة العموديّة تنطلق من الأعلى في المرتبة (الأم) إلى الأدنى في المرتبة (الابنة)، بكلّ ما تتكشّف عنه هذه العلاقة بين الأعلى والأدنى من فضاء وثقافة وتربية ومرجعيّة وتقاليد وقيم وحقوق وواجبات، على نحو واجب التنفيذ والاستجابة بحكم الخبرة والمعرفة والتجربة المقبلة بحرص ومحبّة وضرورة من الأعلى نحو الأدنى، وبحكم الطاعة والامتثال والثقة المرتدّة من الأدنى إلى الأعلى دليلاً على تكامل الفكرة وحيويّة الخطاب. أمّا الصورة الأفقيّة فهي صورة الخطاب العابر لمحدوديّة الفضاء داخل المسافة الإنسانيّة الكليّة العامّة للوصيّة، إذ هو خطاب من الأمّهات كلهنّ إلى بناتهنّ كلهنّ، خطاب يتجاوز الأزمنة والأمكنة والثقافات للوصول إلى حالة توافق مثاليّة استباقيّة بين الزوجَين، وإذا كانت الطبقة القشريّة من الخطاب تحيل على دلالة ذات طبيعة اجتماعيّة وثقافيّة على العموم، فإنّ الطبقة الجوّانيّة تحيل على دلالة إيروتيكيّة تتدخّل في جوهر الصلة الرابطة في عملية الزواج، وثمّة ترابط وثيق جدليّ بين الطبقتين، لكنّ الانبثاقة السيميائيّة الأكثر تحققاً في فضاء المعنى ترتبط بالدلالة الإيروتيكيّة.
ينطوي خطاب الوصيّة على معنى كينونيّ عميق ذي طابع فلسفيّ كثيف تشتغل دوالّه كلّها اشتغالاً حركيّاً لافتاً، ففعل الشرط المسند إلى ضمير المُخاطَبَة (كُوني) يحمل معنى التغيير الشامل في الهيئة والرؤية والفعل والسلوك والحلم، وهو يتحرّى قيمة أمريّة متعلّقة بدلالة الوصيّة، ولعلّ “أُمامة” الأم هنا لا توصي ابنتها على وجه التحديد بل تأمرها على نحو ما، وفعل الكينونة الأمريّ هنا هو فعل تغيير شامل لبلوغ حياة أخرى يختلف فيها كلّ شيء، لذا فإنّ الفعل يحتشد بطاقة انتباه عالية تضع صاحب الخطاب (أُمامة)، والمُخاطَبَة (ابنتها)، والخطاب نفسه، في حالة الانشداد والتمثّل والحضور، يعقبه الجار والمجرور (له) في إحالة على الآخر (الذكوريّ) حيث يجري تصغيره واختزاله إلى ضمير متّصل مجرور بحرف جرّ، بمعنى أنّه مهما كان ضئيلاً فثّمة وجوب عليها أن تستجيب لحاله وتكون (له)، وهذه الصيغة (له) تحيل على علامة تملكيّة استحواذيّة يتعالى فيها المعنى الإيروتيكيّ أكثر من المعاني الأخرى، ومعنى الصيرورة الموافق للمعنى الإيروتيكيّ أيضاً، وإذا ما قرأنا الجملة كاملةً (كُوني له)
فإنّ المعنى الإيروتيكيّ يتفتّح أكثر ويستجيب بعمق لرؤية التملّك والصيرورة الذاتيّة الخاصّة.
حين نصل إلى دالّ (أمةً) فإنّ المعنى الإيروتيكيّ يتوسّع ويتركّز ويتشكّل على نحو أكثر حضوراً وقيمة وتنويراً، فمن معاني الـ (أَمَة) المعروفة (الجارية/ المملوكة/ الخادمة)، وثمّة معنى خاصّ لكلّ دالّ منها، وعلى الرغم من أنّ معنى (مملوكة) قد يكون هو الأظهر هنا توازياً مع دالّ (عبداً) من أجل تحقيق صورة الموازاة الأسلوبيّة، غير أنّ الطبقة العميقة من معنى (الوصيّة) يحيل أكثر على دالّ (الجارية)، بحكم الدلالة السيميائيّة التي يختزنها الخطاب في مستوى أصيل وحيويّ من مستوياته، إذ (الجارية) تسعى إلى إرضاء سيّدها في كلّ ما يطلب، وفي مقدّمة طلباته الإرضاء الجنسيّ، وهو ما تزوّده لنا الكثير من المرويات التاريخيّة والأدبيّة والثقافيّة على مرِّ العصور ولدى الكثير من أمم الأرض.
جواب الشرط (يكنْ) يلتئم إيقاعياً على كينونة فعليّة ضاغطة باتجاه الصيرورة والاستجابة السريعة القصوى لفعل الشرط (كُوني)، ولو حاولنا إجراء موازنة إيقاعيّة بين فعل الشرط (كُوني) وجواب الشرط (يكنْ) سنجد الفرق واضحاً، فصوت (الواو) في (كُوني) صوت ممدود يأخذ مساحة زمنيّة وصوتيّة واسعة تتلاءم مع حاجة (المُخاطَبَة) للتحوّل والتغيير من حال إلى حال، وهي حاجة فعليّة تحتاج إلى وقت ليس قصيراً من أجل استيعاب الحياة الجديدة بطبقاتها وحيثياتها والتزاماتها كلّها، على نحو تكون فيه قادرة على تكون (أمةً) كما أرادت أمّها، إلّا أنّ الآخر (الرجل) الغائب هنا لا يحتاج هذا الوقت كي يصير (عبداً) لأَمَتِهِ، إذ هو بمجرّد أن يرى كينونة امرأته وقد تحوّلت إلى (أَمَة) سرعان ما يستجيب كي يكون (عبداً)، لذا يأتي جواب الشرط (يكنْ) شبه مقفل من حيث بنيته الإيقاعيّة عن طريق علامة السكون التي تُوقِف صوت النون وتحجّم امتداده الإيقاعيّ، على العكس من انفتاح البنية الإيقاعية الواسع لـ (كُوني) بمدّ صوت الواو إلى أبعد مدى إيقاعيّ ممكن، ويعكس هذا التباين الإيقاعيّ الزمنيّ اختلافاً مقارباً في البنية الدلاليّة.يهيمن فضاء الأنوثة على حركيّة السردفي هذا النصّ البليغ؛ إذ إنّ الراوي “الأم” أنثى والمروي له “الابنة” أنثى أيضاً،في حين لا تحضر الذكورة إلّا بوساطة ضمير الغائب المتّصل “له” مرّة والمنفصل في أخرى “يكن” فقط، وهي تحضر على هذا النحو بوصفها كياناً مُلحقاً بالأنوثة يكون -اضطراراً- على النحو الذي تكونه الأنوثة، فالأنوثة تحتلّ منطقة فعل الشرط “كوني” في حين تحتوي الذكورة منطقة جواب الشرط “يكن”، ضمن معادلة “جندريّة” يتفاعل فيها المعنى الثقافيّ مع المعنى الحسّيّ في ثنائيّة سيميائيّة ورمزيّة شديدة التركيز والتمثيل.
المصدر: شبكة اخبار العراق
إقرأ أيضاً:
البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
د. ناهد محمد الحسن
تشير تجارب التاريخ الثقافي إلى أن الفضاء الفني غالبًا ما يستعيد القدرة على قول ما تعجز السياسة عن الإفصاح عنه. تتقدّم الفنون لتصدح باللغة التي لا تستطيع السلطة سماعها او تحمّلها. فاللغة المصفّاة بنت السلطة، أما اللغة المنفلتة فهي بنت الحرية، ولا يجتمع الاثنان في حنجرة واحدة. من هنا، يصبح تتبّع البذاءة في الفنون أشبه بتتبّع التصدعات الدقيقة التي تظهر في جدار السلطة. فكلما اتسعت التصدعات، ارتفع صدى الضحكات، سقطت الهيبة، تراجع الخوف وتطوّرت المقاومة.
فعندما تهيمن السلطة على القنوات الرسمية للخطاب، يصبح الفن بما يتضمنه من سخرية، انحراف لغوي، فجور رمزي، وتوظيف مقصود للابتذال وسيطًا معرفيًا يسمح بإعادة إنتاج الحقيقة خارج الأطر التي تفرضها البنى السلطوية. ولهذا، فإن دراسة البذاءة في الفن ليست بحثًا في الذوق، بل في إمكانات المقاومة داخل الخطاب الجمالي. فكل انحراف لغوي عن المعايير المفروضة هو — في لحظات التحولات السياسية — فعل مقاومة يكشف حدود السلطة ويعيد توزيع القوة الرمزية داخل المجتمع.
من المسرح الإغريقي إلى التنظير الحداثي: جذور البذاءة بوصفها نقدًا للسلطة
يبيّن تحليل مسرح أريستوفان _ الذي نشأ في القرن الخامس الميلادي_أن استخدام الألفاظ الجنسية الفجة لم يكن ناتجًا عن رغبة في الإضحاك وحده، بل عن سعي لفضح النفاق الأخلاقي والسياسي عبر تفكيك “هالة الخطاب الرسمي”. فالمحظور اللغوي، حين يُستدعى إلى المسرح، يعمل كـ أداة لكسر احتكار الطبقات الحاكمة لمعنى الأخلاق. بعد ذلك بقرون، وضع ميخائيل باختين إطارًا تنظيريًا لهذا الدور في مقولته حول الكرنفالية، حيث يتعرض النظام الرمزي السائد لانقلاب مؤقت يسمح للخطاب الشعبي بالهيمنة على الفضاء العام. موضحا للجمهور معنى اللحظة التي بمقدورهم فيها ان يسقطوا الملك، بحدّ الضحكة وليس بحد السيف.
ففي الكرنفال:
– يضحك الشعب على السلطان،
– تتلاشى الفواصل بين “المهذب” و”الوقح”،
– وتتحول البذاءة إلى آلية لنزع هالة السلطة.
في هذه اللحظة، يصبح الضحك أكثر ثورية من أي وثيقة سياسية، لأنه يطيح بالخوف — والسخرية تنزع الشرعية من السلطة أكثر مما تفعل المعارضة الرسمية. ويُظهر هذا التحليل أن البذاءة في سياق الكرنفال ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية لتفكيك الهرمية السياسية والاجتماعية عبر تعليق الحدود بين “الرفيع” و”الوضيع”. تدعم الدراسات اللاحقة في السخرية السياسية العربية هذا الطرح، مؤكدة أن الهزل — وخصوصًا حين يتضمن انحرافًا لغويًا — يخلق “عالمًا موازيًا” يتخفف من الرقابة ويتيح إمكانات جديدة للتعبير عن الرفض (Badarneh, 2011؛ Elsayed, 2021).
الأدب والفجور اللغوي: إعادة تشكيل الذائقة وتقويض البنية الأخلاقية الرسمية
يمثل الأدب أحد أهم الحقول التي استخدمت البذاءة لتحدي السلطة الرمزية. رواية د. هـ. لورانس Lady Chatterley’s Lover (1928) لم تُحاكم لأنها جنسية فقط، بل لأنها فضحت نفاق الأخلاق الطبقية في إنجلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. فالعلاقة بين امرأة من النخبة وخادم من الطبقة العاملة كانت جريمة رمزية تهدم المعمار الاجتماعي. القضاء اعتبر الرواية “بذيئة”، لكن التاريخ اعتبرها — لاحقًا — نقطة تحول في تحرير الجسد من رقابة الدولة. البذاءة هنا كانت تكشف ما تحجبه اللياقة: العطب الحقيقي في المجتمع. وفي السياق ذاته، تُظهر دراسة أعمال هيلدا هيلست أن المزج بين السامي والوضيع ليس مجرد خيار جمالي، بل تقنية لزعزعة النسق الأخلاقي وإعادة توزيع السلطة داخل اللغة. وقد فسّرت قراءات باختين ومافيسولي هذا التداخل بوصفه آلية تكشف البنية القمعية التي تتخفى خلف اللغة المنقّاة.
في كتابه الوصايا المغدورة، يذهب ميلان كونديرا أبعد من الدفاع عن البذاءة — فهو يراها جزءًا من “حكمة الرواية”، التي تكشف السخافات الكبرى للسلطة من خلال ما يبدو تافهًا أو مبتذلًا. يلمس كونديرا جوهرًا مهمًا حين يؤكد أن البذاءة ليست خروجًا عن اللغة، بل عودة اللغة إلى حقيقتها الأولى: أن تقول ما يخشاه الجميع.
يتضح من ذلك أن البذاءة في الأدب تؤدي وظيفة مزدوجة: نقد البنية الأخلاقية الرسمية، وفتح المجال لوعي مغاير يتجاوز الحدود التي ترسمها المؤسسات الثقافية والسياسية.
الموسيقى والراب: البذاءة كأرشيف للغضب الاجتماعي ( (NTM نموذجًا
أشار محمد عباس — مشكورًا — إلى أهمية فرقة الراب الفرنسية Suprême NTM كنموذج لتسيس البذاءة. فالاسم ذاته (Nique Ta Mère) يشكل تصريحًا احتجاجيًا يتجاوز الخطاب الأدبي أو الصحفي، ليعبر عن الغضب البنيوي المتولد من تهميش الضواحي الفرنسية. تُظهر الأدبيات المعنية بثقافة الهيب–هوب أن البذاءة هنا ليست إساءة شخصية، بل لغة احتجاجية تشكّل هوية مشتركة ضد عنف الشرطة، العنصرية المؤسسية، الفقر، واستبعاد الفئات المهمشة من المشاركة السياسية.
في أغنية (شرطة Police)، حوّلت هذه الفرقة الشتيمة إلى وثيقة احتجاج سمعي. وعندما حوكمت المجموعة بسبب كلماتها، تحوّلت المحاكمة إلى اعتراف رسمي بأن اللغة يمكن أن تهدد النظام أكثر مما يهدده العنف المادي. لماذا تهمنا تجربة NTM؟
لأنها تجسّد ما يقوله باختين ومارك ليفين و(سارة عوض)، أن الفن يولد سلطة رمزية موازية، وأن اللغة البذيئة قد تكون الشكل الأوضح لانتزاع الاعتراف بوجود الهامش. وهذا يتقاطع مع دراسات الفن الاحتجاجي في المنطقة العربية (LeVine, 2015؛ Awad et al., 2017)، التي تُظهر أن ثقافة الهامش تنزع إلى استخدام أشكال لغوية “غير مصقولة” بوصفها وسيلة لمخاطبة السلطة مباشرة دون وساطة.
البذاءة في الفنون البصرية والشارعية: تفكيك الهيمنة الرمزية
تكشف البحوث الحديثة في الفن السياسي في شمال إفريقيا وغرب آسيا (2023–2024) أن الفضاءات الفنية غير الرسمية — الشوارع، الجدران، الفضاء الرقمي — أصبحت منصات مركزية لإعادة إنتاج خطاب مقاوم. في فلسطين مثلًا، يوضح Alım (2020) أن الجداريات تشكل بنية رمزية مضادة تحافظ على الذاكرة وتؤسس لخطاب سياسي موازٍ. وفي مصر، رهنت Elsayed (2021) على أن السخرية الرقمية تمثل “كرنفالًا جديدًا” يتيح لغات هجينة تمزج بين الفحش والتهكم والصورة الرقمية لإنتاج مقاومة يومية. وتشير الكتب الحديثة عن الفن المقاوم (Art Against Authoritarianism in SWANA, 2024؛ الى أن الأنظمة السلطوية تميل إلى معاقبة النكتة أكثر من معاقبة المقال السياسي، لأنها: تنتشر خارج هياكل السيطرة، تُسقط الخوف، وتحوّل الجمهور إلى منتج للمعنى. وبذلك يتحول الفعل الفني البذيء إلى تحدٍّ مباشر للهالة السلطوية.
السياق السوداني: السخرية الشعبية كآلية لإسقاط الهالة السياسية
تُعد تجربة صحيفة حلمنتيش (أواخر ثمانينيات القرن العشرين) واحدة من أبرز الأمثلة السودانية على استخدام السخرية اللاذعة — وأحيانًا البذيئة — بوصفها آلية تفكيك رمزي للسلطة في سياق ديمقراطي هش. وينسب اليها نقل الصحافة السودانية المنضبطة الى البذاءة، في مفارقة مثيرة للتنظيم االإسلاموي الذي كان يتضرع للشعب السوداني بالطهرانية، مزاحما لأحزاب طائفيّة راسخة في القداسة، مشهرا الفن والكاريكاتير كأدوات لنزع القداسة عن منافسيه. وصول حلمنتيش إلى المجال العام لم يكن مجرد دخول صحيفة ساخرة، بل كان تفكيكًا مباغتًا لمنظومة الوقار السياسي التي حكمت المجال العام لعقود. وهو ما ينسجم مع ما تقترحه الأدبيات المتعلقة بالكرنفال الباختيني: أن السخرية — بما فيها من تهكّم وانحراف لغوي — تعمل على تعليق التسلسل الهرمي مؤقتًا، بما يسمح بإعادة توزيع السلطة الرمزية بين “المرموق” و”العادي”. اعتمدت حلمنتيش على هجاء سياسي مباشر، وعلى تفكيك الصورة المثالية للقيادات التقليدية عبر لغة شعبية غير منقّاة.
هذا النوع من الخطاب وفقا للباحثين، لا يقصد الإساءة الشخصية، بل يعمل — وفق تحليل زعزعة الرسميّة المفرطة للخطاب السياسي، كشف التوتر بين “القيمة الأخلاقية” المعلنة والسلوك السياسي العملي، وإعادة سلطة التقييم إلى الجمهور بدلاً من النخب. وفي إحدى اللحظات البالغة الدلالة — التي كثيرًا ما تُذكر في الذاكرة السياسية السودانية — هي قبول الإمام الصادق المهدي كتابة مقدّمة لكتاب احتوى الرسوم الساخرة التي استهدفته. تجسيد لفكرة أساسية في الثقافة الديمقراطية: أن السخرية جزء من المجال العام، وأن الهالة الرمزية للزعيم ليست ملكًا خاصًا، بل خاضعة للفحص الشعبي. هذا السلوك من جانب القيادات يشكّل مواجهة مختلفة تمامًا عن ردود الفعل السلطوية التي غالبًا ما تلاحق السخرية بالعقاب. وفي المفهوم الباختيني، هذه اللحظة تمثل قبول الحاكم بأن يدخل — طوعيًا — في فضاء الكرنفال، أي فضاء التساوي المؤقت بين السلطة والجمهور.
المفارقة التاريخية: عودة السلاح إلى أصحابه
تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر أن الخطاب الساخر البذيء عاد مجددًا، لكن هذه المرة موجَّهًا إلى الحركة الإسلامية نفسها — التي كانت قد استخدمت حلمنتيش في الثمانينيات لتفكيك خصومها. وهذا يعزز فرضية مركزية في هذا البحث:
البذاءة ليست ملكًا لجماعة سياسية، بل ظاهرة لغوية–اجتماعية تتغير وظيفتها بحسب موقعها داخل الحقل السلطوي. فحين تنتقل الجماعة من الهامش إلى السلطة، تتحول البذاءة التي كانت فاعلة في مقاومتها إلى أداة موجَّهة ضدها، لأن الشروط التاريخية التي شَرعنت استخدامها آنذاك تنقلب عليها. وهكذا تُظهر حلمنتيش ما يسميه باختين بـ”قانون انقلاب الخطاب“: فباختين يرى أن الكلمات لا تنتمي لمن نطقها أول مرة، بل هي كيانات حيّة تتغير دلالتها حسب من يقولها، ولمن يقولها، وفي أي ظرف، وبأي نبرة. هذه الحركة المستمرة تجعل الخطاب غير ثابت وقابلًا دائمًا للانقلاب على سياقه الأصلي. الكلمة التي وُلدت خاضعة قد تتحول إلى كلمة متمرّدة، والكلمة التي صُنعت لتمجيد السلطة قد تنقلب فجأة إلى أداة للسخرية منها.
المفارقة التاريخية: السلاح يعود إلى أصحابه
بعد عقود، وفي ثورة ديسمبر، وُجِّه الخطاب البذيء إلى الإسلاميين أنفسهم — الذين سبق أن استخدموا حلمنتيش ضد خصومهم. هذا يؤكّد قانونًا لغويًا–سياسيًا مهمًا: البذاءة لا تظل سلاحًا بيد طرف واحد. حين تتغير موازين السلطة، يتغير اتجاه الشتيمة. فالبذاءة و إن وضعت في بنى تحت قشرة الدماغ في التشريح، ودفعت الى هامش المدينة، ووصمت بالانحطاط والقذارة فستبقى الخصم الناصع في مواجهة السلطة.
تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر، كما وثّقها الخطاب الشعبي، أن البذاءة لم تكن مجرد رد فعل انفعالي، بل استراتيجية رمزية لإزالة الخوف والتحرر. وقد سبق وقدمت في حلقة لي في يوتيوب أيام الثورة تحليلا عن احتفاء الجماهير بعبارة غير لائقة القتها سيّدة ثائرة على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة، لم تصدم المذيع وحده والمشاهدين، ولكنها الرصاصة التي خرّبت اللعبة. (يمكنك مشاهدة الحلقة هنا: https://youtu.be/y0CC8jksQxQ?si=P06xNUSxdab_7moz)
فتحت الثورة الباب الخلفي كما قال غوفمان واسقطت الستارة عن مسرحية الأدب المدّعاة. احتشد الاف المتابعين لصفحة ماما و لأنّها دون أن تحصل على شهادة في العلوم السياسية اين يمكن ان تنصع بذاءتها، فلم تصفق للسلطة، ولكنها دون ان تقرأ ماركس انحازت لمظالم طبقتها. وهكذا دمجت ثورة ديسمبر مظالم الشعب وحولت اللغة الصادمة إلى أداة لإعادة تعريف المسموح والممنوع في الخطاب العام، عبر تفكيك الهالة التي بنتها الأنظمة المتعاقبة حول رموزها. هذا يتسق مع ما تقترحه النظريات الحديثة في تحليل الحركات الاجتماعية حول دور اللغة المنحرفة في بناء التضامن وكسر الاحتكار الأخلاقي للخطاب الرسمي.
ختاما:
تكشف المراجعات التاريخية والنظرية والعملية أن البذاءة — حين تُستخدم في سياق جمالي مقصود — تعمل كآلية مقاومة تُعيد توزيع السلطة داخل الفضاء العام. فهي: تكسر احتكار السلطة للخطاب، تفتح المجال لأصوات الهامش، تعيد صياغة الحدود الأخلاقية بطريقة تُنتج معرفة بديلة، وتضمن خلق فضاء نقدي خارج سيطرة الدولة. وهكذا، تتحول البذاءة في الفن من “انحراف لغوي” إلى استراتيجية معرفية وجمالية وسياسية تستعيد بها الجماهير حقها في الكلام. أن البذاءة ليست انحرافًا عن الأخلاق، بل انحرافًا عن السلطة. وأن الفن — حين يقترب من حافة الممنوع — يحرر اللغة من السقف الذي تفرضه الدولة، المجتمع، والدين. الفن ليس مجرد مرآة، بل مطرقة لغوية تعيد تشكيل ما نجرؤ على قوله… وما نخشى قوله.
نواصل..
الوسومد. ناهد محمد الحسن