كان يمكن لهذا المقال أن يكون افتخارًا بشخصية عربية فذة، حققت نجاحًا كبيرًا بجدّها واجتهادها وعصاميتها، كون نعمت شفيق مصرية الأصل والجنسية (إضافة إلى جنسيّتيها الأخريين: الأمريكية والبريطانية)، فقد كانت في عمر السادسة والثلاثين أصغر نائب لرئيس البنك الدولي على الإطلاق، وكانت أيضًا نائب محافظ بنك إنجلترا في فترة من أصعب فتراتها الاقتصادية ألا وهي فترة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي تعرف اختصارًا بـ«البريكست»، إذ كانت تتولى الإشراف على ميزانية عمومية حجمها أكثر من ستمائة مليار دولار، وباللهجة الدارجة يمكن أن نقول إنها كانت «تلعب بالفلوس لعب»، وكانت ذات يوم رئيسة لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، قبل أن تصبح العام الماضي أول امرأة تترأس جامعة كولومبيا في نيويورك، التي هي واحدة من أهم وأعرق جامعات العالم.
في ذلك اليوم أصدرتْ نعمت شفيق بصفتها رئيسة جامعة كولومبيا قرارها المخزي باستدعاء الشرطة إلى حرم الجامعة العريقة في نيويورك التي تترأسها منذ يوليو 2023م، لفض اعتصام طلبة مؤيدين للقضية الفلسطينية ومندِّدين بالإبادة الجماعية في غزة التي ترتكبها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023م، ومُطالِبين الجامعة بسحب استثماراتها في شركات مؤيدة لإسرائيل، فاعتقلت الشرطة نتيجةً لذلك نحو مائة طالب. وعوضًا عن أن يؤدي هذا القرار الأحمق لإخماد احتجاجات جامعة كولومبيا، فقد أشعل - على النقيض من ذلك - فتيل الاحتجاجات الطلابية في جامعات أمريكية أخرى مثل بنسلفانيا وأريزونا وويسكونسن ماديسون ونيومكسيكو، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وغيرها، لدرجة أن مدونين مؤيدين لفلسطين شكروا نعمت شفيق بسخرية في وسائل التواصل الاجتماعي على قرارها ذاك، لأنه خدم - دون قصد - القضية الفلسطينية ونشرها، ليس فقط في أوساط الطلبة الأمريكيين، بل في العالم أجمع بعد أن تناقلت وسائل الإعلام احتجاجات هذه الجامعات الأمريكية.
المفارقة هنا أن خسارة نعمت كانت مضاعفة؛ فلا هي أمِنتْ - بقرارها ذاك - غضبَ مؤيدي القضية الفلسطينية، ولا ضمنتْ رضا اللوبي الصهيوني المؤيد لإسرائيل. فالطلبة وأساتذة الجامعات في أمريكا نددوا بها لانتهاكها حرية التعبير في الجامعة، ولأنها «شاركت في اعتداء غير مسبوق على حقوق الطالب»، وفي المقابل طالب أنصار اللوبي الصهيوني في مجلس النواب الأمريكي بإقالتها لأنها في نظرهم لم تبذل جهدًا كافيًا لمنع ما وصفوه بـ«معاداة السامية» في جامعتها، والتي تعني قمع الطلبة بشكل أكبر، وقد استجوبوها لعدة ساعات في المجلس، وتذللتْ لهم أيما تذلل، خشية أن يصير مصيرها كمصير رئيستي جامعتَيْ هارفارد وبنسلفانيا اللتين أجبرتا على الاستقالة للسبب المزعوم نفسه؛ التساهل مع معادة السامية! ولذا فقد تفاخرت نعمت خلال ردها على أسئلة لجنة التعليم والقوى العاملة بالكونجرس الأمريكي أنها أوقفت خمسة عشر طالبا في جامعة كولومبيا عن العمل، كما أخبرت اللجنة أن أحد الأساتذة الزائرين، الذين جهروا برفضهم لممارسات الكيان الإسرائيلي، واستمرار الإبادة الجماعية في قطاع غزة، طُرِدَ شرّ طردة، ولن يعمل أبدا في جامعة كولومبيا مرة أخرى. وحين سئلت عما إذا كانت ستعزل أستاذا آخر من منصبه القيادي، لتضامنه مع فلسطين، سارعت إلى الرد بالإيجاب، وتحدثت بإسهاب عن التفاصيل التأديبية، التي عادة ما تكون سرية بالجامعات، كل ذلك لتقنع لجنة مجلس النواب أنها لم تتقاعس في محاربة «معاداة السامية». فهل اقتنع المجلس؟ لا طبعًا، بل طالبها بعض أعضائه بالاستقالة.
يوم الأربعاء الماضي (14 أغسطس) استسلمت نعمت أخيرًا وقدمتْ مرغمةً استقالتها من جامعة كولومبيا، مسدِلة الستار على أربعة أشهر من الشدّ والجذب ملأتْ فيها الدنيا، وشغلت الناس. نالت نعمت شفيق نهاية يستحقها كل من يتجاهل أن العالم لن يدمره الأشرار فقط، وإنما أيضًا أولئك الممالئون لهم، الساكتون عن جرائمهم، وأنه قد لا يقف الحق دائمًا إلى جانب القوي، ولكن القوة «كل القوة» تقف دائما إلى جانب الحق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: جامعة کولومبیا نعمت شفیق
إقرأ أيضاً:
غزة ..ومظاهر العجز العربي
صراحة نيوز ـ حاتم الكسواني
تتعدد صور العجز العربي في مواجهة جرائم الإحتلال الصهيوني وحرب إبادته ضد أهلنا في غزة والضفة الغربية وتتزايد يوما بعد يوم ، وهي تتكفي بنقل اخبار صور الإستنكار الدولية والدوران في حلقة مفرغة من عدم التأثير وردود الفعل الكلامية المنددة .
عجز عربي .. عندما تفكر الدول الغربية بفرض عقوبات على إسرائيل ، والأمة العربية لا تدفع نحو ذلك وتكتفي بدور المتفرج
عجز .. عندما تمر قمة عربية بعد قمة ولا تنتقل من مربع الإدانة والشجب إلى مربع الفعل بالتهديد بالقوة العسكرية والحصار لدولة الكيان .
عجز .. عندما تواصل الأمة الرجاء من المنظومة الدولية لبذل جهودها لوقف الحرب على غزة وكأن الأمر لا يعنيها وكان مايجري لا يستهدف إخوتنا في الدم والإسلام والعروبة باعتبارها أمة ملتزمة بالعهود والإتفاقيات الموقعة عليها ، وبأهداف المحاور المنتمية إليها .
عجز .. عندما تخنع الأمة أمام صلف الرئيس الأمريكي ولا تسمعه أي كلام ينم عن عدم رضاها وغضبها من طريقة إستخافه بها وعدم إحترامه لإرادتها .
عجز .. عندما لانغضب ونحن نقلب وسائل التواصل الإجتماعي صفحة بعد صفحة لنشهد قتل أطفال غزة وجوعهم وعطشهم وتقطيع اوصالهم ، ووجعهم وهم ينوئون الما تحت وطأة ثقل حملهم لأمتعة رحيلهم المتكرر وحمل عبوات مياههم وجر عرباتهم المتهالكة في طرق غزة الوعرة .
عجز .. عندما نصطف مع مصالحنا القطرية وننسى مفاهيم وقيم القومية العربية والأخوة الإسلامية ، ومعاني الوحدة التي تجمع الأمة بعناصرها من لغة ودين وعادات وتقاليد وتاريخ وجغرافيا وأصول ومنابت مشتركة
عجز .. عندما لا ندرك أهمية التكامل الإقتصادي وتكامل الأمن الغذائي ، والدفاعي ، و الصحي ، وأهمية كون الوطن العربي قطعة أرض متصلة يسهل تنقل الأفراد والسلع ووسائط النقل البري والبحري والجوي بين اقطارها بزمن لا تزيد ساعاته عن عدد أصابع اليد الواحدة ، وأهمية ذلك للتبادل السلعي والصناعي والتجاري والتواصل الإنساني ونقل الخبرات والخيرات ، والأخبار والمشاعر والأماني والأشعار والقصص والألحان والأهازيج والأغنيات .
عجز .. عندما لا ندرك سبب بكاء ام عربية على طفل فلسطيني شهيد أو أم فلسطينينية مبتورة الأطراف،أو جد فلسطيني جائع … ولماذا يفرح الرجال العرب على نصر يحققه المقاومون الفلسطينيون على أرض غزة .
عجز .. عندما يملأ الناشطون وصناع المحتوى الأجانب الطيف الإلكتروني برسائل تفضح جرائم العدو الصهيوني ضد أطفال ونساء وشيوخ غزة ممن يتم حرقهم وتقطيع اطرافهم بقنابل الغدر الأمريكية المحرمة دوليا ، والذين يتم دفنهم إحياء تحت ركام منازلهم في الوقت الذي لا يقدم الناشطون العرب إلا النذر اليسير من الرسائل المشابهة بينما تذهب رسائلهم إلى حرف الإنتباه عما يجري في غزة برسائل الرقص والطبخ والمقالب السمجة .
عجز عندما تمتلأ الساحات والشوارع الأوروبية والامريكية بعشرات الآلاف من المعارضين لجرائم الإحتلال وحرب إبادته بلوحات تعبيرية وأساليب مبتكرة تجسد جريمة العصر ووسائلها البشعة ، بينما تخلو ساحاتنا من الوقفات والتظاهرات الغاضبة المماثلة .
عجز.. وعجز …وعجز محرج ومخزي