السودان: دولة 56 وإيماءاتها الرمزية
تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT
أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
تمهيد
يفرق علماء السياسة بين مفهومي "الدولة" و"الحكومة"، ويرون أن الدولة أكثر شمولاً من الحكومة؛ لأن منصَّة تأسيسها تستند إلى الأرض (الحيز الجغرافي)، والشعب، والسلطة العامة، ويغلب الثبات على ركنها الجغرافي، والتغير النسبي، الذي تفرضه الظروف الموضوعية المحيطة، على ركنيها الآخرين (الشعب والسلطة).
(2)
من أين جاء هذا التوصيف (دولة 56)؟
ورد هذا التوصيف ضمناً في البيان التأسيسي (منفستو) للحركة الشعبية لتحرير السودان، والذي روَّج لمشروع "السودان الجديد"، الذي "يقوم على مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، ويهدف إلى تحقيق الوحدة الطوعية، وبناء الدولة العلمانية الديمقراطية، وانهاء التهميش" بأشكاله المختلفة (الأثنية، والدينية، والاقتصادية، والجهوية، والجندرية)، وذلك بخلاف دولة السودان القديمة (المنعوتة بدولة 56)، التي سيطرت عليها الأقلية النخبوية الشمالية-النيلية (الجلابة)، مستأثرة بالسلطة ومستحوذة على الثروة، بفضل الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، التي حظيت بها في عهد الدولة الاستعمارية الحديثة (1898-1956) والحكومات الوطنية المتعاقبة، وبفعل الآثار السالبة لإرث العبودية وتجارة الرقيق. وصف منصور الصويم هذا التوصيف (أو السودان الجديد) بالشعار السياسي، الذي ظل أيقونة في أدبيات الحركة الشعبية لتحرير السودان، ومنها انتقل إلى الحركات المسلحة في دارفور، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، وأخيراً إلى قوات الدعم السريع المتمردة على القوات المسلحة، والتي كان يُنظر إليها عندما كانت جزءاً من نظام الإنقاذ (1989-2019) بأنها أحد الأدوات الخادمة والمطيعة لسدنة "دولة 56". وتحفَّظ محمد فائق يوسف على استخدام مصطلح "دولة 56"، واعتبره استخدام غير دقيق؛ لأن المستعمر، من وجهة نظره، هو الذي وضع لبنات دولة السودان الحديثة عام 1898، وأدارها وفق نظام حكم له منطلقاته السياسية واجندته الإمبريالية، وآلياته الفاعلة في توظيف النخب المجتمعية في المركز والهامش لخدمة هذه المنطلقات والأجندات بوعي أو دون وعي. ويبدو أن هذا الواقع قد دفع محمد فائق إلى اجماع القول بأن الذين أسسوا دولة السودان الحديثة بإيجابياتها وسلبياتها لم يكونوا من النخبة الشمالية النيلية، بل أن أفراد هذه النخبة وغيرهم من النخب المجتمعية الأخرى في المركز والهامش قد ساهموا في إنجاح المشروع الاستعماري بنسب متفاوتةً، كل حسب طاقاته ومهاراته المتاحة. وإن فشل الحكومات الوطنية الخالفة للنظام الاستعماري في تجاوز الإخفاقات البنيوية لمؤسسات الدولة الاستعمارية ورؤيها ورسالته تجاه تنمية البناء الوطني ومعالجة جذور مشكلاتها الهيكلية، يُعزى إلى غياب "الرؤية الاستراتيجية"، وضعف الكفاءة السياسية في إدارة سودان من بعد الاستقلال، لإن شأن دولة السودان كان أشبه بشؤون الدول المستعمرة الأخرى، التي استطاع قادتها الوطنيون أن يعيدوا بناءها على الأسس الإيجابية التي ورثوها من المستعمر، ويتجاوزوا سلبياتها التي تعيق انطلاق مشروعهم الوطني الجامع.
(3)
الدولة السودانية الحديثة: إرث المنشأ المجتمعي والمؤسسي
نلحظ أن إرث منشأ دولة السودان الحديثة يرتبط في المقام الأول بتركيبتها السكانية المتباينة إثنياً، ودينياً، وثقافياً، واقتصادياً، والتي رسخت لأنماط تباينها إسقاطات مؤسس الرق والعبودية، وفلسفة الحكومة الاستعماريَّة-الاستثماريَّة (1898-1956) التي ركزت مشروعاتها الاقتصادية وتنمية الموارد البشرية المساندة لها في المناطق ذات الرّي المستدام (أو مثلث حمدي)؛ لأنها كانت ذات عوائد ربحية أكبر مقارنة مع مناطق الزراعة المطرية والأنشطة الرعوية. فضلاً عن ذلك الحواجز الهيكلية التي فرضها المستعمر عبر سياسة المناطق المقفولة ومؤسسات الإرساليات المسيحية والتنصيرية التي سُمح لها بالعمل في المناطق التي تقطنها أغلبية غير مسلمة. ونتج عن ذلك بروز شريحة مجتمعية مؤثرة في صناعة القرار المركزي؛ لأنها استفادت من مشروعات المستعمر التنموية، التي لم تكن متوفرة في المديريات التي تعرضت لجرعات تحديث أقل. وعندما خرج المستعمر وجدت هذه النخبة النيلية حظاً أوفر في شغل المناصب المفتاحية في الدولة، واستطاعت شريحة منها أن تؤسس لوضع اقتصادي أفضل مقارنة بالشرائج المجتمعية الأخرى في المناطق الطرفية. نظر محمد جميل أحمد إلى هذا التباين المجتمعي والمؤسسي الذي أنجب أزمة حقيقية، اختزلها بعض السياسيين والناشطين المجتمعيين في "دولة 56" بإيماءاتها الرمزية عبر عدسة منصور خالد، الذي يرى أن الأزمة "ليست أزمة حكم أو هوية فحسب، وإنما هي قبل هذا أزمة رؤية. المأزوم ليس هو المواطن أوهاج الذي يهيم على سفوح التاكا في شرق السودان، ولا المواطن تيه الذي أكدى يديه الحفر في هضاب جبال النوبة بغرب السودان، ولا المواطن سر الختم الذي لا يزال يستمسك بقليل من أرض صلعاء على حفافي النيل بشمال السودان... المأزوم هو تلك الأقلية الاستراتيجية من صفوة المثقفين، أو بالأحرى المتعلمين، التي افترضت لنفسها التعبير وصنع القرار وتقرير المصير باسم هؤلاء جميعاً بحكم سيطرتها على الحكم والمال والتعليم ووسائل الإعلام الحديث". وغياب الرؤية الاستراتيجية من وجهة نظره قد أفرز صراعاً مصلحياً وحزبياً داخل بنية النخبة النيلية نفسها، فجعلها تتشظى داخلياً ويتقاتل رموزها على "الثريد الأعفر" في الفضاء السياسي العام. ومن الجانب الآخر فجَّرت الأزمة نداءات مطلبية في جنوب السودان، وشرق السودان، وجبال النوبة، ودارفور، والمناطق التي بدأت تعي طبيعة مظالمها التاريخية وتشعر بالحرمان النسبي مقارنة بالآخرين في الولايات النيلية الوسطى؛ لكن استجابات المركز الحاكم كانت أقل من توقعات أصحاب المطالب والمنادين بإصلاح الحال في الهامش. وعند هذا المنعطف تصاعدت حدة الرفض في شكل حركات مسلحة ومصطلحات ترميزية، مثل الدعوة إلى بناء "سودان جديد"، أو القضاء على دولة 56. ودعاة القضاء على دولة 56 لم يقدموا أطروحات موضوعية لمعالجة جذور الأزمة المجتمعية والهيكلية، بل روجوا لمعادلة تقوم على ثنائية "الجلاد" و"الضحية"، حسب رؤية عبد الله علي إبراهيم، وإن رموز الضحايا، من وجهة نظره، كانوا شركاء في فشل الحكومات الوطنية، التي أعقبت الاستقلال بنسب متفاوتة. والزعم بأن إدارة الدولة كان حكراً صرفاً لرموز النخبة النيلية يجافي الصواب المطلق؛ لأن بعض قادة الحركات المطلبية أو المسلحة اشتركوا بمعايير مختلفة في إدارة "دولة 56"، ولم يكن أداؤهم أفضل من أداء رصفائهم الآخرين، بل أن بعض الذين تولوا إدارة المناطق المهمشة منهم كانوا أكثر فساداً من غيرهم. إذاً الأزمة في جوهرها ترتبط بغياب الرؤية الاستراتيجية لإدارة الدولة، وفي حدودها المهنية بغياب موظف الدولة الكفوء، الذي يمتلك قيماً أخلاقية والتزامات وطنية، تؤهله لخدمة قضايا المواطن السوداني، التي يرتكز عمودها الفقري على ثلاثية الفقر والتعليم والصحة.
(4)
خاتمة
بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 فقدت دولة السودان الحديثة، التي أسسها المستعمر، ربع مساحتها الجغرافية، وفقدت أيضاً مكوناً مهماً من مواردها الطبيعية والبشرية؛ بالرغم من هذا الفقد تضاعفت تركيبتها الديمغرافية من حيث الكم، وضاقت فجوة التباين الثقافي والاجتماعي والديني من حيث الكيف؛ إلا أنَّ مشكلة الضلع الثالث (السلطة العامة)، وإحيائها في الدعوة إلى قسمة السلطة والثروة، ظلت قائمة. وإن حلها المستدام ربما لا يتحقق بالقضاء على "دولة 56" من زاوية أنها دولة "جلابة"، كما يروج لذلك قادة الدعم السريع وزعماء الحركات المسلحة، الترويج الذي نعته زين العابدين صالح بـ"فرية العقل الخامل". بل يحتاج الأمر إلى معالجة كلية، يستند شقها الرئيس إلى الإجابة الموضوعية عن سؤال: كيف يُحكم السودان بعد حرب الخامس عشر من أبريل 2023؟ فالإجابة عن هذا السؤال تقع خارج نطاق هذا المقال؛ بيد أنها تحتاج إلى جلوس كل أصحاب المصلحة حول مائدة مستديرة؛ لتحليل ما تبقي من دولة السودان الحديثة من ناحية عناصر قوتها وضعفها، ومهددات بقائها على أديم، والفرص المتاحة للإعادة بنائها وفق أسس جديد، تقوم على المواطنة المتساوية في توزيع الحقوق والواجبات، والديمقراطية أداة لتداول السلطة السلمي؛ لأن الركون إلى قوة السلاح على مستوى المركز والأطراف لم يحقق أي نجاحات مستدامة، بل قاد إلى حرب ضروس، روعت المواطنين العزل، وشردت قطاعاً واسعاً من مساكنهم الآمنة إلى متاهات النزوح واللجوء المرهقة.
ahmedabushouk62@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: دولة 56
إقرأ أيضاً:
الذهب وتمويل الحرب في السودان: من الفوضى إلى أدوات السيطرة
الذهب وتمويل الحرب في السودان: من الفوضى إلى أدوات السيطرة
عمر سيد أحمد
مقدمة: ماضٍ ملكي وثروة منسيةلآلاف السنين، كان الذهب محورًا للحضارات التي ازدهرت في ما يُعرف اليوم بالسودان، لا سيما مملكتي كوش ونبتة. سُمّيت المنطقة “نوبيا” أو “أرض الذهب” عند المصريين والإغريق القدماء، في إشارة إلى وفرة هذا المعدن وارتباطه بالسيادة والتجارة. وتشهد على ذلك النقوش في نبتة ومروي، والمسارات التجارية التي ربطت أسوان، حلفا، مروي، وسواكن (وزارة المعادن، 2024).
لكن ما كان مصدرًا للسيادة، أصبح في العقود الأخيرة وقودًا للفوضى والانقسام، حيث يُستغل الذهب لتمويل الصراعات، ويُهرّب في ظل ضعف مؤسسي وانهيار أجهزة الدولة (Global Witness، 2022؛ Chatham House، 2025).
الذهب: خزينة حرب بدلًا من مورد للتنميةرغم أن السودان يمتلك واحدة من أكبر احتياطيات الذهب في إفريقيا، إلا أن هذه الثروة تُستغل لتمويل الحرب والتهريب بدلاً من دعم الاقتصاد. تُقدّر التقارير أن الإنتاج الرسمي بين أبريل وأغسطس 2023 بلغ نحو 2 طن فقط، بينما يُهرّب ما بين 50% إلى 80% من الإنتاج الفعلي، خصوصًا عبر الإمارات العربية المتحدة (Sudan Tribune، 2023؛ Time Magazine، 2024).
ويُستخدم الذهب في تمويل كل من قوات الدعم السريع والجيش السوداني منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 (Chatham House، 2025).
الإنتاج والتصدير: أرقام مضللةشهد قطاع الذهب نموًا كبيرًا بعد 2010، وبلغ ذروته في 2016 بإنتاج بلغ 93 طنًا، لكنه تراجع لاحقًا ليصل إلى 34.5 طنًا في 2022، ثم ارتفع مجددًا إلى 65 طنًا في 2024 (وزارة المعادن، 2024). ومع أن الإنتاج ارتفع، انخفضت الإيرادات من 2.02 مليار دولار في 2022 إلى 1.6 مليار دولار في 2024، رغم ارتفاع أسعار الذهب عالميًا بنسبة 30% (مجلس الذهب العالمي، 2024).
تُشير هذه الفجوة إلى خلل في نظم التسويق والرقابة، ما يعزز فرضية التهريب واسع النطاق (Global Witness، 2022).
الاقتصاد الموازي، التلاعب والفسادأصبح الذهب أحد أعمدة الاقتصاد الموازي في السودان، حيث يتم تداوله خارج النظام المصرفي الرسمي، وتُدار كثير من الشركات من قبل جهات ذات نفوذ، بعيدًا عن الرقابة المؤسسية (مبادرة الشفافية السودانية، 2020). تشير تقارير إلى أن بعض الشركات المسجلة تشارك في التهريب بدعم من جهات أمنية، وتُمنح الامتيازات غالبًا بعلاقات سياسية لا بمعايير اقتصادية (سليمان، 2021؛ Africa Intelligence، 2023).
التهريب: الفجوة الأكبريُقدّر أن 70% إلى 80% من الإنتاج يُهرّب سنويًا عبر حدود السودان مع مصر، ليبيا، تشاد، وإفريقيا الوسطى، من خلال شبكات محلية ودولية (Sudan Tribune، 2023؛ Global Witness، 2022). وقد أصبح التهريب نمطًا مؤسسيًا، بتشابك مصالح بين أطراف داخل الدولة وخارجها (Chatham House، 2025؛ ICG، 2023).
الآثار البيئية والصحيةيرتبط التعدين التقليدي باستخدام الزئبق والسيانيد بطرق غير خاضعة للرقابة، ما يؤدي إلى تلوث المياه وتدهور التربة وانتشار الأمراض الجلدية والتنفسية، خصوصًا في ولايات نهر النيل، جنوب كردفان، ودارفور (WHO، 2023؛ BBC Africa، 2021؛ مركز الطاقة المتجددة، 2023).
الحرب: الذهب كوقود للنزاعمنذ 2023، أصبحت مناجم الذهب في دارفور وجنوب كردفان خاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة، التي تستخدم عائداتها لشراء السلاح وتمويل العمليات العسكرية (Chatham House، 2025؛ Global Witness، 2022). وقد أدى هذا إلى فصل المناجم عن سيطرة الدولة وتحويلها إلى “مناطق سيادية” خارجة عن القانون.
خسائر عقد من الذهب المهربتشير تقارير مستقلة إلى أن ما بين 50% و80% من الإنتاج يُهرّب خارج السودان، ما يحرم الدولة من إيرادات ضخمة (Global Witness، 2022؛ Sudan Tribune، 2023). بناءً على متوسط سعر الذهب العالمي عام 2024 (64,000 دولار/كجم)، فإن خسائر السودان خلال العقد الماضي تُقدّر بين 23 مليار و36.8 مليار دولار:
البند | الكمية (طن) | القيمة بالدولار |
الإنتاج الإجمالي (2014–2024) | 719.7 | 46.06 مليار |
التهريب بنسبة 50% | 359.85 | 23.03 مليار |
التهريب بنسبة 80% | 575.76 | 36.84 مليار |
وزارة المعادن، 2024؛ STPT، 2024؛ Chatham House، 2025)
من بوركينا فاسو… درس عمليقدّمت بوركينا فاسو تجربة رائدة في استعادة السيادة على قطاع الذهب، رغم ظروفها الأمنية الهشة. فمنذ عام 2022، شرعت الدولة في إصلاحات شملت:
تعديل قانون التعدين. تأسيس شركة وطنية لإدارة المناجم الكبرى مثل Boungou وWahgnion. إنشاء احتياطي ذهبي وطني.في 2025، ارتفع الإنتاج السنوي إلى 62 طنًا، وجمعت الحكومة أكثر من 11 طنًا من التعدين الحرفي خلال ربع واحد فقط (Chatham House، 2025). كما ساهم القطاع في تمويل الميزانية وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.
ما فعلته بوركينا فاسو ليس معجزة. بل هو نموذج عملي لما يمكن أن يتحقق في السودان إن توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية.
الإصلاحات العاجلةرقابة ذكية:
إصدار سندات ذهب مقابل الذهب المسلّم. إنشاء مراكز شراء متنقلة لتقليل التهريب. إطلاق منصة إلكترونية وطنية لعرض أسعار الذهب (STPT، 2024).إصلاح مؤسسي وهيكلي:
نشر عقود الامتياز والتقارير الإنتاجية. تجريم امتلاك أو تشغيل شركات تعدين من قِبل الجهات الرسمية. تعزيز التعاون الإقليمي لتفكيك شبكات التهريب (Global Witness، 2022؛ Chatham House، 2025).مقترحات استراتيجية:
سبائك ذهبية سيادية سودانية. سندات ذهب لتمويل مشروعات استراتيجية. مدينة الذهب السودانية. نموذج تقاسم الإنتاج. شركات مساهمة بين الدولة والمنقبين. جمعيات تعاونية للحرفيين. حصر التصدير والشراء بالبنك المركزي. مصفوفة استيراد وطنية مقابل الذهب. ربط التعدين بالطاقة المتجددة. بورصة سودانية للذهب والمعادن. الذهب كأصل ماليبورصة وطنية وسندات ذهبية تعني أن الذهب لم يعد وقودًا للفساد أو السلاح، بل أصل مالي قابل للتوظيف في إعادة الإعمار والاستثمار طويل الأجل (World Bank، 2022؛ Al Jazeera، 2023).
الخاتمة: استرداد الذهب من قبضة الفوضى- الذهب اختبار السيادةلم يعد قطاع الذهب في السودان مجرد مورد اقتصادي أو أحد فروع النشاط التعديني، بل أصبح اختبارًا حقيقيًا لسيادة الدولة، ولمدى صدق نواياها في الإصلاح وبناء مؤسسات وطنية حقيقية. إن الطريقة التي تُدار بها هذه الثروة ليست مسألة فنية أو إدارية فحسب، بل هي انعكاس مباشر لطبيعة السلطة، وشكل الدولة، وتوازن القوى داخلها.
إما أن يُدار الذهب بعقلية الدولة الحديثة — دولة القانون، والمحاسبة، والشفافية، والمؤسسات — أو يظل رهينة للفوضى، ومصدر تمويل للميليشيات، وأداة لشراء الولاءات وإدامة الصراع. وبين هذين الخيارين، تتحدد ملامح المستقبل الاقتصادي والسياسي للسودان.
الذهب في السودان اليوم يعكس عمق الأزمة الوطنية، لكنه يحمل في الوقت ذاته بذور الحل. فكما أنه غذّى الحرب، يمكن أن يكون وقودًا لإعادة البناء. وكما أنه مَثَّل موردًا مهدورًا لعقود، يمكن أن يتحوّل إلى أصل مالي واستراتيجي، إذا وُضعت له قواعد شفافة، وأُخضع لرقابة حقيقية.
التجارب الدولية تثبت أن هذا التحول ممكن. لقد فعلتها بوركينا فاسو، وسبقتها دول أخرى كانت تعاني ظروفًا مشابهة. لكنها لم تكتفِ بالإصلاح الإداري، بل تبنّت مشروعًا سياديًا يعيد للدولة دورها الطبيعي: أن تكون المنظّم والضامن والحامي للثروات العامة.
ما نحتاجه اليوم ليس قرارات معزولة أو إجراءات تقنية، بل رؤية وطنية شاملة تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والموارد، بين المجتمع والثروة، بين السياسة والاقتصاد. بورصة وطنية شفافة، مصفاة حكومية مستقلة، مؤسسة رقابية فاعلة، وقطاع تعدين حرّ من سطوة الأجهزة — كل هذه ليست رفاهيات، بل شروط لبناء سودان جديد.
إن الذهب اليوم لم يعد مجرد ملف من بين الملفات، بل أصبح الامتحان الأوضح: إما أن ننجح ونستعيده لصالح الجميع، أو نتركه في أيدي تجار السلاح والدم، فيواصل دوره كأداة لتفكيك الدولة.
القرار الآن، والفرصة ما زالت قائمة — لكنها لن تنتظر طويلًا.
الصرخة الأخيرة: من يملك الذهب… يملك القرارفي بلد يُشترى فيه السلاح من عائد منجم، لم يعد الذهب مجرد ثروة طبيعية خام، بل تحوّل إلى أداة حاسمة في الصراع على السلطة والنفوذ. لم يعد الحديث عن الذهب في السودان نقاشًا اقتصاديًا، بل أصبح معركة على مستقبل الدولة نفسها.
اليوم، يقف السودان أمام قرار مصيري: إما أن تنتزع الدولة هذا المورد السيادي من قبضة الفوضى والفساد والتهريب، وتعيد توجيهه نحو البناء والإنقاذ، أو أن تواصل قوى السلاح والظل استخدامه كوقود للانهيار.
الخيار واضح. إما أن ننقذ الذهب ليكون ركيزة لبناء السودان الجديد، أو نتركه غنيمة لتجار الدم والسلاح.
المراجع والمصادرمصادر عربية:
وزارة المعادن السودانية. تقرير الأداء السنوي 2016–2024. وزارة المعادن. خطة تطوير قطاع الذهب. 2023. مركز الدراسات المستقبلية. قطاع التعدين التقليدي، 2020. سليمان، أحمد. اقتصاد الظل للذهب في السودان، المركز العربي، 2021. Sudan Tribune، تقارير متنوعة 2022–2024. STPT. تقرير الشفافية في قطاع الذهب، 2020. Al Jazeera Net، “ذهب السودان والاقتصاد الموازي”، 2023. Al Jazeera Net، “تعدين الزئبق في السودان”، 2022. مركز دراسات الطاقة المتجددة. 2023.مصادر دولية:
Chatham House، إنتاج الذهب خلال الحرب، 2025. Chatham House، السودان ونظام الصراع الإقليمي، 2025. Time Magazine، ذهب الدم وعلاقات السودان والإمارات، 2024. Wikipedia، الحرب الأهلية السودانية 2023–الآن. Global Witness، عسكرة الذهب في السودان، 2022. Global Witness، الشفافية والمحاسبة في قطاع الذهب، 2022. STPT. تعقب الذهب غير المشروع في السودان، 2023–2024. International Crisis Group، الذهب والحرب في السودان، 2023. WHO، أثر الزئبق في التعدين السوداني، 2023. BBC Africa، استخراج الذهب السام، 2021. World Bank، نظرة على اقتصاد السودان، 2022. World Gold Council، اتجاهات الطلب Q1 2024. Africa Intelligence، تقارير قطاع التعدين السوداني، 2020–2024.البريد الإلكتروني: [email protected]
التاريخ: مايو 2025
الوسومأفريقيا الذهب السلاح السودان بوركينا فاسو عمر سيد أحمد