عبد النبي العكري

تتزامن الحملات الانتخابية الأمريكية مع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزّة وباقي فلسطين المُحتلة؛ حيث ثمة أهمية استثنائية تكتسبها مواقف الحزبين الديمقراطي والجمهوري والمرشحيْن المتنافسين نائب الرئيس الحالي كمالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي، والرئيس السابق دونالد ترمب عن الحزب الجمهوري، بالدرجة الأولى، وباقي مرشحي الحزبين للكونجرس بالدرجه الثانية.

الثوابت الأمريكية واللوبي الإسرائيلي

يعد دعم أمريكا للكيان الصهيوني والحركة الصهيونية الاستيطانية في فلسطين من ثوابت السياسة الأمريكية، وقد كان لأمريكا دور أساسي في قيام الكيان الصهيوني واستمراره وتوسعه على حساب فلسطين والعرب، وشاركت أمريكا في جميع حروب إسرائيل عسكريًا واقصاديًا وسياسيًا ودبلوماسيا، بحيث أطلق على إسرائيل حاملة الطائرات أو القاعدة الأمريكية المتقدمة في العالم العربي. إضافة إلى تلازم المصالح الصهيونية والأمريكية في الوطن العربي، هناك الدور الحاسم الذي تلعبه الحركة الصهيونية الأمريكية اليهودية واللوبي الإسرائيلي في استمرار هذه العلاقة وتعزيزها رغم ما تلحقه من خسائر هائلة بالشعب الأمريكي وإفقاد أمريكا لمصداقيتها في العالم كونها الدولة العظمى في العالم بما يتطلبه من مسؤولية دولية.

سباق الانتخابات والقضية الفلسطينية

يترتب على حملة الانتخابات الرئاسية والتنافس ما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري تحديد الفائزين في انتخابات الرئاسة والكونجرس (مجلس النواب بالكامل وثلث أعضاء مجلس الشيوخ) و11حاكم ولاية في 5 نوفمبر 2024. ورغم أن الاهتمام الأكبر يتركز على انتخابات الرئاسة، إلّا أن انتخابات الكونجرس مهمة أيضا لأنها ستحدد أغلبية أي من الحزبين في مجلسي الشيوخ والنواب في انسجام أو تعارض مع الرئيس المنتخب. ورغم أن القضايا الخارجية لها أهمية أكبر في سباق الانتخابات الرئاسية وبرامج المرشحين المتنافسين إلا أن لها أيضا أهمية في انتخابات الكونجرس (الشيوخ والنواب).

إنَّ ما يميز حملة الانتخابات هذه عما سبقها من حملات الانتخابات السابقة هو أنها تزامنت مع حرب الإبادة "الإسرائيلية" ضد الشعب الفلسطيني الأطول بكثير من حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب والتي انطلقت مع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 والمستمرة حتى الآن والمرجح استمرارها حتى ما بعد الانتخابات الأمريكية في 5 نوفمبر 2024 والتي لا سابق لها في وحشيتها وخسائرها البشرية والمادية قياسا بعدد إلسكان والمساحة الجغرافية لقطاع غزّة. وكذلك المشاركة الأمريكية في هذه الحرب الأكثر تورطًا وتواطؤا من الحروب السابقة. وهذا ما جعل موضوع المشاركة الأمريكية وتزعمها لتحالف غربي ودولي موضع صراع في المجتمع الأمريكي، وتولد عنه حركة احتجاجية واسعة هي الأكبر منذ حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي.

تتميز هذه الانتخابات بأنها قد تحدد الخصمان المتنافسان على الرئاسة مبكرا وحتى قبل أن تبدأ الحملات الانتخابية داخل كل حزب للتأهيل لترشح الحزب ثم التنافس ما بين مرشحي الحزبين. فبالرغم من خسارة دونالد ترمب لصالح جو بايدن في انتخابات 2020، إلا أنه لم يعترف بهزيمته واعتبرها انتخابات مزورة ولم يسلم بشرعية رئاسة بايدن وبالتالي اعتبره خصمه.كما أن ترمب ورغم خسارته فقد ظل القيادي للحزب الجمهوري دون منازع واعتبر مرشحاً طبيعياً في انتخابات 2024؛ حيث تغلب على منافسيه في الانتخابات التأهيلية بسهولة وقد دعموه لاحقًا.

أما خصمه بايدن فقد كان بديهيًا أن يكون الرئيس هو مرشح الحزب الديمقراطي حسب التقاليد الانتخابية الأمريكية. وهكذا لم يواجه بايدن منافسة تذكر. وحتى عندما اضطر بايدن أن ينسحب من سباق الرئاسة فقد خلفته نائبة الرئيس كمالا هاريس وهي شريكته في الحكم وما يترتب عليه. كما تشاركه في المواقف تجاه مختلف القضايا بما فيها السياسة الخارجية، لكنها بالتأكيد تتميز بالحيوية التي يفتقدها بايدن وتتباين معه نسبيًا في المواقف.

وهكذا فإن برنامج كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي وأجندة كل من المرشحين ترمب وخصمه بايدن ثم هارس محددة مسبقا إلى حد كبير، ولكن التطورات الداخلية المترتبة على هذه الحرب وخصوصا الحركة الاحتجاجية الواسعة ضد الحرب ودور أمريكا فيها والعبء المالي الكبير في تمويلها والحشد العسكري الأمريكي على حساب الانتشار دولياً وفقدان مصداقية قيادة أمريكا وغيرها أحدثت، تعديلات في هذه البرامج والمواقف.

وفي ظل هذا الصراع فقد مضت إسرائيل بعيدًا في حرب الإبادة غير عابئة باعتراضات أمريكا الشكلية ومشاريعها لوقف الحرب وتبادل الرهائن، كما أمعنت الحركة الصهيونية واللوبي "الإسرائيلي" بقيادة منظمة "آيباك" في التصدي للمرشحين ممن يعارضون الموقف "الإسرائيلي" والأمريكي ولو جزئياً وضخ أموال هائلة في تمويل مؤيدي إسرائيل والسياسة الأمريكية تجاهها. ويمكن القول إن الموقف من إسرائيل، وبالتالي فلسطين ليست قضية خارجية؛ بل قضية أمريكية محلية.

وبغض النظر عن التباينات المحدودة في برامج المرشحين ترمب وهاريس والحزبين الجمهوري والديمقراطي فإنهما متفقان على دعم إسرائيل وحربها الحالية بقوه حتى تحقيق كامل أهدافها بموجب "حق إسرائيل" في الدفاع عن نفسها، وأن أمريكا تضمن ذلك بكل الإمكانيات، وتضمن تفوقها عسكرياً على جميع جيرانها العرب وإيران. وإذا كان هناك خلافات مع إسرائيل فهي تكتيكية لا تمس جوهرالتحالف الاستراتيجي.

وقد اتضح هذا الإجماع لمؤسسة الحكم الأمريكية بمؤسساتها وحزبيها في الاستقبال غير المسبوق لأي زعيم أجنبي أو حتى رئيس أمريكي في الكونجرس لنتنياهو واجتماعاته مع الرئيس بايدن ومرشحي الرئاسة ترمب وهاريس والقيادات الأمريكية وهو يُملي السياسة والاستراتيجية التي يجب أن تتبعها أمريكا تبعًا لتصور إسرائيل؛ باعتبار "إسرائيل" أقوى وأقرب حليف إستراتيجي لأمريكا.

الجمهوريون وترمب

يتفاخر ترمب والحزب الجمهوري بأنه حقق لإسرائيل ما لم يحققه أي رئيس أمريكي سابق ومنه نقل السفارة الأمريكية للقدس كونها عاصمة لإسرائيل وبسط السيادة على الضفة الغربية وتهويدها وكذلك سيادتها على الجولان المحتل والاتفاق الإبراهيمي الذي فتح الأبواب مشرعة لتطبيع الدول العربية مع إسرائيل مع تطبيع أربع دول عربية وهي، الإمارات والبحرين والمغرب والسودان معها. وهو ما سعى ترمب له لاحقًا.

هناك أيضًا خاصية للحزب الجمهوري وهو تحوله لحزب يميني للأمريكيين البيض غالبا وبتأثير للعقيدة الإنجيلية المتصهينة وهو ما يحعل الحزب الجمهوري متشددا ومجمعا على دعمه لإسرائيل دون تحفظ.

بناءً على ذلك، فقد أقر المؤتمر الوطني الجمهوري في ميلواكي (أكبر مدن ولاية ويسكنسن الأمريكية) إلى جانب تثبيت ترشيح ترمب ونائبه جي دي فانس، برنامجه المستند على مشروع 2025 اليميني لموسسه هيريتج، بالبناء على ما أنجزه ترمب خلال رئاسته الأولى، بالضغط على الدول العربية والإسلامية للتطبيع مع إسرائيل مقابل استمرار حمايتهم. كما يؤيد ترمب "انهاء نتنياهو للحرب بسرعة" ودون أية اعتبارات للمذابح بحق المدنيين وحصارهم وتجويعهم، وكذلك توسعة الحرب لتشمل إيران ولبنان واليمن. ووعد بتشديد الحصار على إيران وإجراءات ضد من يعارض إسرائيل وسياسة أمريكا تجاهها.

في ذات الوقت، ينتقد ترمب ما يعتبره دعما أمريكيا مشروطا لإسرائيل من قبل إداره الرئيس بايدن، ويعد بتعظيم هذا الدعم وبدون أية قيود على إسرائيل. وبالمقابل فإن ترمب يؤيد إسرائيل في رفض حل الدولتين وتأييد الاستيطان والتهويد والسيادة الإسرائيلية على كامل فلسطين والأراضي العربية المُحتلة؛ بل ودعا ضمنا لضمها الأراضي العربية المحيطة بها باعتبار أن إسرائيل صغيرة المساحة قياسا بجيرانها من الدول العربية.

من هنا.. فإن نتنياهو لن يوقف الحرب حتى إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة في 5 نوفمبر 2024 مع احتمال فوز ترمب، بالتالي المضي في مخططه بالمضي في الحرب وتوسيعها لحرب إقليمية بمشاركة أمريكا؛ بهدف تصفية المقاومة الفلسطينية والإسلامية وتهجير الفلسطينين في غزّة ولاحقًا الضفة الغربية والقدس الشرقية.

هاريس والحزب الديمقراطي

في تطور مفاجئ، اضطر بايدن للانسحاب من سباق الرئاسة تحت ضغط قيادات الحزب الديمقراطي لعدم أهليته وزكّى نائبته كمالا هاريس كمرشح للرئاسة، وهو ما تم تأكيده في مؤتمر الحزب في شيكاجو مؤخرا. فمن ناحية فإنها شريكته في الحكم ومجمل السياسات والقرارات بما فيها تلك المتعلقة بإسرائيل/ فلسطين وخصوصًا حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطين منذ 7 أكتوبر 2023 حتى الآن. كما إنها تشارك بايدن في برنامجه الانتخابي؛ فهي مرشحته كنائب للرئيس.لكنها تحاول التميز بعدما أضحت هي المرشح البديل للرئاسة. وتراجعت حالة الانقسام داخل الحزب الديمقراطي واكتسبت حملتها الانتخابية زخما قويا في ظل إجماع الحزب لترشحها والدعم المالي والجماهيري الكبير لها. كما إن خصوصية هاريس بالانتماء للعرق الآسيوي الأفريقي وكونها امرأة ذات تاريخ يتميز بالتغلب على الصعاب والإنجازات، التي حققتها واختيارها الموفق لنائبها تيم مالز فإنها تحاول أن تستجيب لتطلعات الحزب الديمقراطي وتركيبته العرقية والاجتماعية والسياسية المتنوعة.

في ذات الوقت، فقد شهدت الانتخابات التأهيلية لمرشح الرئاسة بايدن رفضًا لترشيحه في عدد من الولايات ذات الثقل الفلسطيني والعربي والإسلامي واليساري المعارض للسياسة الأمريكية وإسرائيل والمؤيد لفلسطين ووقف الحرب. واطلق عليهم "غير الملتزمين"، وقد تمثلوا بعشرات المندوبين داخل المؤتمر. وهذه إحدى نتائج الحركة الاحتجاجية الواسعة ضد سياسة الحكومة والحزب الديمقراطي وبرنامجه الانتخابي. لكن قيادة الحزب وحملة "هاريس/ مالز" لم تسمح لهذا التيار أن يعبر عن نفسه في المؤتمر بأي متحدث أو المشاركة في صياغة البرنامج الانتخابي.

بناءً على ذلك، فإنَّ برنامج "هاريس/ مالز" الانتخابي يؤكد على التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل ودعمها في مجمل سياساتها الاستيطانية والتوسعية بكل الوسائل بما فيها الحروب العدوانية وآخرها حرب الإبادة الحالية.وفي ذات الوقت طرح مواقف شكلية مثل المطالبة بوقف الحرب الحالية وحل الدولتين ومعارضة الضم والاستيطان والتوسع، دون أن يؤثر ذلك على الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي لإسرائيل، كما هو واضح في الحرب الحالية"وقد عبرت النائبة المعارضة إلهان عمر عن ذلك بقولها: "ان أمريكا القوة العظمى الأولى في العالم، ليس متواطئة فقط مع إسرائيل في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزّة، وإنما هي تهين نفسها وتخضع لإسرائيل التي ترفض مطلب أمريكا بوقف لإطلاق النار لاعتبارات إنسانية".

بالمقابل فإن هناك المؤسسة المُسيطرة في الحزب والشريكة مع مؤسسه الحزب الجمهوري في الحكم وتاثيرات اللوبي الإسرائيلي؛ بقياده "آيباك" وتمويلها الهائل للمرشحين والذي يلعب دورًا حاسمًا في استبعاد مرشحي الحزب المناهضين لهذه السياسات والتوجهات، ومنهم على سبيل المثال استبعاد المرشح النيابي عن نيويورك جمال بومان المؤيد لفلسطين لصالح الصهيوني حورج لاتيمار.

تقاطع برنامج الحزبين حول فلسطين/ إسرائيل

هناك تقاطعات جوهرية ما بين برنامجي المرشحين للرئاسة هاريس وترمب واستطرادًا الحزبين الديمقراطي والجمهوري تجاه القضية الفلسطينة، وتبعًا لذلك تجاه إسرائيل وكل تبعات ذلك، من صراع قائم منذ 1947 حتى الآن. ينطلق البرنامجان بالتحالف الاستراتيجي الأمريكي "الإسرائيلي" ودعم إسرائيل في برنامجها الاستيطاني التوسعي على حساب فلسطين وشعبها والأمة العربية ووحدتها الترابية وسيادتها، والتصدي الأمريكي الإسرائيلي لكل من يعارض هذا المخطط.

أما التباينات فتكمن في المقاربات السياسية التكتيكية ما بين المرشحين والحزبين. هاريس والحزب الديمقراطني يقرون لفظيًا ببعض القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين/ إسرائيل والصراع العربي- الإسرائيلي وحاليًا يدعون لوقف لإطلاق النار وتبادل الأسرى ووضع حد للمذابح ومعاناة الشعب الفلسطيني في غزّة وعدم توسعة الحرب، لكنهم مستمرون في دعم إسرائيل بكل السبل. أما ترمب والحزب الجمهوري فلا يعيرون ذلك الاهتمام؛ بل ويطرح ترمب ضرورة حسم حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني بسرعة وإمكانية توسع إسرائيل على حساب البلدان العربية المجاورة.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

أمريكا وإسرائيل لا تريدان وقف الحرب.. وإذن؟

هناك بديهيات وحقائق يتجاهلها الكثيرون ظرفيا ومؤقتا لأسباب عديدة، ثم تعود الأحداث لتؤكدها، ومنها الموقف الأمريكي الحقيقي من العدوان على غزة.

في تعقيبه على رد حركة حماس على مقترح وقف إطلاق النار، قال المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف إن رد الحركة الفلسطينية "غير مقبول على الإطلاق، ولن يؤدي إلا إلى إعادتنا للوراء"، مشيرا إلى أن "على حماس قبول اقتراح الإطار الذي طرحناه كأساس لمحادثات التقارب"، ومؤكدا على أن هذه هي الطريقة الوحيدة (!) لإبرام اتفاق لوقف إطلاق نار لمدة 60 يوما.

يعني تصريح بيتكوف ضمن ما يعنيه أن الإدارة الأمريكية معنية بشكل أساسي بإطلاق سراح أسرى الاحتلال، وأنها لا ولن تقدم أي التزام بالتوصل لوقف دائم لإطلاق النار، وأن الرد "الإسرائيلي" تحول تلقائيا لمقترح تقدمه لحركة حماس لقبوله كما هو وليس حتى كمنطلق للتفاوض، ما يعني في نهاية المطاف موقفا أمريكيا متماهيا مع الموقف "الإسرائيلي".

هذا التماهي في الموقف أكدته المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية تامي بروس حين أكدت على أن موقف الرئيس دونالد ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو هو رفض استمرار حماس في الوجود، وأن استمرار الأزمة "يعود لرفض حماس نزع سلاحها".

لا يريد نتنياهو وقف الحرب، لأن الأهداف الأساسية منها القضاء التام على المقاومة وتهجير السكان وإعادة احتلال القطاع، ووقفها لن يحقق ما سبق وإنما سيفتح الباب على التقييم والحساب والتفاعلات الداخلية. ما يريده هو الحصول على الأسرى لتخفيف الضغط الداخلي عليه، ثم العودة لنفس الدائرة من الضغط العسكري والقتل والحصار والتجويع والتهجير للحصول على اتفاق لاحق يحصل فيه على ما تبقى من الأسرى، دون التزام بوقف الحرب ولا حتى إدخال المساعدات
الحديث عن نزع سلاح حماس كشرط لإنهاء الأزمة ليس فقط شرطا "إسرائيليا" تعجيزيا، ولكنه كذلك غير موجود في المقترح الحالي المعروض على حماس، ما يعني أنها حتى لو وافقت على المقترح الحالي فلن ينهي ذلك الحرب، وهو ما تؤكده بنود المقترح التي تمنح "إسرائيل" فرصة العودة للحرب بأي ذريعة بعد أسبوع واحد فقط؛ هو المدة التي يفترض أن تستلم خلالها أسراها.

هذا التخوف من عودة الحرب بعد الاتفاق ليس هواجس مبالغا بها لدى الفلسطينيين، بل هو حقيقة قائمة تعضدها السابقة في اتفاق وقف إطلاق النار الذي لم تلتزم فيه دولة الاحتلال بالبروتوكول الإنساني وإدخال المساعدات، ورفضت العودة للتفاوض واستأنفت العدوان، كما تؤكده التصريحات المباشرة لنتنياهو وأركان حكومته بأنه "سنواصل الحرب حتى بعد الاتفاق".

في الخلاصة، لا يريد نتنياهو وقف الحرب، لأن الأهداف الأساسية منها القضاء التام على المقاومة وتهجير السكان وإعادة احتلال القطاع، ووقفها لن يحقق ما سبق وإنما سيفتح الباب على التقييم والحساب والتفاعلات الداخلية. ما يريده هو الحصول على الأسرى لتخفيف الضغط الداخلي عليه، ثم العودة لنفس الدائرة من الضغط العسكري والقتل والحصار والتجويع والتهجير للحصول على اتفاق لاحق يحصل فيه على ما تبقى من الأسرى، دون التزام بوقف الحرب ولا حتى إدخال المساعدات، التي تحولت في المقترح الأخير من حق إنساني وبند في الاتفاق السابق إلى مادة تفاوضية وأداة ابتزاز بيد نتنياهو.

وبغض النظر عما إذا كان الخلاف بين ترامب ونتنياهو مصطنعا كمناورة تكتيكية كما يرى البعض، أو كان في الهوامش والشكل وليس الجوهر والمضمون كما نعتقد، فإن الحقيقة الماثلة اليوم تقول إن نتنياهو لا يريد وقف الحرب، وأن ترامب لا يضغط عليه بشكل حقيقي وكافٍ لوقفها. فكيف تقف الحرب إذن؟

نعود مرة أخرى للعوامل التي من شأنها دفع الاحتلال لوقف العدوان، والتي لم تتغير بالمناسبة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023:

- العامل الميداني، بانكسار الاحتلال أو تكبده خسائر لا يستطيع احتمالها، وهو أمر غير قائم لا سيما بعد تغير عقيدته الأمنية بعد عملية طوفان الأقصى.

- العامل "الإسرائيلي" الداخلي، وقد أثبت محدوديته مرارا.

- العامل الأمريكي، الذي أثبتنا أن خلافاته مع نتنياهو وحكومته تتركز على الشكل والهوامش، مثل العامل "الإنساني" ودخول المساعدات واستلام الأسرى، وليس وقف الحرب.

- عوامل خارجية قد تساهم في تغيير الموقف الأمريكي، مثل الحرب الروسية- الأوكرانية، أو توسع المواجهة الإقليمية مجددا لتشمل إيران و/أو حزب الله، وكلاهما احتمال ضئيل وفق المعطيات الحالية، رغم تصعيد أوكرانيا الأخير.

- العالم العربي والإسلامي بشقّيه الرسمي (هو الأكثر تأثيرا) والشعبي، وملخصه أن يشعر الاحتلال أن استمرار عدوانه سيكون له ثمن مباشر أو غير مباشر عليه.

وإذا ما نظرنا في العوامل السابقة، يبقى العامل شبه الوحيد القابل للتعديل والقادر على إحداث فارق وفق المعطيات الحالية هو الأخير المرتبط بالعالم العربي والإسلامي، والذي أظهر مستويات متقدمة ومعيبة من العجز والفشل، وكأنه قد تقبل ضمنا استمرار العدوان الوحشي.

لم يعد معقولا ولا مقبولا ولا مفهوما أن تستمر حرب الإبادة لأكثر من 600 يوم، وأن يصر قادة الاحتلال على استمرار الحرب حتى نهاية الشوط، بينما نرى العالم العربي والإسلامي الرسمي في حالة شلل كامل تصل لدرجة العجز عن زيارة رام الله (على هامشيتها وبعدها عن صلب الحرب) بسبب رفض الاحتلال، ونرى الشارع العربي والإسلامي قد اعتاد المشهد وتراجعت حتى وتيرة مظاهراته، وهي الحد الأدنى لإثبات الشعور بأهل غزة.

ما يمكن أن يدفع الاحتلال لإعادة النظر في حرب الإبادة هو شعوره بأنه يدفع أو يمكن أن يدفع ثمن هذا العدوان، هو أو شركاؤه. وإذا ما كانت الأنظمة الحاكمة والحكومات ما زالت بعيدة جدا عن مجرد التلويح بذلك، من خلال استمرار العلاقات التجارية والتعاون الأمني والمناورات العسكرية والجسور البرية والبحرية، فإن الشعوب والنخب ينبغي ألا تصمت وألا تعدم الوسائل
إن ما يمكن أن يدفع الاحتلال لإعادة النظر في حرب الإبادة هو شعوره بأنه يدفع أو يمكن أن يدفع ثمن هذا العدوان، هو أو شركاؤه. وإذا ما كانت الأنظمة الحاكمة والحكومات ما زالت بعيدة جدا عن مجرد التلويح بذلك، من خلال استمرار العلاقات التجارية والتعاون الأمني والمناورات العسكرية والجسور البرية والبحرية، فإن الشعوب والنخب ينبغي ألا تصمت وألا تعدم الوسائل.

أولى المسؤوليات وأكثرها إلحاحاَ وجدوى هو تحرك الضفة الغربية المحتلة، التي لن يكون حراكها مجرد دعم وإسناد لغزة وإنما حماية لها وهي تواجه الحصار والقتل والاستيطان ومشاريع التهجير و"الترانسفير". ورغم الكثير من التطورات المعروفة بخصوص الأوضاع في الضفة، إلا أن هذا الصمت وكأن شيئا لا يحدث أو كأن القضية الفلسطينية برمتها ليست في مهب الريح؛ لم يعد مفهوما ولا مقبولا.

والأمر نفسه ينطبق على فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، والذين يمكن لحراك بسيط منهم أن يغير الكثير من المعادلات كما حصل خلال معركة سيف القدس في 2021. هذا طرح لا يتجاهل الأوضاع الصعبة التي يواجهها الفلسطينيون هناك عبر القوانين والممارسات الأمنية، بل على العكس هو مدفوع جزئيا بهما من حيث أنهما يكشفان المصير الذين ينتظر هذا الطيف من الشعب الفلسطيني في حال أنجز الاحتلال ما يريد في غزة.

لاحقا، ثمة ما تستطيعه الشعوب العربية وخصوصا في كل من الأردن ومصر، وهما دولتان تولي لهما "إسرائيل" ومن خلفها الولايات المتحدة أهمية كبيرة، وتقلقان من أي حراك فيهما، وعلى ذلك شواهد كثيرة، خصوصا وأن معبر رفح كان على الدوام عنوان الحصار وبوابة الفرج لأهل غزة، ويمكن أن يعود كذلك.

على مستويات أكثر تخصصا، تقع على النخب العربية والإسلامية مسؤوليات حقيقية وتاريخية في الظرف الاستثنائي الحالي، ولم يعد مقبولا الاكتفاء بالمتابعة والدعاء أو الجهد المالي والإغاثي البسيط، على أهميته. إن تحريك الوعي والجهد ورفع الفاعلية لهي من أولى مسؤوليات النخب، بعيدا عن الكلام التقليدي الدبلوماسي والفعل المجامل هنا وهناك. يمكن للنخب وفي مقدمتها العلماء والأكاديميون والإعلاميون، بل يجب عليهم، تبني خطاب مسؤول والتزام فعل مؤثر يساهمان في زيادة الضغوط على مختلف الأطراف لتحمل مسؤولياتها.

ما دون ذلك، وتحت كل بند منه العديد من الأدوات والوسائل التفصيلية متى وجدت الإرادة، سيبقى الشارع العربي والإسلامي في حالة من الترقب والعجز في انتظار معجزة لن تأتي دون إرادة وسعي.

ولعل أول ما ينبغي فعله هو الفهم الدقيق لطبيعة المعركة الحالية التي تجاوزت منذ زمن طويل حدود غزة جغرافيا وديمغرافيا، رغم الخطاب الرسمي الملتزم بهذا الخط ورغم أن أهل غزة هم حتى اللحظة للأسف ضحاياها المباشرون، بما هي حرب مفصلية سترسم وجه المنطقة ودولها وشعوبها لعقود قادمة، حيث لا يخفي الاحتلال وداعموه خططهم بـ"إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط"، وقد بدأوا بذلك فعلا في فلسطين ولبنان وسوريا ويحضّرون للباقين.

x.com/saidelhaj

مقالات مشابهة

  • هل يعود كيليجدار أوغلو لزعامة حزب الشعب الجمهوري؟
  • أمريكا وإسرائيل لا تريدان وقف الحرب.. وإذن؟
  • بايدن مات منذ 5 أعوام وحل محله روبوت
  • مستشار رئيس فلسطين: حماس وإسرائيل لا يريدان وقف الحرب على قطاع غزة
  • الجيل الديمقراطي ينظم صالونًا سياسيًا بعنوان «تحديات الانتخابات البرلمانية 2025»
  • جاوب وخد 1000 جنيه.. مراجعات مجانية لطلاب الثانوية العامة من الشعب الجمهوري
  • الرهوي يُكرّم كوادر مؤتمر “فلسطين قضية الأمة” تقديرًا لجهودهم الوطنية
  • الرهوي يُكرّم عددًا من أعضاء اللجنة العليا للمؤتمر الثالث “فلسطين قضية الأمة المركزية”
  • الرهوي يُكرّم عددًا من أعضاء اللجنة العليا للمؤتمر الـ3 فلسطين قضية الأمة المركزية
  • تونس: تشديد الأحكام على 20 مدانًا في قضية الهجوم على السفارة الأمريكية