السودان : حرب وجوع وسيول وأمراض عيون وكوليرا
تاريخ النشر: 30th, August 2024 GMT
في الوقت الذي يتطلع فيه السودانيين للسلام ووقف الحرب ومحاولات المجتمع الدولي لإيقاف صوت البنادق وعقد اتفاقات مع الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لتتمكن المنظمات التي تعمل في غوث اللاجئين من إيصال المساعدات الإنسانية لإنقاذ الأرواح حيث أن اكثر من 25 مليون سوداني يعانون من الجوع بينهم عشرة ملايين نزحوا من منازلهم بحثا عن ملاذات آمنة داخل وخارج السودان.
منتدي الاعلام السوداني : غرفة التحرير المشتركة
إعداد وتحرير : مركز الألق للخدمات الإعلامية
ام درمان : 30 أغسطس 2024
تزداد معاناة السودانيين وخوفهم من الموت نتيجة الجوع أو المرض الناجم أيضا عن الجوع وتدهور إصحاح البيئة نتيجة للقصف والتدوين وتناثر الجثث وانفجار محطات المياه.
تفشي أمراض جلدية شمال السودان انتشار واسع للإمراض بسبب تلوث البيئة وانعدام المياه النقية:
نتج عن كل ذلك انتشار واسع لإمراض كثيرة مثل الكوليرا والدسنتاريا وإمراض العيون مثل الرمد والملتحمة حالات متزايدة يعجز الوضع الصحي المنهار بفعل الحرب من الاستجابة لها، حيث فقدت 80 % من البنى التحتية للمؤسسات الصحية مقوماتها وأغلبية المرافق الصحية في بؤر النزاع الساخنة أصبحت لا تعمل.
أما المرافق في المناطق التي لم تتأثر بشكل مباشر بالنزاع، فهي تعاني من اكتظاظ المرضى وحالات الاعتداء التي يتعرض لها الأطباء والمسعفين من المتطوعين من أبناء تلك المناطق.
مع استمرار القصف والقتل فان اكثر ما يزعج أهالي امدرمان في كل من امبدة وكرري هو التزايد الكبير في انتشار كثير من الإمراض الوبائية من بينها الاسهالات المائية والكوليرا حيث بلغت الإصابات بالاسهالات المعوية الشهر الماضي في منطقة كررى والتي تمكن أصحابها من الوصول للمركز الصحي 165 حالة منها 102 إصابة لأطفال.
مريض مصاب بإلتهاب حاد في العيونومن الإمراض التي أصبحت شائعة مرض التهاب العيون مثل الملتحمة والرمد مع احمرار شديد في العيون حيث أن الحالات التي تصل المركز من إلى40 إلى 50 للعلاج يوميا وهنالك من يعزف عن الحضور مكتفين بالعلاج البلدي كل ذلك يقابله ضعف شديد في الخدمات الطبية وعدم توفر المحاليل الذى يغطى حاجة المرضى كما لا تغطى الحالات المتزايدة لمرضى العيون من قطرات ومراهم التترسايكلين، حيث لا تتعدى أصابع اليد وسعرها في الصيدليات يتزايد بشكل يومي فقد وصلت إلى 8 الف جنيه للقطرة والمراهم.
خبيرة في مجال الرعاية الصحية الأولية توضح قائلة “انه وفي ظل الانهيار الواسع في القطاع الصحي والنقص في عدد الكادر الطبي نجد انه قد توجد بعض المراكز الصحية في بعض المناطق سواء تلك التي تقع تحت سيطرة الدعم السريع أو التي تقع تحت سيطرة الجيش ولكنها مراكز تعمل بالأجر وصيدلياتها تبيع الأدوية فهي ليست مجانية وذلك معروف قبل الحرب ولكن الآن، وبسبب الحرب والقصف اليومي توقفت محطات المياه التي تسقى الناس مياه نظيفة مما تسبب في ندرة شديدة في الحصول على المياه النقية، وفي الوقت نفسه، تجد هنالك طفح في المجاري والخيران حيث أن اغلب البيوت في امدرمان دورات المياه فيها عبارة عن حفرة. لذلك فإن ظهور حالات الإمراض المعوية والاسهالات المائية ناتج عن تلوث شديد في البيئة بسبب ذلك، ويشكل غياب نظام الرعاية الصحية الأولية كارثة حقيقية لأن المياه الموثة تسبب أمراضا كثيرة.
تنتشر إمراض العيون والتهاب الملتحمة لأن الناس تغسل وجهها بالمياه الملوثة، والآن أخطر الإمراض هي الكوليرا التي سترتفع نسبة المرض بها بسبب التلوث. وهنالك أيضا مرض خطير يتسبب فيه تراكم المياه وهو حمى الضنك الذى تسببه توالد نوع من البعوض الناقل للمرض في المياه الراكدة.
رغم تصريحات وزير الصحة حول الحاجة للأدوية أستطيع أن أشير إلى أن المسالة ليست أدوية فقط بل عمل على الأرض ينبغي أن يحدث وهو عملية النظافة والرش بالمبيدات.
وظهرت في كررى إمراض جلدية حالة إصابة بمرض الجرب وحالة واحدة من مرض جدري القردة ولكن أي مرض تكون البداية بحالة ومن ثم تزيد وهو مرض منتشر في الكونغو وهى دولة متاخمة للجنوب ولدينا الرنك حيث يتنقل الناس بين البلدين بصورة عادية في ظل غياب تام لحملات التوعية حيث لا توجد ملصقات أو برامج تووعوية يبثها الإعلام الرسمي والتقليدي لتحذير الناس ورفع وعيهم، بل بالعكس كل ذلك لا يتم ذكره من قبل وزارة الصحة حيث تتم التغطية على ما يحدث ويتم اكتشاف المرض بعد انتشاره، الآن هنالك الكوليرا ظهرت في القضارف لأنه لم يبذل أي جهد لمكافحتها عندما ظهرت في كسلا بالإصحاح البيئي في ظل الوضع الراهن حيث لا يستطيع أن يقوم به عمال الصحة فقط بل ينبغي أن تكون هنالك حملات ضخمة يقوم بها الشباب المتطوعين بعد أن يتم تزويدهم بالأدوات والمبيدات الأزمة للعمل.
العمى الليلي والاسهالات الأكثر شيوعا:
أما في محلية امبدة حيث الكثافة السكانية العالية أغلبيتهم يمارسون الأعمال البسيطة كعمال يومية أو باعة في الأسواق أما النساء معظمهن يعملن في بيع الأطعمة والشاي لتغطية نفقات الأسرة.
أشار احد المتطوعين إلى أن معظم الأهالي امبدة من الحارات 43 و51 52 والحارات المتاخمة لها من ود البشير قد فضلوا عدم مغادرة بيوتهم رغم القصف بالطائرات والتدوين الذى يتعرضون له يوميا وحوادث القتل الذى تنقلها وسائل الإعلام الذى أؤدى بحياة اسر كاملة وهو امر ظل يحدث بصورة يومية لم يغادروا لأسباب متعددة ابرزها انهم اسر كبيرة ولا يملكون الأموال التي تمكنهم من السفر إلى ولايات آمنة إلى أن بعضهم يخشى من أن يتعرضوا للاعتقال من قبل احد الطرفين لذا فقد اختاروا البقاء في انتظار القدر.
تعتبر منطقة كررى الأسوأ حالا حيث تقع تحت سيطرة الدعم السريع ويتعرض المواطنون فيها لشتى أنواع الانتهاكات والنهب والاعتقال مركز الطواري الوحيد الذى يغطى منطقة امبدة الحارات ٤٣ و ٥١ وودالبشير كان عبارة عن مركز يستقبل الحالات الطارئة مثل الولادات ومداواة الجروح التي تنجم عن الطلقات الطائشة التي يتم تضميدها أما الحالات الحرجة التي تحتاج لعمليات يتم تحويلها لمستشفيي النو بمذكرة، وفي المركز توجد قابلة واحدة قامت بتوليد 500 امرأة، والكادر الطبي فيه يتكون من مساعدين طبيين وممرضين ومسعفين تم تدريبهم على الإسعافات الأولية يعمل معظم هؤلاء كمتطوعين فيمنحون بعض من زمنهم للعمل.
الآن اكثر ما يقلقهم على حد تعبير احد المتطوعين من المسعفين الذى يعملون في غرفة الطوارئ هو انتشار مرض الاسهالات المائية حيث ترد للمركز يوميا ما بين -15-20 حالة يقابلها نقص في الدربات والمحاليل بالإضافة إلى مرض الدسنتاريا الذى اصبح شائعا بمعدل 40 حالة يوميا، وقبل اقل من شهرين اصبح هنالك انتشار واسع لإمراض العيون خاصة الرمد الذى يصاحبه احمرار شديد حيث أشار إلى أن 80% من المواطنين خاصة الأطفال مصابين بالرمد، واكثر ما بات يزعجهم مؤخرا هو انتشار مرض العمى الليلي وضعف الأرجل وعدم القدرة على المشي وأشار الأطباء إلى ان ذلك ناجم عن النقص في الفيتامينات ويتم علاجه عبر جرعة دواء يأخذها المريض وهى عبارة عن ٣ حبات بعدها يتماثل للشفاء لكنها انعدمت الان كما انعدمت أيضا القطرات ومراهم التتراسايكلين في مركز الطواري الأمر الذى جعل المواطنين أو يلجؤون لاستخدام الأدوية البلدية، مشيرا إلى أن نشط تجار الأدوية (الحروب) باتت أسعارها عالية ليس في مقدور مواطن يطحنه الجوع والمسغبة وويلات الحرب توفير المال لشرائها وعليه فقد لجا الناس في امبدات تحديدا للاستعاضة بصفق شجر النبق لإيقاف الاسهالات والأعشاب الأخرى لعلاج إمراض العيون أما العمى الليلى والألم في الأرجل يحتاج للغذاء الذى يحتوى على فايتمين سى أو الثلاثة حبات التي أصبحت مراكز الطواري خالية من الدواء أو تصلها كميات محدودة لا تغطى الأعداد المتزايدة من المرضى وقال انه وبسبب الحالة الأمنية فان المركز يعمل لساعات محددة الأمر الذى لا يمكن الناس من الحصول على العلاج حتى القليل المتوفر مما يعرض حياة كثير من المواطنين بالمنطقة للخطر.
مناشدات دولية:مما يجدر ذكره أن منظمة الصحة العالمية، قد أعلنت عن تفشي الكوليرا في ثلاث ولايات في جميع أنحاء السودان، وهي القضارف والخرطوم وجنوب كردفان، كما تم الإبلاغ عن حالات اشتباه في ولايتي الجزيرة وكسلا.
وحذر المسؤول فيها من أن الكوليرا آخذة في الانتشار بسرعة بسبب الظروف المواتية المتمثلة في المياه غير الآمنة وسوء أوضاع الصرف الصحي والنظافة والنزوح وضعف الخدمات الصحية.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 3.1 مليون شخص معرضون لخطر الإصابة بالكوليرا حتى نهاية كانون الأول/ديسمبر
وكانت منظمة الصحة العالمية قد حذرت كذلك من أن الكوليرا والملاريا وحمى الضنك آخذة في الارتفاع. وأعربت عن قلقها إزاء نقص العلاج للأشخاص الذين يعانون من إمراض مزمنة مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم وإمراض القلب والفشل الكلوي وان تداعيات الحرب على القطاع الصحي والرعاية الصحية الأولية امر مريع وانعدام المياه النظيفة وغياب المعالجة الصحية للمياه يجعل أرواح الناس في خطر
وأوضحت منظمة أطباء بلا حدود في تقريرها أن المدنيين في السودان يعانون من أنواع عنف مروعة نتيجة للهجمات المتكررة وانتهاكات بعد مرور اكثر من عام من الحرب بين الدعم السريع والجيش السوداني و أن الإصابات الجسدية والنفسية قد تزايدت بشكل كبير بسبب الانهيار الصحي وغياب الاستجابة الدولية للمساعدات الإنسانية ورغم أنها عالجت الألاف من الجرحى في المناطق المتضررة من القصف للمباني السكنية والبنى التحتية التي اصبح معها الحصول على الرعاية الطبية والأدوية المنقذة للحياة واصبح من الصعب الحصول عليها في ظل الحرب والهجمات التي يتعرض الهيا العامليين في القطاع الصحي من أطباء وممرضين ونهب الإمداد الطبي والاعتداء على الأطباء وعدم توفر الأمن في ظل عدم اكتراث الدعم السريع والجيش بالحياة البشرية والقانون الدولي الإنساني وروى المواطنون في مناطق الصراع ودور الإيواء حكايات مروعة وقاسية للعنف الذى يتعرضون له من حاملي السلاح إلى جانب الإخلاء القسري والنهب والسلب الذى اصبح ملازما لحياتهم اليومية
ينشر هذا التقرير بالتزامن في منصات المؤسسات والمنظمات الإعلامية والصحفية الأعضاء بمنتدى الإعلام السوداني
#ساندوا_السودان
#Standwithsudan
الوسومأمطار امراض عيون سيولالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: أمطار امراض عيون سيول
إقرأ أيضاً:
السودان بلا مركز: تعدد السلطات وتفكك الدولة بين الحرب وغياب السيادة
منتدى الاعلام السوداني: صحيفة سودانايل
تقرير: أمجد شرف الدين المكي
المقدّمة:في لحظةٍ مفصلية من تاريخ السودان المعاصر، يتوارى “المركز” السياسي للدولة خلف مشهدٍ دمويّ تتنازعه جبهات مسلحة وسلطات متنافرة، فيما تترنّح المؤسسات السيادية تحت وطأة الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتغيب الدولة بوصفها كيانًا موحِّدًا. هذا التفكك المتسارع لمظاهر السلطة المركزية لا يعكس مجرد انهيار ظرفي في الحكم، بل يُنبئ بتحوُّلٍ هيكليّ يطال طبيعة الدولة نفسها. فالسودان، في امتداد نزاعاته الراهنة، يبدو وقد دخل طورًا من “اللا-مركزية القسرية”، حيث بات الحكم موزعًا بين قوى عسكرية، وحركات مسلحة، وزعامات قبلية، وإدارات مدنية محلية—كلٌّ منها يدّعي شرعية أمر واقع تغذّيها الجغرافيا والسلاح والفراغ.
يتجاوز هذا المشهد حدود التوصيف الأمني أو السياسي العابر، ليطرح تساؤلاً وجوديًا: هل ما نشهده هو إنزلاق نحو “الصوملة”، أي نحو نمط من الدولة المفككة التي تتقاسمها سلطات محلية وأمراء حرب؟ أم أن السودان، رغم هذا التشرذم الظاهر، لا يزال يحتفظ بفرصٍ لإعادة بناء مركز سيادي موحّد، حتى وإن كان ذلك عبر صيغ جديدة من الحكم اللامركزي أو التوافقي؟
تحاول هذه القراءة التحليلية تتبّع ديناميات تعدد السلطات في السودان، في سياق تفكك الدولة المركزية وتلاشي إحتكارها للعنف والقرار، مُسلّطة الضوء على النماذج البديلة للحكم الناشئة في غياب الدولة، وعلى التبعات البنيوية لذلك على وحدة البلاد، ووظائف الدولة، ومعنى السيادة ذاته.
من العاصمة (المركز) إلى الأطراف (الهامش): كيف توزّعت السُّلطة في السودان؟منذ اندلاع الحرب في 15 /أبريل 2023 بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، شهدت العاصمة الخرطوم انهيارًا غير مسبوق في بنيتها الإدارية والعسكرية والمدنية، إذ سرعان ما تحوّلت إلى مسرح للقتال المباشر، ومن ثم إلى مدينة مهجورة تسودها سلطة السلاح، لا سلطة الدولة. ومع تفكك المركز، تمددت مراكز قوى محلية في أنحاء السودان، لتملأ الفراغ السياسي والأمني، وتقيم سلطاتها الخاصة التي تستند إلى القوة المسلحة والشرعية القَبَلية أو الثورية أو الجهوية.
في غرب البلاد، تسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من إقليم دارفور، وتُقيم أنماط حكم شِبه مستقل، حيث تفرض الضرائب علي أشكال “إتاوات” مقابل الحماية الكاذبة، ذات الإضطهاد، والتحرش والتنمر، وتدير نوعاً ما المعابر الحدودية، بل وتعيّن مسؤولين مدنيين في بعض المناطق، في صورة تُشبه إلى حدٍّ بعيد نماذج الحوكمة البديلة التي ظهرت في الصومال بعد انهيار نظام سياد بري، أو في ليبيا بعد سقوط القذافي. في شرق البلاد، تتمركز قيادة الجيش في مدينة بورتسودان، وتدير ما تبقى من وزارات الدولة والمؤسسات شبه المركزية، في وضعٍ يُعبِّر عن سلطة “منفية” تتحكّم باسم الدولة دون أن تسيطر فعليًا عليها وعلي عاصمتها.
إلى جانب هذين القطبين العسكريين، تتوزع السلطة فعليًا بين جهات أخرى، فالحركات المسلحة الموقعة على إتفاق جوبا للسلام تحتفظ بنفوذ كبير، ولو نوعياً في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتمتلك قوات ميدانية وقيادات سياسية، بعضها يشغل مناصب، قيادية وسيادية في حكومة بورتسودان، بينما البعض الآخر يتخذ مواقف مستقلة أو متذبذبة. كذلك، شهدت بعض مناطق السودان—وخاصة في شمال وغرب البلاد—عودة لافتة لنفوذ الإدارات الأهلية والقيادات القَبَلية، التي باتت تدير الأمن والخدمات، وتحلّ النزاعات بوسائل تقليدية، في ظل غياب كامل للمؤسسات الرسمية.
وفقًا لتحليلات نشرتها دورية foreign Policy الأميركية، فإن المشهد السوداني الحالي يمثل “تفكيكًا متدرجًا للسلطة المركزية”، يُعيد إنتاج السلطة على أسس محلية، عشائرية، وأمنية، وهو ما يعيد إلى الأذهان نماذج الدولة اللامركزية الفاشلة، التي تهيمن فيها وحدات محلية على حساب الدولة الجامعة.
تفكّك الدولة وتآكل السيادة: هل دخل السودان فعلاً مرحلة الدولة المتفككة؟ أو الصوملة؟ليس تراجع المركز في السودان محضَ اختلالٍ إداريّ أو اضطرابٍ ظرفيّ، بل هو إنحرافٌ عميق في وظيفة الدولة نفسها، بما هي كيانٌ سياديّ يحتكر أدوات العنف، ويُنظّم الفضاء السياسي، ويضمن وحدة الأرض والسكان. ما نشهده اليوم هو تحوّلٌ تدريجيّ نحو نموذج الدولة المتفككة، حيث تُستبدل الهياكلُ الرسميّةُ بمراكزَ نفوذٍ متعدّدة، كثيرٌ منها يُعيد إنتاج السلطة بناءً على الولاء القبليّ أو الجهويّ أو وفق منطق القوّة المسلّحة.
قد يكون من المُغري، في هذا السياق، إستخدام مصطلح “الصوملة” للإشارة إلى هذا النمط من الإنهيار، لكنّ هذا التشبيه، رغم وجاهته التحليلية، قد لا يُحيط بتعقيدات الحالة السودانية. ففي حين شهدت الصومال انهيارًا مفاجئًا لنظامٍ مركزيّ، فإن السودان ينزلق في مسارٍ تدريجيّ، تغذّيه تراكمات من الانقسامات البنيوية، والنزاعات المحلية، وتعدّد الفاعلين، فضلًا عن الأدوار الإقليميّة والدوليّة المعقّدة.
وبحسب تقرير صادر عن Internation Crises Group, فإنّ السودان يواجه اليوم “واحدةً من أخطر حالات تراجع السيادة في إفريقيا المعاصرة”، حيث تتآكل سلطة الدولة المركزية، لا بفعل انهيارٍ شامل، بل نتيجةً لتوزّع أدوات السيادة على قوى غير حكوميّةٍ تُمارس أدوارًا سياديّة، تتراوح بين فرض الجباية، وإدارة الخدمات، وتنظيم الحدود، وأحيانًا التنسيق المباشر مع أطرافٍ دوليّة عبر ممرات وإشرافات إقليمية.
إنّ أخطر ما في هذا التحوّل، ليس مجرد انقسام سياسيّ أو عسكريّ، بل إعادة تعريف الدولة نفسها: من كيانٍ يحتكر السيادة، إلى فضاءٍ سلطويٍّ تتقاسمه قوى محليّة تتصرّف كأنّها دولٌ مصغّرة داخل الدولة الأم.
الدور الإقليمي والدولي: كيف ساهم الخارج في تفكيك الداخل؟لم يكن تفكك الدولة السودانية نتاجًا لعوامل داخلية فحسب، بل لعبت التفاعلات الإقليمية والدولية دورًا بالغ التأثير في تسريع الإنهيار وتكريس منطق الحرب بديلاً عن منطق الدولة. فمنذ إندلاع النزاع الأخير، تداخلت حسابات الفاعلين الخارجيين مع مصالح الأطراف المحلية، وتحوّلت الجغرافيا السودانية إلى مسرح مفتوح لصراعات المحاور، وتنافس المصالح، والتدخلات غير المعلنة.
تأتي الإمارات العربية المتحدة في مقدّمة اللاعبين الإقليميين الذين ارتبطت أسماؤهم بالدعم المالي واللوجستي لقوات الدعم السريع، وذلك في سياق إستراتيجيتها الإقليمية التي تعتمد على دعم الوكلاء المحليين لتعزيز النفوذ في مناطق حيوية مثل البحر الأحمر، وإمتداده الإفريقي. وفي المقابل، تحاول مصر الحفاظ على الجيش السوداني كحليف إستراتيجي تقليدي، إنطلاقًا من إعتبارات الأمن المائي في ملف سد النهضة، ومنظورها الأمني المتوجس من احتمالات تمدد قوى غير نظامية على حدودها الجنوبية.
أما روسيا، فتبرز من خلال علاقتها شبه المعلنة مع مجموعة “فاغنر”، التي نشطت في السودان منذ سنوات عبر بوابة الذهب والدعم الأمني، وكرّست نمطًا من الشراكة الرمادية مع الفاعلين غير الرسميين. وقد وثّقت تقارير BBC وReuters، بالإضافة إلى نشرات أكاديمية صادرة عن Chatham House وCarnegie Middle East Center، حجم النفوذ الروسي المتنامي، لا سيما في دارفور، عبر شبكات تهريب الذهب وتمويل الصراعات المحلية.
وفي مقابل هذه المحاور المتنافسة، بدت المنظمات الدولية والمؤسسات الأممية عاجزة عن صياغة مقاربة سياسية أو إنسانية فعالة، حيث فشلت مبادرات مثل “مباحثات جدة” في تثبيت أي وقف دائم لإطلاق النار، فيما إنحسر الدور الأممي في البيانات التحذيرية دون أدوات فعلية للتدخل أو الردع، في ظل انقسام مجلس الأمن، وتراجع أولويات السودان في أجندة القوى الكبرى.
تُظهِر هذه المعطيات أن تفكك الدولة في السودان لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي، حيث لم يكن الخارج مجرّد متفرّج، بل كان – بدرجات متفاوتة – شريكًا في إنتاج الهشاشة، وتعزيز الانقسام، وتأطير السلطة خارج نطاق الدولة المركزية.
مستقبل الدولة في السودان: هل من أفقٍ لإعادة البناء؟في خضمّ الانهيار المتعدّد المستويات، يبقى السؤال الجوهري مطروحًا بإلحاح: هل يمكن إحياء الدولة السودانية ككيان موحِّد؟ أم أنّ البلاد قد دخلت طورًا لا رجعة فيه من التفتت السياسي والمناطقي، تُعاد فيه هندسة السلطة على أساس مراكز قوى محلية، تحكمها شبكات المصالح، ومنطق السيطرة لا منطق الشرعية؟
من الناحية النظرية، يُتيح تاريخ الدولة السودانية- رغم تعقيداته- مجالًا للتعافي وإعادة البناء، خصوصًا في ظل ما يُعرف بـ”النُظُم ما بعد الصراع” (Post-Conflict State Formation)، التي تشهد فيها الدول المفككة عودةً تدريجية للمركز عبر ترتيبات تفاوضية أو إقليمية تُعيد إنتاج الدولة بشكل مغاير. لكنّ هذه الإمكانية مشروطة بعدة عوامل:
أولًا: وقف الحرب بشكل شامل ودائم، وهو شرطٌ لا يزال بعيد المنال، في ظل غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف المتصارعة، وتحوّل الاقتصاد السياسي للحرب إلى موردٍ للسلطة والنفوذ.
ثانيًا: إرادة وطنية جامعة تتجاوز منطق الغلبة والانتصار العسكري، وتتأسّس على مبدأ إعادة تعريف الدولة لا بإعتبارها غنيمة أو أداة للهيمنة، بل كعقد اجتماعي يضمن مشاركة عادلة في السلطة والثروة.
ثالثًا: ضمانات إقليمية ودولية جدّية، لا تقتصر على دعم الإغاثة والمساعدات الإنسانية، بل تنخرط في هندسة حلّ سياسي قائم على الشرعية، والمساءلة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، بعيدًا عن محاور الاصطفاف التي عمّقت الأزمة.
بحسب ورقة صادرة عن The United States Institute of Peace، فإن السودان بحاجة إلى “عملية سياسية شاملة تعيد تعريف العلاقة بين المركز والهامش، وتضع أسسًا جديدة للحكم المحليّ، دون أن تُكرّس الإنفصال أو تنسف وحدة الدولة”.
لكن يبقى التحدّي الأكبر في السودان متمثّلًا في غياب الفاعل الوطني الجامع. فالمشهد السياسي بعد الثورة، ثم الإنقلاب، ثم الحرب، أفرز قوى متصارعة ومُشتَّتة، تُنافس بعضها على الشرعية وتفتقر إلى رؤية استراتيجية متكاملة للدولة القادمة.
إنّ مستقبل الدولة في السودان لن يُحدّده ميزان القوى العسكري فقط، بل أيضًا قدرة السودانيين، بمختلف مكوّناتهم، على تجاوز منطق “السلطة كإمتياز” إلى “الدولة كمشروع مشترك”. وهذا التحوّل، وإن بدا بعيدًا، يظلّ شرطًا لبقاء السودان كدولة لا كجغرافيا فقط.
آنياً ومن منحى آخر- وفي تطوّر دراماتيكي يُعيد رسم ملامح النزاع في السودان، شهدت مدينة بورتسودان- العاصمة الإدارية المؤقتة ومقر الحكومة المعترف بها دوليًّا- ضربات بطائرات مسيّرة استهدفت منشآت حيوية ومقار سيادية.
هذه الهجمات، التي لم تكن معروفة على هذا النطاق في شرق البلاد من قبل، مثّلت نقطة تحوّل نوعي في سير المعركة، وأظهرت اتساع رقعة الإستهداف وتقدّم قدرات الطرف الآخر، مما قوّض إفتراضات “الملاذ الآمن” في الشرق، وزاد من هشاشة السلطة المركزية هناك.
لكن اللافت أكثر من الهجوم ذاته، هو صمت القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، أو ما يشبه “اللا ردّ” المنظّم. رأى بعض المحللين- كما أشارت تحليلات منشورة في Middle East Eye وAl Jazeera Centre for Studies- أن هذا الصمت ليس غفلةً ولا حيادًا، بل جزءٌ من استراتيجية غير معلنة للضغط على المؤسسة العسكرية السودانية، لدفعها نحو التفاوض بعد تمسّكها بخيار الحسم العسكري ورفضها لأي حلول سياسية شاملة. فبورتسودان، رغم كونها المقر الرسمي للحكومة، لم تحظَ بأي حزام حماية سياسي أو دعم علني من حلفائها الإقليميين، وهو ما يُقرأ كتلميح ضمني: إمّا التسوية أو المزيد من التعرّي الاستراتيجي.
لكنّ هذه المعادلة- التي تُبنى على توازنات قوى ومصالح إقليمية-تتجاهل الثمن الباهظ الذي يدفعه المواطن السوداني. فبينما تتحرّك المسيرات في السماء لتبدّل موازين القوى، تزداد على الأرض مآسي النازحين واللاجئين والمشردين، الذين طُردوا من ديارهم وأُجبروا على عبور الحدود، أو الاحتماء بمناطق لا تتوفّر فيها أدنى مقومات الحياة. هؤلاء هم الحلقة الأضعف في سلسلة الصراع، لا صوت لهم في المؤتمرات ولا حضور في غرف التفاوض، ومع ذلك فهم من يدفع الكلفة الكاملة.
خاتمة بين سؤال الدولة وسؤال النجاةإنّ ما يشهده السودان اليوم لا يمكن إختزاله في حربٍ بين طرفين مسلحين، ولا حتى في صراعٍ على السلطة؛ بل هو أزمة بنيوية عميقة تطال فكرة الدولة نفسها: كيف تُبنى؟ ولمن تُبنى؟ ومن يملك الحق في تمثيلها، وصياغة معالمها، وحماية حدودها الداخلية والخارجية؟ فغياب المركز، وتعدّد السلطات، وتآكل السيادة، وتداخل الفاعلين المحليين، الإقليمميين والدوليين، كلّها ليست أعراضًا عابرة، بل مؤشرات على تحوّلٍ عميق في البنية السياسية السودانية، يهدد وجود الدولة كإطار ناظم للمجتمع.
في هذا السياق، لا تكفي الحلول التقليدية، ولا تنفع التسويات الشكلية، ما لم تُصاحبها رؤية وطنية تُعيد تعريف الدولة لا باعتبارها مركزًا يُخضع الأطراف، بل فضاءً تشاركيًّا يُعبّر عن التعدّد ولا يقمعه. السودان في حاجة إلى ما هو أكثر من وقف إطلاق نار، هو في حاجة إلى مصالحة مع نفسه، ومع تاريخه، ومع هامشه، ومع مواطنيه الذين صارت الدولة بالنسبة إليهم إما سلاحًا في وجوههم، أو ظلًّا بعيدًا لا يقي حرًّا ولا بردًا.
وإذا كانت الطائرات المسيّرة قد وصلت إلى بورتسودان، فذلك لا يُنبئ فقط بامتداد النيران إلى ما تبقّى من المركز، بل يُعيد طرح السؤال الأهم: هل ستبقى الدولة في السودان ككيان؟ أم سنُعيد تعريفها بوصفها جغرافيا متنازعة تحت إدارة سلطات متعددة، تحكم ولا تُمثّل، وتُسيطر ولا تُوحِّد؟
في الإجابة على هذا السؤال يتحدد مستقبل السودان، لا فقط كجمهورية، بل كفكرةٍ قابلة للاستمرار، أو ككِيانٍ يُعاد رسمه من الخارج، وباسم الداخل، في غياب صوت الداخل الحقيقي: الموطن والمواطن!
الوسومالإمارات الجيش الحرب الدعم السريع السودان الصوملة روسيا