معضلة الطاقة في أوروبا: وهْم الاستقلال عن الغاز الروسي
تاريخ النشر: 3rd, September 2024 GMT
في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، انتاب أوروبا شعور بالإلحاح على فطام نفسها عن النفط والغاز الروسيين، وصرخت العناوين الرئيسية بتحول وشيك في سياسات الطاقة، مع تصريحات جريئة من جانب الزعماء الأوروبيين حول الحد من الاعتماد على الطاقة الروسية بحلول عام 2027، ولكن بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات، أصبحت القصة أكثر تعقيدا.
إغراء الغاز الروسي: حقيقة مزعجة للولايات المتحدة وأوروبا
لعقود من الزمان، كان المحرك الاقتصادي لأوروبا يتغذى على النفط والغاز الروسيين. هناك سبب عملي لهذا الاعتماد، فالغاز الروسي، الذي يتم نقله مباشرة إلى قلب أوروبا من خلال شبكات واسعة مثل نورد ستريم، ليس ميسور التكلفة فحسب، بل إنه سهل بشكل لا يصدق. وقد أملَت الجغرافيا أن الغاز الروسي، الذي يتم نقله عبر خطوط الأنابيب الممتدة عبر القارة، يكلف أقل من الغاز الطبيعي المسال الذي يتم شحنه من شواطئ بعيدة. وكانت النهضة الصناعية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، مبنية بشكل كبير على هذا الأساس من الطاقة الرخيصة والموثوقة.
الحرب في أوكرانيا حطمت هذا الترتيب المريح، أو على الأقل الوهم باستدامته. وتعهدت أوروبا، مدفوعة من الولايات المتحدة، بالتحرر من قيود الطاقة الروسية. ولكن الواقع على الأرض يروي قصة مختلفة
ولكن الحرب في أوكرانيا حطمت هذا الترتيب المريح، أو على الأقل الوهم باستدامته. وتعهدت أوروبا، مدفوعة من الولايات المتحدة، بالتحرر من قيود الطاقة الروسية. ولكن الواقع على الأرض يروي قصة مختلفة.
سراب الاستقلال في مجال الطاقة: حلم أوروبي
هناك خلل أساسي في الحجة القائلة بأن أوروبا قادرة على استبدال الطاقة الروسية بسرعة، فأوروبا ليس لديها نظام أو سياسة طاقة موحدة، والاتحاد الأوروبي عبارة عن مجموعة من 27 دولة عضو، ولكل منها احتياجاتها الخاصة من الطاقة والبنية الأساسية والأولويات السياسية. إن فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من اللاعبين الرئيسيين يواجهون جميعا تحديات فريدة من نوعها ولا يسيرون في خطى متناغمة. إن هذا الافتقار إلى الوحدة ليس مجرد نزوة بيروقراطية، بل هو نقطة ضعف حرجة.
خذ فرنسا على سبيل المثال، فعلى الرغم من كونها مناصرة صريحة لخفض واردات الغاز الروسي، فإن واردات فرنسا من الغاز الطبيعي المسال الروسي تضاعفت في النصف الأول من هذا العام مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. وكما أفاد معهد انتقال الطاقة المتجددة وتتبع الطاقة، استوردت فرنسا حوالي 4.4 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال من روسيا خلال هذه الفترة.
إن حالة فرنسا توضح مشكلة أوروبية أوسع نطاقا وهي العقود القائمة وجمود عقود من الاعتماد. ولكن لماذا لا تستطيع أوروبا ببساطة أن تلجأ إلى موردين آخرين؟ الجواب أكثر تعقيدا مما يوحي به الخطاب، فمن الناحية النظرية، تستطيع أوروبا أن تزيد من وارداتها من الشرق الأوسط وأفريقيا والولايات المتحدة، ولكن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر الجيوسياسية والكوابيس اللوجستية.
على سبيل المثال، يتطلب تأمين الغاز الطبيعي المسال من الشرق الأوسط التنقل عبر شبكة معقدة من الصراعات الإقليمية والتحالفات السياسية. فقد استهدف الحوثيون في اليمن، الذين تحالفوا ضد المصالح الغربية المناصرة للإبادة الجماعية للكيان الصهيوني ضد شعب غزة، مؤخرا طرق الشحن، وقد جعلت هذه الحوادث من ضمان إمدادات الغاز الثابتة من الشرق الأوسط أمرا محفوفا بالمخاطر بشكل متزايد ومستحيلا تقريبا. إن فكرة أن أوروبا تستطيع ببساطة أن تتحول إلى الغاز من الشرق الأوسط تتجاهل الديناميكيات المتقلبة في المنطقة وضعف طرق الإمداد البحرية.
مع استمرار الصراع، أصبحت فعالية العقوبات موضع تساؤل متزايد، حيث جاءت العقوبات بمثابة نتائج عكسية بطرق غير متوقعة. فقد اضطرت أوروبا إلى مواجهة ضعفها في مجال الطاقة، وكانت العواقب غير المقصودة وخيمة، وهي ارتفاع أسعار الطاقة، والتضخم، والاضطرابات الاجتماعية في مدن أوروبية مختلفة
وماذا عن الغاز الطبيعي المسال الأمريكي؟ لقد زادت الولايات المتحدة من صادراتها إلى أوروبا، ولكن هذا الغاز الطبيعي المسال يأتي بسعر أعلى. إن عملية تسييل الغاز الطبيعي وشحنه وإعادة تحويله إلى غاز أكثر تكلفة بشكل ملحوظ من النقل المباشر نسبيا للغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب. وفي حين أن الولايات المتحدة حريصة على ملء الفراغ الذي خلفته روسيا، فإن التكاليف الأعلى تترجم في نهاية المطاف إلى ارتفاع أسعار الطاقة بالنسبة للمستهلكين والشركات الأوروبية، وهو أمر غير مستساغ سياسيا ومزعزع للاستقرار اقتصاديا.
معضلة العقوبات: أدوات غير فعّالة في عالم معقد
كانت العقوبات الاقتصادية هي الاستراتيجية التي لجأت إليها أوروبا لمعاقبة روسيا بحسب منظورهم، ولكن مع استمرار الصراع، أصبحت فعالية العقوبات موضع تساؤل متزايد، حيث جاءت العقوبات بمثابة نتائج عكسية بطرق غير متوقعة. فقد اضطرت أوروبا إلى مواجهة ضعفها في مجال الطاقة، وكانت العواقب غير المقصودة وخيمة، وهي ارتفاع أسعار الطاقة، والتضخم، والاضطرابات الاجتماعية في مدن أوروبية مختلفة.
هناك إدراك متزايد بين بعض القادة والمحللين الأوروبيين بأن سلاح العقوبات الاقتصادية قد يكون غير مباشر، وقد عفا عليه الزمن، بل وحتى غير منتج. ففي عالم معولم ومترابط، غالبا ما تكون آثار العقوبات منتشرة ومتأخرة ومخففة بسبب الشبكات المالية والتجارية الدولية المعقدة. إن الأمل في أن تعمل العقوبات كحل سحري كان دوما وهما أوروبيا وأمريكيا.
دعوة إلى البراغماتية: الحوار بدلا من العقوبات؟
في ظل المستنقع الحالي، تدعو مجموعة متنامية من الأصوات إلى نهج جديد، نهج لا يقوم على الحسابات الباردة للعقوبات، بل على المنطق الأكثر دفئا للحوار والتسوية. والفكرة ليست التخلي عن المبادئ، بل الاعتراف بحدود التدابير العقابية في عالم مترابط إلى حد كبير.
ثبت أن حلم الاستقلال السريع في مجال الطاقة عن روسيا أقرب إلى السراب منه إلى مسار واضح للمضي قدما. ورغم أن أهداف التنويع وتوسيع الطاقة المتجددة وإعادة التنظيم الجيوسياسي نبيلة وضرورية، فإنها لا بد أن ترتكز على حقائق اقتصادية وسياسية
ويزعم أنصار هذا النهج أن أوروبا لا بد أن تنخرط مع روسيا في حوار براغماتي، يركز على الحد من التهديدات الأمنية المتبادلة وإيجاد أرضية مشتركة. وهذه ليست دعوة ساذجة إلى الاسترضاء، بل تقييما واقعيا للمشهد الجيوسياسي. فروسيا تشكل واقعا جغرافيا واقتصاديا دائما بالنسبة لأوروبا، ويتعين على القارة أن تتعلم كيف تتعايش مع هذا الواقع، ليس من خلال المواجهة المستمرة، بل من خلال التعايش المنظم.
الطريق إلى الأمام: بين المثالية والواقعية
إن أوروبا تقف عند مفترق طرق، لقد ثبت أن حلم الاستقلال السريع في مجال الطاقة عن روسيا أقرب إلى السراب منه إلى مسار واضح للمضي قدما. ورغم أن أهداف التنويع وتوسيع الطاقة المتجددة وإعادة التنظيم الجيوسياسي نبيلة وضرورية، فإنها لا بد أن ترتكز على حقائق اقتصادية وسياسية.
إن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى استراتيجية أكثر دقة تعترف بحدود العقوبات، وتعقيدات أسواق الطاقة العالمية، وقيمة الحوار الاستراتيجي. لقد حان الوقت لكي تمزج أوروبا بين المثالية والواقعية، والرؤية والبراغماتية. إن الاستقلال في مجال الطاقة طموح جدير بالاهتمام، ولكنه يتطلب التخطيط الدقيق والاستثمار الكبير، والأهم من ذلك كله، يتطلب نهجا موحدا يتجاوز المصالح الوطنية والمكاسب السياسية القصيرة الأجل.
إن الوهم المتمثل في الاستغناء عن النفط والغاز الروسيين قد يظل مجرد وهْم؛ ما لم تواجه أوروبا تناقضاتها الخاصة وتتبنى استراتيجية أكثر توازنا وشاملا في مجال الطاقة والسياسة الخارجية. إن الرحلة إلى الاستقلال الحقيقي في مجال الطاقة أشبه بماراثون، وليس سباقا قصيرا، وقد حان الوقت لكي تستعد أوروبا للمسيرة الطويلة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه أوروبا الطاقة الغاز روسيا روسيا أوروبا الغاز الطاقة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الغاز الطبیعی المسال الولایات المتحدة من الشرق الأوسط الطاقة الروسیة فی مجال الطاقة الغاز الروسی
إقرأ أيضاً:
رسميًّا.. وزير الكهرباء: انضمام مصر لـأفق أوروبا خطوة فارقة نحو ريادة الطاقة الخضراء
قال الدكتور محمود عصمت، وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، إن انضمام مصر رسميًّا إلى برنامج "أفق أوروبا" يمثل نقلة نوعية في التعاون البحثي والعلمي مع الاتحاد الأوروبي.
جاء ذلك خلال كلمة الوزير، اليوم الأحد، في الجلسة الافتتاحية لأسبوع البحث والابتكار بين مصر والاتحاد الأوروبي.
وأضاف الوزير أن الدولة المصرية، تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، أولت قطاع الطاقة أولوية قصوى ضمن رؤية مصر 2030، موضحًا أن السنوات الماضية شهدت تنفيذ مشروعات عملاقة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، في إطار السعي إلى زيادة مساهمة الطاقة النظيفة في مزيج الكهرباء، وترسيخ مستقبل يعتمد على الاستدامة والتنوع والمرونة.
وأوضح عصمت أن التعاون المصري لا يتوقف عند حدودها الجغرافية، لافتًا إلى الانخراط في مشروعات الربط الكهربائي الإقليمي مع الأردن وليبيا والسودان، والربط المرتقب مع المملكة العربية السعودية، فضلًا عن الانتهاء من الدراسات الخاصة بالربط مع أوروبا عبر اليونان لتصدير 3000 ميجاوات من الطاقة المتجددة، وكذلك الربط مع إيطاليا، بما يعزز دور مصر كجسر للطاقة بين إفريقيا وأوروبا.
وذكر الوزير أن انضمام مصر لبرنامج "أفق أوروبا" يُعد محطة استراتيجية فارقة تعكس الثقة المتبادلة بين الجانبين المصري والأوروبي، وتؤكد مكانة مصر المتصاعدة كمركز إقليمي للعلوم والابتكار والطاقة المستدامة.
وتابع عصمت بأن الاستراتيجية الوطنية للطاقة تستهدف رفع نسبة الطاقة المتجددة إلى 42% من إجمالي مزيج الطاقة بحلول عام 2030، ثم إلى 65% بحلول 2040، مشيرًا إلى أن مصر نجحت في تهيئة مناخ استثماري جاذب لمشروعات الطاقة المتجددة عبر حزمة إصلاحات تشريعية وحوافز مهمة أبرزها عقود شراء طويلة الأجل وخفض الجمارك على مكونات الطاقة المتجددة.
وقال الوزير إن مصر اتخذت منذ عام 2014 خطوات قوية لتعظيم الاستفادة من مواردها المتجددة، حيث تم تخصيص أكثر من 42 ألف كم² لمشروعات الطاقة المتجددة، والسماح ببيع شهادات خفض الانبعاثات، إلى جانب خفض الرسوم الجمركية وتحرير سوق الكهرباء بما يتيح مشاركة قوية للقطاع الخاص.
وأشار عصمت إلى أن الوزارة تعمل حاليًا على تنفيذ خطة عاجلة لإضافة أكثر من 16 جيجاوات من الطاقة الشمسية والرياح، بالإضافة إلى 3000 ميجاوات ساعة من أنظمة تخزين الطاقة قبل عام 2030، مؤكدًا أن هذه الخطوة تُسهم في تخفيف الضغط على الوقود الأحفوري وتعزيز الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة.
وأفاد الوزير أن مصر تتعاون مع بيوت الخبرة الدولية لتقييم احتياجات الشبكة القومية واستيعاب القدرات المتزايدة للطاقة المتجددة، موضحًا أن برنامج "أفق أوروبا" يلعب دورًا محوريًا في دعم هذا المسار من خلال تبادل المعرفة، وتحفيز الابتكار، وبناء القدرات المصرية، وجذب الاستثمارات.
واختتم عصمت كلمته بالتأكيد أن مواجهة تحديات المناخ وأمن الطاقة تتطلب عملًا جماعيًّا، داعيًا الشركاء في مصر والاتحاد الأوروبي إلى تعظيم الاستفادة من البرنامج لتحويل الفرص إلى مشروعات ملموسة تدعم التنمية المستدامة، مشيرًا إلى أن الوزارة عينت نقطة اتصال دائمة للتنسيق مع "أفق أوروبا" لضمان مشاركة فعالة تعكس أولويات قطاع الكهرباء والطاقة في مصر.
اقرأ أيضًا:
انخفاض الحرارة ونشاط للرياح.. الأرصاد تعلن تفاصيل طقس الـ6 أيام المقبلة
خطوات قانونية جديدة للعمال لحماية حقوقهم من صاحب العمل
تسبب الوفاة.. تحذير مهم من الصحة بشأن حقن البرد
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
الدكتور محمود عصمت أفق أوروبا انضمام مصر لـأفق أوروبا الطاقة الخضراء أخبار ذات صلةفيديو قد يعجبك
محتوى مدفوع
أحدث الموضوعاتإعلان
أخبار
المزيدإعلان
رسميًّا.. وزير الكهرباء: انضمام مصر لـ"أفق أوروبا" خطوة فارقة نحو ريادة الطاقة الخضراء
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
من نحن اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
32 22 الرطوبة: 41% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي من نحن إتصل بنا إحجز إعلانك سياسة الخصوصية