بليغ حمدى الموسيقار المبهر
تاريخ النشر: 11th, September 2024 GMT
لا يصنع كل موسيقار فى سلم مجد الموسيقى كل شىء، وعلى هذا النهج ظهر الموسيقار بليغ حمدى من بعد ما ظهر موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وفنان الشعب سيد درويش، فأضاف إلى هذا السلم مجدا جديدا، من بين طرق بليغ حمدى فى مواصلة مجد الموسيقى أنه غاص فى عمق الشعبيات، فقدمها خيرا مما كانت عليه وأكثر جمالا وأعمق فنا، من نماذج تلك الأغنيات: «على حسب وداد، الحنة، ميتى أشوفك، طاب واستوى» ثم واصل بليغ تقديم شعبيات لا تعتمد على تيمة شعبية مألوفة ويعيد تقديمها بل كان يخلق التيم الشعبية الجديدة لتنضم منذ تلحينها وظهورها إلى قائمة الألحان الشعبية التراثية كأنها جزء من هذا التاريخ كنا نجهله، فقدم «عدوية» لمحمد رشدى و«مغرم صبابة» و«ع الرملة» و«طاير يا هوا» و«لو عديت» وقائمة أخرى كثيرة غناها المطرب الشعبى محمد رشدى.
وصارت روح الشعبيات تتغلغل حتى فى الأغنيات غير الشعبية بعدما لحن موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب أغنية «انت عمرى» لأم كلثوم والتى تجلت فيها بعض «كوبليهات» ومقاطع شعبية، فأعاد بليغ تقديم الكنز التراثى الشعبى المصرى وواصله فى ألحان جديدة فأثرى بذلك عالم الموسيقى والغناء، وجدير بالذكر أن نذكر هنا شهادة الملحن عبدالمقصود على عن الموسيقار بليغ حمدى وكان الفنان عبدالمقصود على أستاذا لبليغ حمدى فى بداية مشواره حيث كان بليغ عضوا فى فرقة الفنان عبدالمقصود فقال عنه: «بليغ نضج مبكرا بينما مازلت أذكر له أغنية «غريب الدار» أكثر أغنية كان يجيد غناءها ثم واصل وتقدم هذه شهادته وواصل بليغ مشواره مع التلحين بادئا بسيدة الغناء العربى أم كلثوم التى قدمه إليها الفنان محمد فوزى، فلحن لها أغنيته الأولى «حب إيه» ثم «أنساك» التى كان قد بدأها الموسيقار زكريا أحمد.
ثم واصل بليغ تلحينها فكان يرتفع باللحن كلما مرت الجمل الموسيقي وتعاقبت المقاطع اللحنية ولحن لها كذلك «سيرة الحب» و«ألف ليلة وليلة» و«فات المعاد» و«كل ليلة وكل يوم» و«الحب كله».. كما كانت لبليغ ألحان وأغانٍ اجتماعية وحكايات حب مع الطربة وردة التى لحن لها «ده كان، مالى، العيون السود، لو سألوك، اشترونى»، وكذلك الأمر مع المطربة نجاح التى لحن لها «الطير المسافر، ليلة من الليالى، فى وسط الطريق، أنا باستناك».
كما لحن لـ«العزبى» «بهية»، و«تتاقل بالمال» لسوزان عطية و«أنا م البلد دى» للمجموعة طارق فؤاد وأنغام ووائل سامى، فكانت نماذج من أفضل أعمالهم الغنائية.
وقدم «يا حبيبتى يا مصر، أحلى كلام» وأغانى «ريا وسكينة» لشادية و«قمر 14» لعايدة الشاعر، فلا يكاد يلحن حتى يبهر بألحانه وما كنا لنتصور ألحانه لعبدالحليم حافظ مثل «موعود، حاول تفتكرنى، جانا الهوى، تخونوه» وكان أول لقائهما لو لم يكونا قد التقيا فى ألحان.
فقد كان بليغ يمتلك جملا لحنية قادرة على جذب الجماهير وكان يقدم الأغنيات الدرامية الخالقة للشجن فى قلوب الجماهير مثل أغنياته لميادة الحناوى «الحب اللى كان» و«مش عوايدك» إلا أنه رحمه الله طارده الاكتئاب بسبب التغريب عن مصر وعلى حد وصف المطربة وردة له بعد عودته قائلة: «لقد عاد نصفه»، وما كاد يبتهج بعد تحسن حالته الصحية فى أيامه الأخيرة حتى انتكست بسبب خطأ فى الدواء لدى أطباء فى لندن.
رحم الله بليغ حمدى الذى أمتعنا وأهلنا بألحانه التى لا ينطفئ وهج جمالها.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: موسيقار الاجيال محمد عبدالوهاب عدوية بلیغ حمدى
إقرأ أيضاً:
"انبعاث الحرف".. تجربة الفنان محمد الصائغ
د.صبيح كلش **
حين وصلت إلى مدينة صور مطلع عام 2000 للقيام بمهمة تدريس الفنون "التعبيرية" في كلية التربية في صور، أثار انتباهي اسم تردد كثيرًا في الوسط الثقافي. لم يمض وقت طويل حتى التقيته هناك: الخطاط محمد الصائغ، فنان هادئ الطباع، مشغول بتجربة فنية مختلفة آنذاك، يغرف من معين الحرف العربي ويعيد تشكيله بلغة بصرية جميلة تثير الدهشة والأسئلة في آنٍ واحد.
ولد عام 1960 في مدينة صور، حمل معه منذ بداياته الفنية ذاكرة المدينة البحرية وتكوينها الثقافي الغني بالتراث العُماني الأصيل، لا سيما إرث الحرف العربي. غير أن ما يميز تجربته ليس مجرد الاستلهام من الخط العربي، بل قدرته على إدخاله في حوار مفتوح مع الفن التجريدي الحديث، ليغدو الحرف لديه كتلة مرئية نابضة لا نقرؤها فحسب، بل نشاهدها ونحسها ونتأملها.
من خلال زياراتي للمعارض السنوية للخط العربي التي تقيمها الجمعية العُمانية للفنون التشكيلية، لاحظت لوحات الصائغ وهو يعيد صياغة الحروف بطريقة تمنحها استقلالًا بصريًا، فهو لا يكتفي بالدلالة اللغوية، بل يتجاوزها إلى بُعد رمزي عميق. الحرف يتحول إلى بناء تشكيلي، والحركة التي هي جزء من قواعد الخط الكلاسيكي، تصبح في أعماله إيقاعًا داخليًا في اللوحة.
حسب متابعتي، أن الصائغ يميل إلى خط الثلث، لما فيه من جلال وانسيابية، لكنه لا يتردد في استخدام الخطوط الأخرى: الكوفي، الديواني، الجلي ديواني، وحتى خط التعليق، ليس استعراضًا لمهارته، بل محاولة لتطويع الخط في مساحة فيها توازن بين القواعد الأكاديمية والانفعال الحر.
سألته عن الحرف الألف، الذي يرد كثيرًا في تكوين لوحاته. أجابني بكل ثقة: إنه رمز للهيبة والقوة والسمو، أراه معبرًا عن الرجولة، يحمل صلابة السيف ورقة الروح.
هذه النظرة الرمزية تنعكس في العديد من أعماله التي تتخذ من الحرف بؤرة بصرية للانطلاق نحو مضمون أوسع، يتصل بالهوية والانتماء والتاريخ والموقف الإنساني.
في أعماله الأخيرة، بدا واضحًا انحيازه لقضايا الأمة، لكن بأسلوب بعيد عن الشعاراتية، ففي لوحاته عن "غزة" لا نرى مشهدًا صريحًا، بل تأويلًا بصريًا حادًا؛ حيث تتحول حروف مثل "الهاء والعين والواو والألف" إلى رموز لصوت الاحتجاج والفقد. اللوحة هنا تنبض بموقف وشعور إنساني عظيم.
ما يميز تجربة الصائغ هو قدرته على التجديد، فبرغم انشغاله الدائم والمتكرر بالحرف، لم تتشابه لوحاته، إذ يبتكر في كل مرة تكوينًا جديدًا للنص الواحد، مع الحفاظ على الخصوصية التعبيرية لكل عمل. كما أن الألوان في لوحاته، لا سيما الأزرق والأخضر، ليست مجرد تدرجات جمالية، بل عناصر دالة تنبع من ذاكرة بصرية إسلامية، يعيد توظيفها برؤية معاصرة.
أربعون عامًا من الممارسة لم تفقد الصائغ حماسته، ولا وضوح رؤيته. في كل لوحة له ثمة توازن دقيق بين الموروث والابتكار، بين الشكل والمعنى، بين الحرف واللون. وهنا، تتجلى خصوصيته بوصفه أحد أبرز الخطاطين التشكيليين المعاصرين في سلطنة عُمان والخليج.
إن تجربة محمد الصائغ تستحق أن تُدرس، كجهد فني يسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين النص البصري والهوية، في عالم تتآكل فيه الرموز ويشتد فيه البحث عن الثوابت.
** فنان وأكاديمي مقيم في مسقط