إشكالية الهوية الوطنية في الفلسفة المعاصرة تحتل مكانة مركزية في الفكر العربي في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم اليوم الهوية ليست مجرد مجموعة من القيم الثابتة التي تتوارثها الأجيال بل هي مفهوم ديناميكي يتفاعل مع السياق العالمي والتحولات الثقافية والاجتماعية لكن هذا التفاعل لا يعني دائما الانسياق الكامل وراء ما تمليه العولمة الثقافية من معايير وسلوكيات قد تتناقض مع خصوصيات المجتمعات

في ندوة نظمها منتدى الفكر والثقافة بالتنسيق مع مكتب الدكتور جمال سند السويدي نائب رئيس مجلس أمناء مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية والتي افتتحها الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش طُرحت إشكالية الهوية الوطنية في دولة الإمارات العربية من زاوية العلاقة بين خصوصية القيم المحلية وعالمية المعايير في ظل عالم يزداد فيه الطابع الكوني على كل جوانب الحياة من الاقتصاد إلى الثقافة والسلوك الاجتماعي.

الهوية الوطنية تواجه اليوم تحديات داخلية وخارجية من الداخل ثمة تغيرات اجتماعية كبيرة تمس القيم والأخلاق التقليدية التي كانت تشكل العصب المركزي للوعي الجمعي في المجتمعات العربية الإماراتية ومن الخارج هناك ضغط متزايد من قوى العولمة الاقتصادية التي لا تكتفي بتوحيد الأسواق بل تعمل أيضا على ترويج أنماط سلوكية وثقافية جديدة تختلف جذريا عن القيم المحلية هذه العولمة تترافق مع ما يمكن تسميته بـ”العربدة الأخلاقية” حيث يتم تقديم الشذوذ الجنسي والفردانية بوصفهما جزءا من الحرية الفردية التي يتعين على الجميع قبولها دون اعتراض.

لكن إشكالية الهوية الوطنية ليست مجرد صدام بين قيم الداخل وقيم الخارج بل هي صراع بين ثوابت محلية عريقة وقيم كونية تبدو لأول وهلة أنها إنسانية لكن عند التدقيق يظهر أنها تروج لمفهوم مادي للفرد يضعه في مواجهة مع الجماعة ويعزز النزعة الحيوانية في الإنسان على حساب كرامته العقلية والأخلاقية كيف يمكن للمجتمعات العربية التي تعتز بتقاليدها وتاريخها الطويل من القيم أن تواجه هذه التحديات وتحافظ على قواسمها المشتركة وذاكرتها الجماعية؟

الحفاظ على القيم الوطنية والإرث الثقافي في هذا السياق لا يعني الانغلاق أو رفض كل ما هو جديد بل يجب أن يكون هناك انفتاح واعٍ يعتمد على التمييز بين القيم التي تعزز من كرامة الإنسان وتلك التي تدفعه نحو التفسخ والانحلال الفردانية التي تروج لها العولمة قد تبدو جذابة من حيث المظهر لكنها في جوهرها تؤدي إلى تآكل روابط التضامن الاجتماعي الذي يشكل العمود الفقري لأي هوية وطنية هذه الفردانية تعزز من مفهوم الإنسان المستقل عن مجتمعه وعن القيم الأخلاقية التي توجه سلوكاته مما يفتح الباب أمام انهيار القيم الاجتماعية المشتركة التي ظلت لقرون تشكل أساس استقرار المجتمعات العربية.

في المقابل يأتي التحدي الأبرز في كيفية الحفاظ على هذا التوازن بين الأصالة والانفتاح بين الثوابت والمتغيرات فالقيم الوطنية الإماراتية المستمدة من الذاكرة الجماعية والإرث الحضاري ليست مجرد ماضٍ تليد نتمسك به بل هي قيم حية تسهم في تشكيل الحاضر والمستقبل لهذا المجتمع هذا الإرث ليس مجرد سرديات تاريخية بل هو قاعدة أساسية تساعد على مواجهة العولمة الثقافية والفكرية بشرط أن يتم التعامل معها بوعي وعقلانية.

إن الهوية الوطنية في الإمارات تقدم نموذجاً فريداً للتفاعل مع التحديات العالمية دون المساس بالثوابت الثقافية والاجتماعية فهي هوية قائمة على التسامح والانفتاح الإيجابي على العالم مع الحفاظ على القيم التي تجعل المجتمع الإماراتي متميزاً ومتماسكاً بين مكوناته المختلفة هذا النموذج يمثل حلاً عملياً لإشكالية الهوية في الفلسفة المعاصرة إذ يؤكد على إمكانية التعايش مع العالم المعاصر دون التخلي عن الخصوصيات الثقافية والتاريخية التي تشكل جوهر الهوية.

لكن الحفاظ على الهوية الوطنية لا يمكن أن يتحقق بمجرد الحديث عن القيم أو التمسك بالذاكرة التاريخية فقط بل يتطلب استراتيجيات شاملة تشمل التربية الوطنية وتعزيز الوعي الثقافي لدى الأجيال الجديدة التربية الوطنية التي تركز على القيم المشتركة والإرث التاريخي تسهم في بناء وعي وطني قوي قادر على مواجهة التحديات المستقبلية بما في ذلك العولمة الثقافية التي تعمل على تذويب الحدود بين الثقافات والأمم.

ختاما فإن إشكالية الهوية الوطنية في العالم العربي وفي الإمارات خصوصا تتطلب تعاملاً حكيماً يوازن بين الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والقيم المحلية وبين الانفتاح على المعايير العالمية التي تعلي من شأن الإنسان دون تدمير مقوماته الأخلاقية.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الهویة الوطنیة فی الحفاظ على

إقرأ أيضاً:

الجبهة الوطنية: الدول التي تسقط لا تنهض مجددا وتجربة مصر العمرانية هي الأنجح

أكد الدكتور عاصم الجزار، رئيس حزب الجبهة الوطنية أن استكمال المشروع الوطني للدولة المصرية، الذي انطلق تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ عشر سنوات، يمثل الضمانة الأساسية لاستمرار استقرار الدولة ومواجهة التحديات الخارجية والداخلية.

وأوضح الجزار خلال حواره مع الإعلامي نشأت الديهي ببرنامج بالورقة والقلم على قناة Ten  أن العبقرية السياسية للرئيس السيسي تمثلت في الحفاظ على الاتزان الاستراتيجي، من خلال تجنب الانزلاق في أي صراعات، والتركيز على تنمية الداخل المصري، مشيرًا إلى أن هذا الاتزان هو أحد عوامل النجاح الكبرى للمشروع الوطني.

حاتم باشات: الجبهة الوطنية دفع بكفاءات في انتخابات الشيوخ قادرة على التعبير عن تطلعات المواطنالسيد القصير: مرشحو الجبهة الوطنية للشيوخ يتمتعون بالكفاءة والجدارةموجز اخبار جنوب سيناء.. مبارك بتفقد محطة معالجة دهب.. والجبهة الوطنية يحث الناخبين على المشاركةشاهد .. المؤتمر الجماهيري بالغربية لدعم مرشحي الجبهة الوطنية بانتخابات الشيوخ 2025

ولفت الجزار الانتباه لما يحدث حولنا، تجارب الدول التي تسقط يصبح من الصعب عليها النهوض مجددا، خاصة إذا كانت دولة ذات كثافة سكانية كبيرة مثل مصر، وبما اتجهت له مصر من استكمال المشروع الوطني لم يكن فقط خيارًا تنمويًا، بل ضرورة وجودية لضمان الاستقرار..وأضاف الجزار: "نحن أمام إنجاز استثنائي بكل المقاييس..فتجربة مصر العمرانية الأنجح والأكبر ..منذ آلاف السنين كانت مصر تعيش على 7% فقط من إجمالي مساحتها، وحتى عام 2013 لم يتغير هذا الواقع، لكن خلال العشر سنوات الماضية، ومن خلال تنفيذ 15 منطقة تنمية عمرانية جديدة، نجحنا في رفع نسبة المساحة المعمورة إلى 13.7% بنهاية عام 2024، مقارنة بـ7% فقط قبل بدء المشروع".

وأشار إلى أن هذا التطور العمراني كان مخططًا له أن يتحقق في أفق زمني يصل إلى عام 2050، لكن ما تحقق خلال عشر سنوات فقط يُعادل ما كان مخططًا له في أربعة عقود، وبتكلفة إجمالية تجاوزت 10 تريليونات جنيه.. مشيرا إلى أننا لا نستطيع اختصار هذا التطور بوصفه توسع عمراني فقط، هذا ظلم لما تم على الأرض، بل هو إعادة صياغة لمفهوم التنمية الشاملة، حيث تضمنت هذه المناطق الجديدة مرافق حديثة، وشبكات طرق قوية، ومصادر طاقة ومياه، وقدرات إنتاجية عالية، وهو ما انعكس على تحسين جودة الحياة وفرص العمل والتنمية الاقتصادية، ولم يفت الجزار الحديث عن فلسفة الجمهورية الجديدة، موضحًا أنها لا تعني فقط إنشاء مناطق عمرانية جديدة، بل تشمل أيضًا تطوير العمران القائم، وإعادة بناء الدولة بمفهوم جديد يقوم على الكفاءة والعدالة والتنمية المستدامة.. وارساء "ثقافة العمران" التي ترتبط بالسلوك المجتمعي والاقتصادي والثقافي، وليست فقط بالبنية التحتية.

وختم الجزار تصريحه بالتأكيد على أن المشروع الوطني المصري هو مشروع تنموي شامل متعدد الأبعاد، يهدف إلى بناء مستقبل يليق بمصر وشعبها، ويحقق الاستقرار والتنمية للأجيال القادمة.

طباعة شارك حزب الجبهة الوطنية الدكتور عاصم الجزار الرئيس عبد الفتاح السيسي العبقرية السياسية

مقالات مشابهة

  • محافظ بني سويف يستعرض محاور الاستراتيجية الوطنية للسكان لتنفيذ رؤية مصر 2030
  • إعادة تأهيل مراكز الإبداع.. رؤية صندوق التنمية الثقافية لإحياء التراث وتمكين الأجيال الجديدة
  • «الأحوال المدنية»: يمكن الاحتفاظ ببطاقة الهوية الوطنية أو سجل الاسرة عند التعويض عنها
  • «ملكية مكة» تحفز العقول الوطنية تماشياً مع رؤية 2030
  • عاصم الجزار: الجبهة الوطنية يعكس الهوية المصرية ويدعو لتفعيل المشاركة السياسية الواعية
  • الجبهة الوطنية: الدول التي تسقط لا تنهض مجددا وتجربة مصر العمرانية هي الأنجح
  • الأحوال المدنية توضح قيمة غرامة انتهاء الهوية الوطنية وعدم تجديدها
  • محمد معيط: الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة من أكبر التحديات التي تواجه الدولة
  • معيط: الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة من أكبر التحديات التي تواجه الدولة المصرية
  • أبو العينين: حزب الجبهة الوطنية يتبنى رؤية متكاملة تتماشى مع مبادرات الرئيس السيسي