الثبات والصبر والبراجماتية.. واجب الوقت
تاريخ النشر: 13th, October 2024 GMT
استفاد الإعلام العربي المتصهين من الانتكاسات التي حدثت لحزب اللبناني الشهر الماضي، وأخذ في بث روح اليأس والانهزامية في نفوس الجمهور العربي، زاعما قدرة إسرائيل على الوصول إلى أي منطقة في الشرق الأوسط، مرددا مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي، ولم يخجل لأن تلك المقولة تؤكد عجز جيوش الدول الممولة لتلك الوسائل الإعلامية عن التصدي لإسرائيل، رغم ما تمتلكه من أسلحة وأفراد وما تحصل عليه من ميزانيات، كما يؤكد ذلك بنفس الوقت انبطاح تلك النظم والجيوش أمام جيش الاحتلال، وتماهيها مع العدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان.
وتوسعت تلك الوسائل الإعلامية الممولة من السعودية والإمارات وطوائف لبنانية إلى جانب قنوات خاصة مصرية، وما يسمون بالكُتّاب والمفكرين العرب المناصرين للتطبيع، ومعهم الذباب الإلكتروني التابع لأجهزة صهيونية وعربية، في بث الفتنة والشقاق بالطعن في إيران وفي حزب الله وقياداته، ولم تكترث -مثل النظم الممولة لها- باستمرار النزيف اللبناني والفلسطيني، واستمرار الحصار والمجاعة لسكان غزة، أملا في تحقق المسعى الإسرائيلي لإحداث الوقيعة بين سكان غزة والمقاومة، مع طول أمد الحرب وغياب الحديث عن مفاوضات لوقف إطلاق النار، وانشغال الإدارة الأمريكية بالاستعدادات للانتخابات الرئاسية ومواجهة خسائر إعصار فلوريدا.
لكن الصورة ليست قاتمة كما يروج هؤلاء، فقد مر عام كامل ولم تحقق إسرائيل أهدافها المُعلنة، في القضاء على المقاومة الفلسطينية أو تحرير أسراها، أو تهجير سكان غزة أو إعادة سكان مستوطنات غلاف غزة أو مستوطنات الشمال الإسرائيلي إليها، واتساقا مع الآية الكريمة "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فحال المقاومة اللبنانية في الشهر الحالي من حيث الطعنات التي وُجهت إليها، يختلف عما كان في الشهر السابق بالثبات أمام محاولات الغزو البري، والتخلي الجزئي عن قواعد الاشتباك ووصول صواريخها ومُسيّراتها إلى مدن إسرائيلية ما بين حيفا وطبريا وحتى تل أبيب.
تراجع النمو والسياحة والتجارة الإسرائيلية
وها هي عمليات المقاومة الفلسطينية في غزة مستمرة في إلحاق الخسائر بالعدو بالأفراد والمعدات، وما زالت حالة الاستنفار في الضفة الغربية مستمرة، وشهدنا عمليات في الداخل الإسرائيلي كان آخرها في حيفا وبئر سبع، وقامت إيران بإطلاق عشرات الصواريخ على قواعد عسكرية إسرائيلية، وما زالت عمليات الحوثيين والمقاومة العراقية مستمرة، فحتى وإن كانت قليلة الأثر الحربى إلا أن أثرها المعنوي على سكان إسرائيل كبير، بأثرها على مزاعم الأمن والأمان التي تتمتع بها إسرائيل، والتي يتم استخدامها لجذب مهاجرين جدد ومستثمرين أجانب، ورافق ذلك تراجع التصنيف الائتماني لإسرائيل من قبل وكالات التصنيف الرئيسية أكثر من مرة.
مع الأخذ في الاعتبار التكتم الإسرائيلي على أعداد الضحايا للعمليات العسكرية سواء في غزة أو لبنان، أو نتيجة صواريخ الحوثيين أو المقاومة العراقية أو الصواريخ الإيرانية، وترويج الإعلام الغربي للرواية الإسرائيلية عن الأحداث الحربية، لكن تراجع التجارة عبر ميناء إيلات بسبب عمليات الحوثيين شاهد عملي على تأثير العمليات، كما أن تراجع السياحة الواصلة لإسرائيل بنسب عالية شاهد آخر على غياب الأمان، كذلك تراجع التجارة الخارجية الإسرائيلية حسب البيانات الإسرائيلية وتراجع معدلات النمو وزيادة العجز بالموازنة.
ومن المهم سد بعض الثغرات التي ينفذ من خلالها الإعلام العربي المتصهين، وأبرزها قضية العلاقة بإيران بإعتبار أنها دولة لها أجندة خاصة وتتدخل لمساندة المقاومة لتحقيق مصالحها الذاتية، وهنا نتساءل: وهل هناك دولة كبرى أو إقليمية بالعالم تساعد غيرها دون أن ترتبط تلك المعونات بتحقيق مصالحها الذاتية؟ حيث ترتبط جميع أنواع المعونات التي تقدمها الدول الغربية لدول العالم بلا استثناء بتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والحربية، حتى الصين وروسيا وغيرها لا تقدم أية معونات غير مرتبطة بتحقيق مصالحها بالدولة متلقية للمعونات أيا كان نوعها؛ إنسانية أو طبية أو غذائية أو مالية أو فنية أو حربية.
ولدينا بالفقه مبدأ الضرورات تبيح المحظورات، من خلال الآية الكريمة "وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه" (الأنعام: 119)، والآية "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" (البقرة: 173).
فقه الضرورة وسد باب الفتن
ومن هنا يجب التعامل مع الواقع العملي سواء كان من جانب إيران أو غيرها، حيث ألجأت الضرورة حركتي حماس والجهاد لقبول العون من إيران وهما تدركان مصالحها، ونفس الأمر ينطبق على قبول حماس مساعدات من النظام السورى رغم ما تعرفه عما ألحقه بالشعب السورى من مجازر وإبادة، بدافع الاضطرار والحاجة، في ظل امتناع غالبية الدول العربية والإسلامية عن مساعدتها، إن لم يكن كثير منها تنسق مع إسرائيل والدول الغربية للقضاء عليها. وهكذا سعت حماس للحصول على أسلحة روسية وهي تدرك مطامع روسيا في المنطقة وعلاقتها الوثيقة بإسرائيل والمجازر التي ارتكبتها في سوريا ضد الشعب السوري وأهدافها في طول أمد الحرب في غزة، لصرف التركيز الدولي على حربها في أوكرانيا.
وقبلت حماس دعوة الصين للصلح بين الفصائل الفلسطينية، وهي تدرك مصالح الصين في استمرار الحرب في غزة، سعيا لتوريط الولايات المتحدة بالانغماس بشكل أكبر فيها، بما يقلل من تركيزها على الخلافات مع الصين سواء حول تايوان أو الحرب التجارية، وما تقوم به من عنف تجاه مسلمي الإيغور.
كما أن حماس منفتحة للحوار مع السلطة الفلسطينية رغم التنسيق الأمني للسلطة مع إسرائيل، ورغم طعنها للمقاومة أكثر من مرة وعدم الثقة في نواياها تجاه حماس.
بل إن حماس تتعامل مع النظام المصري خلال مفاوضات السعي لوقف إطلاق النار، وهي تعلم كراهية النظام المصري لها وتنسيقه مع إسرائيل للقضاء عليها، لكنها مضطرة للتعامل معه لحاجتها لاحتمال سماحه بدخول بعض المساعدات الإنسانية والغذائية أحيانا، لتخفيف المعاناة عن شعبها، واحتمال سماحه بخروج بعض الجرحى والمرضى للعلاج في الخارج عبر منفذ رفح أحيانا.
وهكذا يمكن انطباق تلك المواقف البراجماتية في التعامل مع كل من إيران وحزب الله والحوثيين والمقاومة العراقية، وإغلاق باب الفتنه بين السنة والشيعة التي تثيرها الجهات الغربية والصهيونية والعربية المتصهينة بلا كلل، طالما أن هناك معركة مستمرة وعدو مشترك يسعى للقضاء على الجميع، مدعوم حربيا وماليا وسياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا ومخابراتيا من قبل الدول الغربية، التي تحرص على تفوقه عسكريا على القدرات العسكرية لأية دولة عربية.
وكان من أبرز نتائج طوفان الأقصى والعدوان الحالي على لبنان، وضوح مدى الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل، وانقسام الأنظمة العربية ما بين متواطئ ضد المقاومة أو متخاذل عن أداء أي دور ولو بتقديم الغذاء والدواء، والدور الشكلي للمنظمات والمحاكم الدولية، والانحياز الإعلامي الغربي، وصمت منظمات حقوق الإنسان عن عمليات الإبادة الجماعية، بل وتمرير الدول الغربية الاعتداء الإسرائيلي على قوات اليونيفيل في لبنان طالما أن الجنديين الجريحين من إندونيسيا المسلمة.
تسلط الأنظمة العربية لا يبرر التقاعس
لكن كل ذلك لا يعني اليأس والقنوط، فكل تلك المواقف الغربية المنحازة والمتواطئة كانت موجودة منذ سنوات طويلة، لكننا كنا نتغاضى عنها ونخدع أنفسنا بدعاوى الصداقة والمصالح المشتركة، وهذه المواقف العربية المتواطئة والمتخاذلة موجودة منذ سنوات طويلة لكننا كنا نتعلق بسراب المساندة العربية، مما يعني أهمية حساب الأمور حسب حقيقتها مهما كانت مؤلمة وفاضحة، وهي الحقائق التي كانت حماس والمقاومة تدركها ورغم ذلك قامت بطوفان الأقصى.
لذا تصبح مهمة الأفراد والتجمعات العربية التركيز على اتخاذ المواقف العملية لمساندة المقاومة، والتي تعني في نفس الوقت الحفاظ على مصالح شعوبها أيضا، ومن ذلك كشف وفضح دسائس الصهاينة العرب حكاما وإعلاما وكتابا ومدونين، والاستمرار في مقاطعة سلع وخدمات الشركات الدولية المؤيدة لإسرائيل، والذي من شأنه كحد أدنى ترسيخ ثقافة المقاطعة والتربية الفردية عليها كإحدى وسائل المقاومة.
كذلك السعي لإيصال المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة المحاصرين بكل الوسائل بما فيها التهريب، والسعي لتغيير النظم الحاكمة الساعية لتقزيم بلداننا لصالح إسرائيل، ونشر الثقافة الإلكترونية والتكنولوجية التي تقلل من مخاطر استخدام أجهزة الاتصالات، وتوجيه الكوادر إلى التفوق في المجالات التكنولوجية المتقدمة باعتبارها وسيلة الصراع المستقبلي، دون أن نبرر تقاعسنا بسطوة النظم الديكتاتورية العميلة وبغياب الحريات وانتشار الفقر والبطالة والغلاء والحروب الأهلية في بلادنا، وإدراك أن الصراع طويل وممتد ومن الطبيعي أن يشهد مساره بعض الإخفاقات والانكسارات.
لكن ذلك لا يثنينا عن الثبات والصبر والأمل، وأن ما لا نستطيع الوصول إليه بالضربة القاضية يمكن الوصول إليه عبر الفوز بالنقاط، من خلال استنزاف العدو وفضحه وزيادة عوامل تفككه، ورفع معدلات الهجرة العكسية مع استمرار حالة الحرب التي لا يستطيع العيش فيها لمدد طويلة، لتكون إسرائيل بلدا طاردا، وأنه إذا لم نشهد تحقق النصر في حياتنا، نكون قد بذلنا ما في وسعنا من أجل القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى ومن أجل بلادنا المستهدفة جميعا من قبل الاستراتيجية الإسرائيلية للمنطقة، ليكون ذلك الثبات والصمود والأفعال شاهدا لنا أمام الله وأمام أنفسنا وميراثا نورثه للأجيال القادمة.
x.com/mamdouh_alwaly
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه اللبناني إسرائيل غزة المقاومة لبنان إسرائيل غزة المقاومة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة تكنولوجيا رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدول الغربیة سکان غزة فی غزة
إقرأ أيضاً:
بي-2 سبيريت.. الطائرة التي تريدها إسرائيل لتدمير منشأة فوردو النووية
في الوقت الذي تدور فيه رحى الحرب بين إسرائيل وإيران، تعود الأنظار مجددًا نحو القدرات العسكرية الأميركية باعتبارها أحد العوامل الحاسمة في هذه المواجهة، خاصة مع تصريحات إسرائيلية تؤكد الحاجة المُلحّة إلى الدعم العسكري الأميركي لضرب منشأة فوردو النووية الشديدة التحصين.
تعوّل إسرائيل كثيرا على دخول الولايات المتحدة الأميركية في الحرب التي تشنها على إيران، نظرًا لعجزها عن استهداف منشأة فوردو النووية الواقعة جنوب طهران نظرا لتحصينها الشديد. إذ يتطلب تدمير هذه المنشأة تحديدًا استخدام قاذفات إستراتيجية وقنابل خارقة للتحصينات لا تملكها إلا الولايات المتحدة حاليا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2غموض "إف-35".. هل أسقطتها الدفاعات الجوية الإيرانية حقا؟list 2 of 2هل يحلق صائد الطائرات الصيني في سماوات إيران قريبا؟end of listونقل موقع أكسيوس عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والقيادة العسكرية الإسرائيلية يعتقدون أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد يتخذ قرارًا بالتدخل العسكري المباشر لدعم إسرائيل وقصف منشأة فوردو.
ولو حدث ذلك السيناريو، فستبرز في القلب منه القاذفة الأميركية "بي-2 سبيريت" (B-2 Spirit) التي تمتلك مواصفات تقنية تجعلها الوحيدة تقريبًا القادرة على تنفيذ مثل هذه المهمة المعقدة. لكن ما الذي يجعل منشأة فوردو هدفًا استثنائيا، ولماذا تعجز إسرائيل عن مواجهتها بمفردها؟
بي2- سبيريت.. الطائرة التي تستطيعلفهم عمق الأمر، سنتعرف بداية إلى الطبيعة الخاصة جدا لهذه النوعية من الطائرات المسماة بي-2 سبيريت والتي كثر الحديث عنها مؤخرًا ورُبطت بمنشأة فوردو تحديدا.
فالقاذفات نوع من الطائرات المصممة خصيصًا لمهاجمة الأهداف البرية والبحرية بإسقاط القنابل أو إطلاق الصواريخ، وتتخصص بشكل أساسي في مهام القصف الإستراتيجي (ضمن مهام أخرى)، أي استهداف البنية التحتية، أو المراكز الصناعية، أو خطوط الإمداد، أو الأصول الأخرى ذات القيمة العالية بهدف إضعاف قوة العدو وتقويض قدراته الأساسية.
إعلانوبشكل خاص، تمتاز "بي-2" بقدرتها على حمل أسلحة ضخمة مثل القنابل الخارقة للتحصينات (جي بي يو-57) والأسلحة النووية، وذلك ما يجعلها عنصرًا أساسيا في عمليات الردع الإستراتيجي. هذه العمليات تتطلب مهام طويلة المدى بعيدًا عن قواعد الانطلاق وبتخفٍّ تام عن رادارات العدو.
ويفهم مما سبق أن هذه النوعية من العمليات غالبًا ما تنطوي على مهام بعيدة المدى في عمق أراضي الخصم المستهدف، ولتحقيق هذا الغرض يجب أن تكون هذه القاذفات قادرة على السفر لمسافات طويلة من دون رصدها تحت أي ظرف.
ورغم أن قاذفة إستراتيجية أخرى هي "بي ـ 52" قادرة على حمل مثل هذه القنابل الضخمة، فإنها ليست مؤهلة للقيام بالعمليات التشغيلية من هذا النوع، إذ إنها لا تتمكن من فرض التفوق الجوي والمناورة والتخفي من الرادارات، ولذلك فهي بحاجة لوجود طائرات أخرى للحماية.
في الحرب الباردة كانت القاذفات، مثل "بي-52″ الأميركية، جزءا رئيسيا من إستراتيجيات الردع النووي، إلا أن الولايات المتحدة احتاجت إلى قاذفة قادرة على اختراق الدفاعات الجوية السوفياتية من دون أن يتم كشفها بسبب التقدم الكبير في تقنيات الرادار، مما جعل القاذفات التقليدية أكثر عرضة للخطر.
بحلول منتصف السبعينيات، ابتكر مصممو الطائرات العسكرية طريقة جديدة لتجنب الصواريخ الاعتراضية، والمعروفة اليوم باسم "التخفي".
وفي عام 1974، طلبت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة "داربا" معلومات من شركات الطيران الأميركية عن أكبر مقطع عرضي لطائرة تكون غير مرئية فعليا للرادارات.
وإثر ذلك، وفي عام 1979، أطلقت القوات الجوية الأميركية برنامجا لقاذفة متطورة تكنولوجيا يتركز على قدرات التخفي، وفي عام 1981 فازت شركتا نورثروب وبوينغ بعقد تطوير القاذفة الشبحية الجديدة بموجب "مشروع سي جي سينيور"، وبحلول عام 1988 كشف النقاب رسميا عن القاذفة "بي-2 سبيريت" للجمهور.
في الأصل، خططت الولايات المتحدة للحصول على 132 قاذفة من طراز "بي 2″، ولكن بسبب التكاليف المرتفعة تم تخفيض العدد إلى 21 طائرة فقط، حيث قُدِّرت التكلفة الإجمالية لكل طائرة -بما يشمل الصيانة والتطوير- بنحو 2.1 مليار دولار، مما يجعلها واحدة من أغلى الطائرات العسكرية التي بنيت على الإطلاق.
وفي 17 يوليو/تموز 1989 قامت قاذفة "بي-2 سبيريت" بأول رحلة لها من مصنع القوات الجوية 42 في كاليفورنيا، ومنذ ذلك الحين بات ينظر إلى القاذفة الشبحية الأميركية على أنها القاذفة الإستراتيجية الأكثر تقدمًا في العالم، بسبب قدرتها الفائقة على التخفي.
وتعزى هذه القدرة بالأساس إلى تصميم جناح الطائرة القادر على الإفلات من الرصد الراداري، فضلا عن كونها مطلية بمواد تمتص أشعة الرادار، وتمتلك قدرات على قمع الأشعة تحت الحمراء (بصمتُها الحرارية منخفضة)، كما تعمل أنظمة التشويش المتقدمة الخاصة بها على تعطيل رادار الخصم وأنظمة اتصالاته.
ووفقًا لسلاح الجو الأميركي، يوجد 19 قاذفة بي-2 عاملة، يمكنها أن تحلق بسرعات دون سرعة الصوت، لكنها قادرة على التزود بالوقود جوًا، وذلك ما يسمح لها بالطيران لمسافات طويلة للغاية.
إعلانوخلال حرب كوسوفو في أواخر التسعينيات، حلّقت طائرات بي-2 ذهابًا وإيابًا من قاعدتها في قاعدة وايتمان الجوية بولاية ميسوري لضرب أهداف، وفي عام 2017 حلّقت طائرتان من طراز بي-2 لمدة 34 ساعة للوصول إلى ليبيا، ويجري ذلك أيضا على عمليات في العراق (2003)، وأفغانستان (2001-2021)، وسوريا (2017)، وصولا إلى العمليات الأميركية الأخيرة في اليمن.
وهي الطائرة التي يعود ذكرها للضوء على إثر ما يرشح من تصريحات من أن ضرب منشآت إيران النووية المحصنة لا يمكن أن يتم إلا عبر الترسانة الأميركية، وعلى رأسها قاذفة بي -2.
تحصينات منشأة فوردوإذا ما تحدثنا عن استهداف منشأة "فوردو" النووية الإيرانية، والتي تعد واحدة من أكثر المنشآت تحصينًا في العالم، يبدو أنه لا مناص من استخدام هذه القاذفة إذا أرادت إسرائيل ومن ورائها أميركا السير في خطة تدمير المنشآت النووية الإيرانية.
منشأة فودو هذه، صُمّمت خصيصًا لتكون قادرة على الصمود أمام الضربات الجوية وحتى بعض الهجمات النووية التكتيكية، أي تلك التي تستخدم أسلحة نووية صغيرة ذات أثر محدود.
تقع "فوردو" على بُعد نحو 95 كيلومترا جنوب غرب العاصمة طهران، وقد شُيّدت داخل مجمع أنفاق تحت جبل يبعد حوالي 32 كيلومترا شمال شرق مدينة قُم، ويقدر أن عمق المنشأة عن سطح الأرض يصل إلى 80 أو 90 مترًا، بهدف واحد وهو حماية المنشأة من القنابل الخارقة للتحصينات.
المنشأة محاطة بطبقات من الصخور الجبلية الطبيعية والخرسانة المسلحة العالية الكثافة، مع جدران فولاذية أو دروع معدنية داخلية، وتصميم داخلي يمثل "متاهة"، ليعقّد الاختراق، ويحد من تأثير الانفجارات.
كذلك فإن هناك دفاعات جوية متعددة تحيط بالمنشأة، منها بطاريات صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى وأنظمة تشويش إلكتروني لمنع استهداف دقيق، مع كاميرات حرارية، وأجهزة استشعار، وحراسة دائمة.
وتتألف المنشأة، بحسب بيانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من قاعتين مخصصتين لتخصيب اليورانيوم، وقد صممت لاستيعاب 16 سلسلة من أجهزة الطرد المركزي الغازي من طراز "آي آر-1" (IR-1)، موزعة بالتساوي بين وحدتين، بإجمالي يبلغ نحو 3 آلاف جهاز طرد مركزي.
قنبلة واحدة فقطوحسب المعلومات المتاحة، لا توجد سوى قنبلة واحدة يحتمل أن تصل إلى هذا العمق قد تستخدمها إسرائيل لضرب منشآت مثل فوردو ونطنز النوويتين، وهي القنبلة الأميركية "جي بي يو-57 إيه بي".
وتُعرف هذه القنبلة أيضا باسم القنبلة الخارقة للدروع الضخمة (إم أو بي)، وهي قنبلة تقليدية موجهة بدقة لتدمير الأهداف المدفونة والمحصنة على عمق كبير، مثل المنشآت والمخابئ تحت الأرض، وهي تزن نحو 13-14 طنا، ويبلغ طولها 6 أمتار.
هذه القنبلة قادرة على اختراق ما يصل إلى 61 مترا من الخرسانة المسلحة أو ما يصل إلى 12 مترا من الصخور الصلبة، ولا يمكن حملها بواسطة الطائرات المقاتلة الأميركية العادية، بل تحتاج لقاذفة الشبح الأميركية "بي 2 سبيريت" التي تشغَّل بواسطة القوات الجوية الأميركية.
ويتطلب الأمر، لتنفيذ مهمة كهذه، أن يحلّق عدد من طائرات بي-سبيريت، لتبدأ أولا حرب إلكترونية متخصصة، مهمتها تشويش أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية على نطاق واسع، وعزل المنطقة المستهدفة عن أي اتصالات خارجية.
ومع الوصول إلى منطقة الهدف فوق جبل فوردو، تبدأ أنظمة الاستهداف العالية الدقة على متن الطائرات بتحديد الموقع الدقيق للمنشأة تحت الأرض، ثم تطلق القنابل، لكن الأمر أعقد من مجرد الحاجة لقنبلة واحدة، إذ يتطلب ضربات متتالية على النقطة نفسها، ربما تبدأ بقنابل أخرى غير جي بي يو-57 إيه بي، لإحداث صدمة أولية أو لإزالة الطبقات السطحية من الصخور التي قد تعيق الاختراق الأعمق، أو حتى لاختبار استجابة الدفاعات المتبقية التي لم يتم تشويشها بالكامل، ثم تطلق القنابل الرئيسية بعد ذلك.
إعلانعند الاصطدام، تخترق كل قنبلة طبقات صلبة من الصخور والخرسانة المسلحة، معتمدة على طاقتها الحركية الهائلة، قد تُطلق قنابل متتالية على النقطة نفسها لتعميق الاختراق، أو على نقاط مختلفة لتوسيع دائرة التدمير. وبعد اختراق عشرات الأمتار في عمق الأرض، تنفجر الشحنة المتفجرة داخل القنبلة بقوة هائلة، مُحدثة موجة صدمية تدمر البنية الداخلية للمنشأة.
وحتى في هذه الحالة، فالهدف ليس فقط تدمير المفاعل نفسه، بل شلّ أنظمة الدعم الحيوية مثل غرف التحكم وأنظمة التبريد ومخازن الوقود.
عائق أعمقيفسر ما سبق حاجة إسرائيل الشديدة للقاذفة الأميركية وقنبلتها الضخمة. وبحسب صحيفة واشنطن بوست، فإن "المنشآت النووية الإيرانية لم تتعرض لأضرار لا يمكن إصلاحها في الموجتين الأوليين من الهجمات الإسرائيلية"، وبنت الصحيفة ذلك الاستنتاج على التصريحات الصادرة عن البلدين فضلًا عن مقاطع الفيديو والصور للمواقع المتضررة.
وتوضح الصحيفة أنه يبدو أن إسرائيل شنت هجومًا قرب فوردو، لكنها لم تُصب المنشأة تحت الأرض نفسها. وبحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية وخبراء في مجال حظر الانتشار النووي فإن الضربات على نطنز، موقع التخصيب الرئيسي الآخر في إيران، قد دمرت منشآت عدة وألحقت أضرارًا بالنظام الكهربائي.
وأوضح المحللون الذين اطلعوا على صور الأقمار الصناعية في البداية أن معدات التخصيب تحت الأرض في نطنز لم تتضرر على الرغم من وجود آثار مباشرة على قاعات التخصيب تحت الأرض في نطنز.
ولكن حتى إن نجحت إسرائيل في الحصول على الدعم الأميركي وتنفيذ ضربات كهذه، فإن الأمر يظل أعقد مما قد يتصور.
ورغم أن إسرائيل استطاعت عبر العقود الماضية تنفيذ ما يُعرف "بعقيدة بيغن" التي تقوم على توجيه ضربات استباقية لمنع خصومها في المنطقة من امتلاك قدرات نووية، كما حدث عند تدمير مفاعل تموز العراقي عام 1981، ومنشأة الكبر السورية عام 2007، فإن الملف الإيراني يطرح تحديات من نوع مختلف تمامًا.
فالمنشآت المستهدفة من قبل كانت منفردة وظاهرة ولا تزال في مراحل مبكرة من التشييد، مما جعل ضربها ممكنًا وفعالًا.
لذلك يمثل استهداف منشأة فوردو تحديًا مختلفًا عما واجهته إسرائيل سابقًا. فالبرنامج النووي الإيراني موزع على مواقع متعددة ومحمي جيدًا تحت الأرض، كما أنه مدعوم بخبرات تقنية وعلمية راسخة، وذلك ما يجعل القضاء عليه بالكامل من خلال ضربات جوية أمرًا معقدًا للغاية.
وحتى إن نجحت الضربات الجوية، فإن إيران تملك القدرة العلمية والفنية على إعادة بناء منشآتها، وذلك ما دفع إسرائيل إلى محاولة استهداف العلماء الإيرانيين في محاولة لإبطاء البرنامج النووي. ومع ذلك، فإن هذا النهج أيضًا محدود الفاعلية نظرًا لاستناد البرنامج إلى بنية مؤسساتية وعلمية عميقة، وليس إلى أفراد فقط يمكن استبدالهم بسهولة.
في النهاية، يظل الملف النووي الإيراني أكثر تعقيدًا من مجرد استهداف منشآت مادية، إذ يتعلق الأمر بمنع دولة لديها المعرفة العلمية والإرادة السياسية من استئناف نشاطاتها، وذلك ما يجعل التعامل الناجح معه بعيدًا كل البعد عن مجرد حل عسكري سريع.