لا يؤدي تفسير النتائج إلى بديهيات في العادة، فالممكن لأي عملية بحثية أن تتجه تحت ضغط فرضياتها إلى اصطناع نتائج تتباين بسبب من الطبيعة المنهجية التي تتم بها معالجة عمليات البحث في العلوم الإنسانية، ولذا فإن محاولتنا القيام بتحليل وظائف البنى الاجتماعية ينبغي أن تتجه بالدرس أولا إلى اختبار الفرضيات ذاتها، قبل القبول بهيمنتها وادعائها الاستقلالية كونها تصور لنا فقط الجانب النظري المجرد من القضية، وفي ذلك باتت العلوم الإنسانية تميل أكثر إلى مضاعفة عمليات الاستقراء حول الموضوع قبل الاستسلام للمنهج، وفي مقالنا هذا نريد أن نختبر فرضية تكامل حضورها في مقولات عابرة للوعي، وهي مقولات تنتشر بصورة واسعة داخل أطر النظر الفكري في الدرس الاجتماعي العربي، وهي مقولة: «الطائفية» وكأننا هنا أمام مفهوم مستقل تَكْوُن عبر استعارات منظمة ما سمح له في النهاية أن يملك تعريفه الخاص، وهنا مكمن الأذى.

. كيف؟ لنرى...

إنه ليس من الممكن إنكار حضور الأذى من الطائفية في المجتمعات العربية، ولكننا واقعون في خطأ محاكمتها مسقطين عليها جملة من الاتهامات فقط لأنها ظلت تملك فاعليتها الخاصة وبالتالي تؤدي وظائف متعددة وبعضها قد لا يكون ضمن نطاق دورها، لكننا وحين نُفَعِل عمليات التجريم نرتكب خطأ فادحا، ذلك أننا نعتقد بامتلاك الحق في مساءلة أي بنية اجتماعية فقط كونها حاضرة وفاعلة، ونحن غير مبالين بالنظر أعمق للأسباب التي تجعل من بنية موصوفة بالتقليدية تعيش حيوات مستمرة في ظل حداثة مزعومة نقول بحضورها في الفضاءات المتعددة، والذي يغيب حقا هو أننا لا نعرف أن سلاسل التَخْلُق في الواقع الاجتماعي هي بمثابة صيغ رياضية تصدر نتائجها حسب العلاقات القياسية التي تقوم بين أطرافها، وهنا فإن بقاء هيئة أو مؤسسة اجتماعية حية ومتوفرة على الفعل لهو نتاج طبيعي لإخماد نشاط المتغيرات، وتَعَطُل قواعد العلاقات المنتجة للفعل، فهل نحاسب الطائفية على غشيانها دُور ليست من ضمن شغلها؟ أم ننظر أكثر في الأسباب التي تمدها بأسباب للحياة رغم زعومنا المتكاثرة أننا مجتمعات أصابت قدرا من الحداثة وتخلصت من التقليدية التي تجعلنا نعيش الماضي في الحاضر؟ والحقيقة أن المجتمعات التي تعجز عن فهم طبائع علاقاتها هي الأكثر عرضة للإصابة بالتفكك نظرا لغياب حساسية التفسير وانغماس فاعليها في التفسير لا التحليل، ما أقعدهم عن تحديث الواقع ومواجهة مشكلاته.

إن الطريقة التي يعرضها الباحث الاجتماعي في وصم المجتمع أنه لم ينجو بعد من تراثه، لهي طريقة تعاني من عمليات تمثيل مؤسلبة لا تملك إلا التعييب والإشارة فاقدة الحيوية، لأنه ليس مطلوبا من عالم الاجتماع أن ينكب على الوصفية كحالة علمية للفهم، فهذا دور فضائحي في أغلبه ولا ينتج شيئا في الواقع، إن المهمة الرئيسة له أن يكون قادرا على استكناه الحادثة في معرض بحثه لا أن يجعل منها برادايما محصنا من التجريب، إن دوره القيام بتفكيك التجربة لصالح تخليصها من طقسها الذي يمارس سلطانه على التفكير للدرجة التي أحالت الفاعل الاجتماعي إلى مجرد مُعَرِف بالحالة لا محللا لها وناقدا لتهافتها، ومن ذلك أيضا ما ذكرنا من التضحية بالمفهوم لأجل الموضوع، وقولنا بأن الأزمة الاجتماعية في الوطن العربي تعود لتسيُّد أنماط متخلفة من العلاقات على الظاهرة ما أقعد بها وعَطَّل فيها إمكانية التحديث والعصرنة، إن الأمر ليس بهذا التبسيط، فما يجري هو تقصير ظل الوعي بجعل البحث ليس سوى مظهر لطقس أكاديمي يفرض نفسه على الفضاء الإنساني دون أن يعترف بقصوره الذاتي، ودونك غياب فاعلية الكليات والأقسام الجامعية عن الإدلاء بقول فصيح في الواقع والاكتفاء ببناء تجسيدات مثالية مفارقة ولا تملك سوى وضع علامات مؤقتة في طريق البحث ليست بذي فائدة مرجو منها القيام بإصلاح الواقع والتمهيد لتطويره.

إن ما نلحظه من غياب البحث في الواقع بالذات المتصل بالعلوم النفسية والاجتماعية والاقتصادية يعود إلى تجنب بناء مناهج من داخل الظاهرة وليس من أعلى، وهذا ما جعل الكثير من التحليلات المقدمة ناحية فهم الإنسان في واقعنا العربي ليست إلا رسوما كاريكاتورية عن الحقيقة، وأقوال المتمدرسة من أكاديميينا ما هي إلا خيارات نرجسية لا تتصل بالواقع، ولأن موضوعتنا تتعلق بإدانة الطائفية كونها تتصرف في الفرد وتعيد تشكيل دوره بطريقة لا تسمح لإرادته الفردية بالاستقلال فعلا، وهي إن فعلت ذلك فإنها غيبت عنه حق الاختيار، وسجته كالميت بين يدي غاسله كما في مقولة الإمام الغزالي، ونقطتنا هي أن النقد الموجه لأي شكل تقليدي في المجتمع هو نقد لا يتجاوز التعريف الكلاسيكي لمعنى النقد في القاموس العربي، أي أنه عملية تمييزية فقط وليست معرفية، ومن هنا فدعوتنا أن يتأسس بحث اجتماع عملي لا يشغله التعميم عبر تعريف القضية والسكوت عن شراكات أخرى تسهم في بنائها، ولذا فإن نقد التقليدية في السياق الاجتماعي وتحميل أفراد المجتمع مسؤولية تراجع التطور في البنية العامة فإنه لأمر لا يعدو كونه تعطيل ممنهج للتطور ذاته، بسبب الطَرْق المستمر على الأزمة لا البحث في أفق الحل واستنجاح التجارب عبر الفحص المدروس والمستمر للوعي ووظائفه. والحقيقة أن ما من خطر أكبر على المجتمعات من الطائفية.. فهي البنية التي تستطيع أن تستقطب أكثر مناطق الوعي انغلاقا وتمارس تأثيرا مخربا للوجدان، وهذا ما يجعل منها عصبية مركبة قادرة على تكسير كل تمثيل وطني للدولة، كونها أعلى درجات التعصب وأكثرها تهديدا للنسيج الاجتماعي. والحل سياسات ثقافية تحيي الحوار وتضبط الزمن الاجتماعي وتحفظه من التوظيف السلبي للذاكرة التاريخية.

إن الذي يشغلنا حقا ونحن نرنو إلى واقع عربي أكثر نضجا في مواجهة نفسه، أن تطور المؤسسات البحثية أدواتها وهي إذ تفعل ذلك تقدم الفائدة المطلوبة من عملها، ونحن نؤمن إيمانا ثقيلا بأن جملة مشاكل الواقع العربي لا تعود إلى هيمنة البنى التقليدية فيه بقدر عجزنا عن فهم أسباب استقرارها رغم الادعاء بحالات من التقدم في الظاهرة الاجتماعية ككل، إننا نرنو إلى سيسيولوجيا عربية فاعلة وقادرة على بناء مجتمعات عربية متماسكة وقادرة على تمدين حاضرها بالصورة التي تحفظ لهذه الأمة كيانها وتحقق لمجتمعاتها الاستقرار وتحصنها من التفكك، وتطرح في شرايينها دماء من وعي نافذ ومبصر للتحديات.. وأولى شروط هذا الوعي هي تمتين الانتماء وتحصين الفرد الاجتماعي من التخريب.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الواقع

إقرأ أيضاً:

مستشار المفتي: مبادرات ندوة الإفتاء نقلة نوعية في أدوات العمل الإفتائي

تعقد دار الإفتاء المصرية، الندوة الدولية الثانية للأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، والمقرر عقدها يومَي الإثنين والثلاثاء 15–16 ديسمبر 2025 بالقاهرة، وذلك برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية، وتحمل عنوان: «الفتوى وقضايا الواقع الإنساني: نحو اجتهاد رشيد يواكب التحديات المعاصرة».

خطاب ديني رشيد 

وأوضح الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن انعقاد هذه الندوة يأتي في توقيت بالغ الأهمية؛ نظرًا لتصاعد التحديات العالمية وتزايد الحاجة إلى خطاب ديني رشيد قادر على التعامل مع تعقيدات الواقع الإنساني، قائلًا "إن الندوة الدولية تمثل منصة علمية كبرى تجمع نخبة من كبار العلماء والمفتين والباحثين من مختلف دول العالم الإسلامي، لمناقشة قضايا تمس حياة الناس مباشرة، وإبراز دور الفتوى في خدمة الإنسانية وتحقيق السلم المجتمعي".

حكم الدعاء بقول: «اللهم بحق نبيك» .. يسري جبر يوضحدعاء الشفاء .. 10 كلمات لمن أصابه تعب أو ألم في جسده

موضوعات الندوة 

وأكد المفتي أن موضوعات الندوة ستتناول محاور وثيقة الصِّلة باحتياجات المجتمعات، مثل: الفقر والصحة والأمية والغزو الثقافي والقضية الفلسطينية والانحراف السلوكي، إضافة إلى ملفات بناء الإنسان والتنمية المستدامة، موضحًا: "نحن نعمل على تطوير اجتهاد شرعي مؤسسي قادر على الاستجابة لمتغيرات العصر، وترسيخ منهج وسطي يحقق مقاصد الشريعة ويحفظ كرامة الإنسان".

إطلاق عدد من المبادرات الدولية

وأضاف مفتي الجمهورية، أن الندوة ستشهد إطلاق عدد من المبادرات الدولية والمشروعات التطبيقية، من بينها: "ميثاق الفتوى والكرامة الإنسانية"، و"مدونة المعايير الإفتائية للتنمية المستدامة"، و"منصة الفتوى من أجل الإنسانية"، مؤكدًا أن هذه المبادرات تأتي "ضمن رؤية استراتيجية تهدف إلى تحويل العمل الإفتائي من مجرد إصدار للفتاوى إلى منظومة متكاملة من التأثير المجتمعي، تقوم على البحث العلمي والقياس الموضوعي للأثر".

وأشار إلى أهمية تعزيز التعاون بين دُور وهيئات الإفتاء في العالم من أجل بناء شبكة دولية موحدة لمواجهة الفتاوى المتشددة والشاذة، مؤكدًا: "إننا ماضون في ترسيخ العمل الإفتائي المؤسسي القائم على المنهج الوسطي الأزهري، وبناء قدرات العلماء والمفتين، من أجل حماية الوعي العام ومنع الفوضى الفكرية التي تهدد استقرار المجتمعات".

تطوير العمل الإفتائي

واختتم المفتي تصريحاته بالتأكيد على أن الندوة الدولية الثانية ستكون محطة فارقة في مسيرة تطوير العمل الإفتائي عالميًّا، مضيفًا: "إننا نطمح إلى دفع العمل الإفتائي نحو آفاق أرحب، والانطلاق من مصر إلى العالم برسالة تجمع بين العلم والرحمة، وبين الاجتهاد والانضباط، بما يخدم الإنسان في كل مكان".

حدث عالمي 

وفي السياق ذاته، أكد الدكتور إبراهيم نجم، الأمين العام لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أن الندوة الدولية الثانية تأتي امتدادًا لنجاح النسخة الأولى وتعكس المكانة الدولية التي وصلت إليها دار الإفتاء المصرية باعتبارها مركزًا دوليًّا لصناعة الوعي الإفتائي الرشيد، قائلًا "نحن أمام حدث عالمي يجمع خبراء ومؤسسات إفتائية من مختلف دول العالم لوضع رؤية مشتركة للعمل الإفتائي في مواجهة تحديات العصر".

الفتاوى المبتسرة 

وأشار د. نجم إلى أن اختيار عنوان الندوة يعكس رؤية تربط بين الاجتهاد الشرعي ومتطلبات الواقع الإنساني، موضحًا أن العالم يشهد تحولات سريعة تتطلب خطابًا إفتائيًّا رصينًا يعتمد على البحث العميق ويبتعد عن الفتاوى المبتسرة التي تزيد من مشكلات المجتمع.


وأوضح أن المبادرات التي ستطلق خلال الندوة تمثل نقلة نوعية في أدوات العمل الإفتائي، وستسهم في تعزيز وصول الخطاب الإفتائي الوسطي الرشيد إلى الناس في كل مكان.

طباعة شارك دار الإفتاء الندوة الدولية الثانية الفتوى وقضايا الواقع الإنساني الفتوى قضايا الواقع الإنساني الدكتور إبراهيم نجم

مقالات مشابهة

  • محمد شبانة مهاجما مجلس الزمالك: بيان النيابة خطير والنادي في مأزق تاريخي
  • د. محمد بشاري يكتب: الفتوى وسؤال الإنسان .. نحو بيان يستوعب الواقع ولا يضيع المقصد
  • مستشار المفتي: مبادرات ندوة الإفتاء نقلة نوعية في أدوات العمل الإفتائي
  • تغريدة لليهود.. رئيس وزراء بريطانيا "في مأزق" بعد هجوم سيدني
  • الشرع لأبناء الساحل: العبث بالورقة الطائفية خطر على وحدتنا
  • فلنغير العيون التي ترى الواقع
  • من الطرق إلى المرافق.. تحركات أرض الواقع لتعزيز كفاءة خدمات العبور الجديدة
  • رئيس شركة الصرف الصحي يشارك في افتتاح ملتقى التوظيف بنقابة المهندسين بالإسكندرية
  • المنتخب الوطني ينهي الشوط الأول بالتعادل السلبي أمام الإمارات في كأس العرب
  • إقبال دبلوماسي كثيف نحو السودان.. كيف يمكن أن تتم ترجمة نتائجه على أرض الواقع