الحرب في السودان: مسار السلام، التعقيدات والتحديات
تاريخ النشر: 27th, December 2024 GMT
بروفيسور: حسن بشير محمد نور
منذ استقلال السودان في مطلع يناير 1956 يحلم السودانيون بالسلام وقد تمت عدة مبادرات واتفاقيات كان من ضمنها مؤتمر المائدة المستديرة في مارس 1965 بعد ثورة اكتوبر 1964، الا ان ذلك المؤتمر لم يكتب له النجاح. استمرت الحرب الاهلية التي اشتعلت في العام 1955، واستمرت في التصاعد خلال حكم الفريق ابراهيم عبود.
توصل نظام نميري لاتفاقية أديس أبابا في عام 1973 مع حركة "أنانيا"، التي حققت هدنة طويلة للحرب استمرت لعشرة سنوات، وهي الفترة الاطول التي يمكن القول بان السودان قد نعم فيها (بالسلام). وباعتبار السودان نموذجًا معقدًا في إدارة السلام بسبب تاريخه الطويل من الصراعات المسلحة وتنوع مكوناته الاجتماعية والسياسية، فقد شهدت مسيرة السلام تعقيدات حولتها من حلم لمعضلة شائكة حتي تحولت لسراب بعد اشتعال حرب ابريل 2023م.
مرت تلك المسيرة بمراحل متعددة كانت اتفاقية اديس ابابا أول محاولة جادة لإنهاء الحرب الأهلية الأولى (1955-1972) بين الشمال والجنوب، وتم التوصل إليها بعد سنوات من الصراع، وبالرغم من تحقيقها بعض النجاحات مثل منح الحكم الذاتي للجنوب، إلا أن نكوص حكومة نميري عن الالتزام بالتنفيذ الكامل للاتفاقية أدى إلى تجدد الصراع في عام 1983 بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الراحل جون قرنق.
بعد سقوط نظام نميري بانتفاضة شعبية في ابريل 1985 تم انتخاب حكومة مدنية برئاسة السيد الصادق المهدي. خلال تلك الفترة (1986 – 1989) حاولت الحكومه معالجة قضايا الحرب عبر الحوار مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق. لكن هذه الجهود تعثرت بسبب عدم التوافق بين الأحزاب السياسية والقوى المسلحة، خاصة الخلاف حول قوانين 1983 التي سميت بقوانين (الشريعة الاسلامية) وبعض الاتفاقيات العسكرية مع دول الجوار.
بالرغم من تلك الخلافات تمت بعض المحاولات فضلاً عن الضغوط الإقليمية والدولية، فقد تم اعلان كوكادام في العام 1986 بين قوى سياسية سودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، الا ان ذلك الاعلان لم يحقق اختراقا عمليا. جاءت بعد ذلك محاولة جادة من السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي فيما عرف (بمبادرة السلام السودانية). تم الاتفاق في تلك المبادرة علي وحدة السودان، تجميد قوانين سبتمبر 1983 وترتيبات سياسية، الا ان السيد الصادق لم يوافق علي ما تم الاتفاق عليه، الي ان قطع انقلاب الحركة الاسلامية في يونيو 1989، عبر الجيش السوداني بقيادة عمر البشيرالطريق في وجه السلام، بحكم طبيعة الحركات الاسلامية غير القادرة علي العيش والازدهار الا في البيئات القذرة.ٍ.
الحرب الاهلية في عهد حكومة الانقاذ الاسلامية لم تشتد فحسب بل تحولت لحرب دينية مشحونة بشعارات التطرف والكراهية. بعد ان تم حشد المجتمع الدولي لقواه ضد تلك الحرب بشعاراتها مثل (امريكا روسيا قد دنا عذابها)، ضاق الخناق علي نظام الانقاذ سياسيا واقتصاديا مما اضطره لتوقيع اتفاقية السلام الشامل في العام 2005 مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. أدت هذه الاتفاقية إلى إنهاء الحرب الأهلية الثانية، لكنها مهدت لانفصال جنوب السودان في العام 2011، بسبب عدم حل جذور الأزمة المتعلقة بالهوية والموارد ونظام الحكم، وبسبب فقدان الحركة الشعبية لزعيمها التاريخي جون قرنق المؤيد للحدة، في تحطم طائرة غامض اثناء عودته من اجتماع محضور دوليا في العاصمة اليوغندية كمبالا. في ذلك الوقت روجت الماكنة الاعلامية للاساميين بان مشكلة الحرب قد انتهت وان السودان اصبح متجانسا بحكم الدين واللغة بعد التخلص من الجنوب (المختلف)، ذلك بالطبع حسب ايدلوجيتهم ومشروعهم الذي اسموه (الحضاري)، مع ان السودان لن يكون متجانسا حتي اذا اصبح سكانه يساوون ما يملأ غرفة واحدة.
بالطبع معضلات السلام لم تنتهي عند ذلك الحد، فقد اشتعلت حربا ليس اقل ضراوة في دارفور في العام 2003 وقد استمرت تلك الحرب الي حين اكتمالها بشكل مأساوي لتعم جميع انحاء السودان في ابريل 2023.
بعد سقوط نظام البشير في العام 2019 بثورة شعبية نادرة من نوعها من ناحية شمولها الجغرافي والاجتماعي والتوافق حولها، قبل ان يتم اجهاضها بعوامل داخلية وخارجية متشابكة. بعد سقوط نظام البشير جاءت الحكومة الانتقالية التي تشكلت بمخاض عسير في اغسطس 2019، بما سمي (باتفاقية جوبا للسلام) مع عدد من الحركات المسلحة المسماة بحركات (الكفاح المسلح). ورغم أنها هدفت لتحقيق سلام شامل، إلا أنها لم تشمل جميع الأطراف الفاعلة في النزاع، مما جعل الاتفاقية عرضة للانهيا، وبسبب الضعف البنيوي والجماهيري لمكوناتها لم تجد حلا غير الانضمام للمكون العسكري المكون من القوات العسكرية والامنية وقوات الدعم السريع في عرقلة مسار التحول الديمقراطي، ومضت ابعد من ذلك بالانحياز لانقلاب 25 اكتوبر 2021 ومن ثم مشاركة اطرافها التي تبقت بعد الانقسامات في الحرب مع الجيش السوداني.
عند حدوث انقلاب 25 أكتوبر 2021 بقيادة الجيش والدعم السريع، والذي كان المقدمة الاساسية لاشتعال الحرب في ابريل 2023، ازداد تعمق الأزمة السياسية، وحدثت انقسامات واسعة بين المكونات المدنية والعسكرية. الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع كشفت عن تعقيدات جديدة، حيث انخرطت فيها أطراف داخلية وخارجية ذات أجندات متعارضة، بما في ذلك مليشيات إسلامية وقبلية وقوات أجنبية.
بعد الحرب اصبحت معضلة السلام اشد تعقيدا لعدة اسباب منها:
- تعدد الأطراف المتصارعة: من طرفي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ومن معهما من المليشيات القبلية والإسلامية، مما يصعب الوصول إلى توافق شامل.
- التدخلات الخارجية: اذ ان هناك جهات دولية واسعة المعلومات تؤكد دعم أطراف إقليمية ودولية لأحد الجانبين، كان اخرهم وزير الخارجية الامريكية بلينكن من منصة مجلس الامن الدولي، يزيد ذلك من تعقيد المشهد.
- تباين العقائد الأيديولوجية والمصالح الاقتصادية بوجود أطراف ذات توجهات متناقضة سواء دينية، سياسية، أو اقتصادية، واخري قبلية تسعى لتحقيق مكاسب من الحرب.
كل ذلك يشكل عقبات عظمى امام تحقيق السلام لاسباب منها:
- غياب الثقة بين الأطراف المتصارعة بحكم التاريخ الطويل من النقض المتبادل للعهود وللاتفاقيات مما يعيق أي حوار جاد للوصول لحل صلب.
- ضعف مؤسسات الدولة يجعلها عاجزة عن تنفيذ الاتفاقيات ومراقبة الالتزام بها.
- تدهور الاوضاع الإنسانية والاقتصادية ودمار البنية التحتية يجعل السلام ضرورة ملحة لكنه صعب التحقيق، بسبب عجز الكثير من المكونات السياسية والاجتماعية من الانخراط بشكل فعال في المشاركة وصنع القرار لاسباب ذاتية وللتضييق الامني من اطراف الحرب، كما ان الوضع الاقتصادي لملايين النازحين واللاجئين يجعلهم في كفاح يومي من اجل البقاء ويحد من أي نشاط مجدي لهم.
يخلق كل ذلك تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة ليس اقلها:
- ان استمرار الصراع يؤدي إلى عزلة دولية وعدم استقرار داخلي ويجعل النظام السياسي هشا وفاقد للثقة.
- هروب الاستثمارات الوطنية والاجنبية وعزوف رؤوس الاموال عن التوظيف في الاقتصاد يؤدي لارتفاع معدلات الفقر والبطالة والبحث عن الهجرة الي الخارج كملاذ مصيري.
- من النواحي الاجتماعياً والديمغرافياً تفاقم الحرب النزوح الداخلي والانقسامات العرقية والقبلية، اضافة لتفشي خطاب الكراهية والاستهداف العرقي والجنساني.
تحقيق السلام يمرعبر طرق شائكة تتطلب حوار شامل تنخرط فيه جميع الأطراف الفاعلة دون استثناء وهذا يبدو امرا صعب التحقيق. كما يتطلب التزام دولي وإقليمي يدعم عملية السلام وضمان تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وهو موضوع مكلف نسبة لتعقيدات الاوضاع في السودان واتساع رقعة النزاع. مع الاخذ في الاعتبار ان تحقيق السلام يحتاج لرتق النسيج الاجتماعي، اعادة الاعمار وإصلاح المؤسسات بما يحقق بناء مؤسسات وطنية قوية قادرة على تحقيق العدالة والتنمية، وهذا شرط وجودي لمستقبل أي سلام في السودان.
اذن معالجة جذورالازمة، الذي يعتبر شرطا وليا لتحقيق السلام، يتطلب التركيز على قضايا مثل الهوية، التنمية، قسمة وتوزيع الموارد، بذلك نجد ان تحقيق سلام مستدام في السودان يمر بطريق طويل يحتاج الكثير من العمل، اضافة لمشروع وطني متوافق عليه وهذا يحتاج بدوره لإرادة سياسية قوية وفاعلة من جميع المكونات السودانية، يعتبر ذلك هو الطريق الممهد للوصول الي ورؤية شاملة لتحقيق السلام ولمستقبل البلاد، تأخذ تلك الرؤية في الاعتبار تعقيدات المشهد الحالي والتحديات التاريخية وتصطحب الوقائع الموضوعية المتشابكة علي المستوى الاقليمي والدولي، بدلا عن التوهان وانعدام الرؤية الحالي وعقلية (دبلوماسية الحرد) التي تتبعها سلطات الامر الواقع.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحرکة الشعبیة تحقیق السلام السودان فی فی السودان فی العام بعد سقوط
إقرأ أيضاً:
خبير عسكري: انسحاب الجيش السوداني من هجليج يعني الاستعداد لهجوم مضاد
قال الخبير العسكري والإستراتيجي العميد إلياس حنا إن المعارك في السودان تدور اليوم على المراكز الإقليمية الخاصة، بعد سقوط الفاشر (عاصمة ولاية شمال دارفور) وبابنوسة (غرب كردفان) بيد قوات الدعم السريع، مؤكدا أن الهدف هو السيطرة على ولاية النيل الأبيض لفصل شرق السودان عن غربه.
وفي تعليقه على إعلان الجيش السوداني أنه انسحب تكتيكيا من هجليج بغرب كردفان بالمعدات والآليات إلى دولة جنوب السودان، أوضح العميد حنا أن الانسحاب التكتيكي يعني أيضا الاستعداد عسكريا للهجوم المضاد في مرحلة لاحقة.
وكان مصدر في الجيش السوداني قال للجزيرة إن الجيش انسحب من حقل هجليج لتجنيب حقول النفط الخراب والتدمير. كما ذكرت مصادر عسكرية للجزيرة أن القوة المنسحبة من بابنوسة وهجليج سيتم ترحيلها إلى ولاية النيل الأبيض المحاذية لدولة جنوب السودان.
ووصف منطقة هجليج بالمهمة لكونها غنية بثروة نفطية وفيها الذهب أيضا، ولأنها تفتح الباب باتجاه كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان، ما يعني أن قوات الدعم السريع تسعى للسيطرة على العائدات وعلى مساحات واسعة من الأراضي.
وقال الخبير العسكري والإستراتيجي -في تحليله للمشهد العسكري بالسودان- إن الجيش السوداني يقاتل بطريقة تقليدية، في حين يقاتل الدعم السريع على طريقة العصابات والمليشيات.
مرتزقةمن جهة أخرى، يرى الخبير العسكري والإستراتيجي العميد إلياس حنا أن مشاركة المرتزقة القادمين من كولومبيا في القتال بالسودان ليس بالأمر الجديد، فقد ساهم هؤلاء في سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع.
واعتبر حنا أن هؤلاء المرتزقة يأتون كخبراء ولديهم خبرة قتالية خاصة في قتال العصابات وقتال المدن.
وفرضت الولايات المتحدة -اليوم الثلاثاء- عقوبات على جهات اتهمتها بتأجيج الحرب في السودان، مستهدفة ما وصفتها بشبكة عابرة للحدود تُجند عسكريين كولومبيين سابقين وتدرب جنودا بينهم أطفال للقتال في صفوف قوات الدعم السريع.
إعلانوذكرت وزارة الخزانة الأميركية -في بيان- أنها فرضت عقوبات على 4 أفراد و4 كيانات ضمن الشبكة، التي قالت إنها تتألف في معظمها من مواطنين وشركات كولومبية.